السيدات المسنات الداخلات والخارجات من أبنية شارع الجميزة صباحاً وحتى ساعات الظهيرة، يظهرن كأنهن علامات الشارع الأولى. فكثر من ابناء الشارع يقولون انه شارع المسنين الذين سكنوه شباباً وتركه ابناؤهم بعدما كبروا الى أحياء اخرى من بيروت فيما بقي الأهل في منازلهم العتيقة والمستأجرة من اصحاب الابنية الذين لا يقيم معظمهم في الحي. ويبدو هذا القدر أي بقاء الأهل ومغادرة الاولاد، صيغة في الحياة لا تنتمي الى الزمن اللبناني الراهن. انها صيغة أهدأ من التحولات العاصفة التي يحدثها تقدّم الأهل بالعمر وحاجة ابنائهم الى تأسيس عائلات جديدة غالباً ما تكون على انقاض حياة الأهل، ومنازلهم وأعمالهم. ربما كانت الجميزة مستثناة من هذه التحولات بسبب رسوخ العائلات التي أقامت فيها قديماً، في مهن وأذواق وتقاليد، جعلها اكثر ثباتاً وانتظاماً. فشارع الجميزة على زاوية مثلث، رأساه الآخران منطقتا الاشرفية والوسط التجاري، وقد جرى التحوّل فيهما سريعاً وكابوسياً، اما هو فلم يحتفظ فقط بعماراته القديمة، وإنما ايضاً باناسه القدامى. ومحاله ومتاجره القديمة، وفي الوقت الذي تحولت فيه مطاعم الاشرفية الى فروع لشركات مطاعم عالمية، وازدحمت في احيائها انواع مختلفة من ال"كافيه" ومحال ال"فاست فود"، ما زال ال"لا شيف" في الجميزة نجم الشارع وعلامته، من غير ان يشتكي السكان من تقادم معرفة المتر ابو الياس بأصول الضيافة الحديثة. وفي وقت حولت شركة سوليدير مقاهي موقف صيدا الشعبية التي كانت تكتظ بأنواع من البشر، الى قطعة ارض لا تتجاوز مساحتها الألفي متر مربع، ثم الى موقف سيارات، ما زال مقهى الجميزة الشعبي أو مقهى "اسطى باز" عامراً، ولكن ليس بكائنات هذا الزمن وانما بوجوه قد يعجب المرء من سر احتفاظها بعادة نزولها الى المقهى. الرجال في مقهى "اسطى باز" ليسوا من الجميزة فقط، وانما هم أنفسهم من كانوا يرتادونها في الماضي، ولعل بعضهم انتقل اليها بعدما أزيلت مقاهي موقف صيدا. ولكن التساؤل الذي يحضر العابر ببطىء من أمام المقهى هو، أين يقيم هؤلاء، ومن أين أتوا قاصدين المقهى، فهم في السابق كانوا خليطاً واضحاً ومفهوماً من البقالين والحمالين وصغار المستخدمين الذين يعملون أو يقيمون في الوسط التجاري. رواد المقهى اليوم هم أنفسهم رواده في الماضي، ولكن سكنهم وأعمالهم لم تعد قريبة اليه كما في الماضي. الجميزة هي المقابل المسيحي، لمنطقة البسطة الاسلامية، على هذا الامر يجمع كثيرون من سكانها اليوم وهم عندما يرددون ان بيروت كانت في السابق عبارة عن منطقتي البسطة والجميزة فقط، إنما يدلون ايضاً على ما آلت اليه الامور في كلتا المنطقتين، علماً ان مصيرهما كان مختلفاً وإن كانت النتيجة واحدة وهي خفوت جذوتهما. لا شيء في السجلات الرسمية لبلدية بيروت اسمه شارع الجميزة، انه شارع غورو ذلك الذي يمتد من سينما أمبير وصولاً الى شركة الكهرباء. والجميزة هو الاسم الشعبي السائد له. ويقول جوزيف 55 عاماً الذي طالما قصده ووقف ساعات تحت شرفات منازله العتيقة، ان اول ما يتبادر الى ذهنه عند ذكر اسم الشارع أمامه، هو هذا العدد من النساء العوانس اللواتي يقمن فيه. فالى هذا الشارع وفدت الحداثة مبكرة، وتمتعت نساؤه بقدر من الحرية جعلهن كما يقول جوزيف أكثر رغبة في امتلاك زمام أمورهن، فرحن يرفضن فرص الزواج المتاحة. وجوزيف الذي يبدو انه كان ضحية رفض من هذا النوع يذكر ايضاً مجلة "لا روفو دو ليبان" التي لم تكن تفارق أيدي هؤلاء النسوة. معظم نساء الشارع اليوم عجائز، ولكن تقدمهن في العمر لم يمنعهن من ارتداء الثياب الملونة. وتلك التي تحفظ لهن امتيازهن عن نساء زمنهن في احياء الطبقة المتوسطة القديمة في بيروت. انهن يتحدثن الفرنسية، ويشارعن السائق بحذاقة غير مألوفة لدى مجايلاتهن، ويعبرن من أمام المحال خفيفات ومتأهبات لمصادفات الشارع. والجميزة ما زالت محتفظة بنظام من الاشياء، ومن الإلفة لم تعد متوافرة في غيرها. هناك مثلاً حمالة الحي، أي أولئك الذين قدموا اليه عمالاً لدى متاجره وسكانه، حيث يقومون بايصال الخضار الى المنازل والطلبات الى الزبائن جاءوا اليه منذ اكثر من 50 عاماً، وما زال يعمل فيه الى اليوم ممن بقي منهم حياً. معظمهم جنوبيون ويحفظ لهم ابناء الشارع مودة يباهون فيها، ويقيسون بها مدى تقبلهم الآخر وانفتاحهم عليه. تتناقص اعداد هؤلاء الحمالين مع وفاة أي واحد منهم، إذ يبدو ان الشارع لم يعد متقبلاً لآخرين مكانهم. كأنهم جاءوا الى الشارع يوم كن هذا الاخير مستعداً لقبول ابناء له من مناطق اخرى، اما اليوم فأقفل الشارع باب الانتماء اليه، ومن يموت لا يقبل أحد مكانه. ويقول الحاج علي يونس 75 عاماً عندما جئنا الى هذا الشارع كنا نحو 36 شخصاً، جميعنا من الجنوب، ولم يبق اليوم منا احياء سوى خمسة. والحاج علي الذي ما زال يعمل لدى التجار والسكان على السواء، ويعرفه الجميع ويمازحونه ويمازحهم، لم ينقطع عن الشارع في ذروة الحروب، اذ هو يقيم في منطقة زقاق البلاط، وكان يضطر لكي يعبر الى المناطق الشرقية من بيروت الى الوقوف ساعات طويلة على المعابر والحواجز. الموت وحده هو من يأخذ سكان الحي وينقلهم منه. صحيح ان القادمين والساكنين الجدد قليلون، ولكن المغادرين قليلون ايضاً، ولهذا يبدو الشارع على هيئته السابقة، بمبانيه الاوروبية الطراز، وتجاره الذين تبدو اعمالهم أقرب الى البقالة منها الى التجارة بمعانيها الحديثة، كما بوظائفه وأدواره. من يقصد مطعم "لو شيف" هم أولئك الذين ما زالوا محتفظين بملامح زمن ازدهار الشارع، أو من يرغب في رحلة سياحية الى زمن مضى، فيجلس الكتائبي العتيق جوزيف ابو خليل الى جانب طاولة المهندس الفرنسي في شركة سوليدير، وتأتي السائحة الاميركية لتلتقط صورة لهؤلاء الرواد ولتذكرهم ان ما يقومون به هو رحلة سياحية صغيرة، وان الحياة الحقيقية الراهنة يجب ان تعاش خارج هذا الايقاع وهذا الشارع. وعندما يخرج ايلي من محله الى الشارع ويروي بصوتٍ عالٍ مقدار محبته لعلي يونس، يشعر من يستمع اليه ان لا مكان لهذا الكلام الآن، ولا قيمة له، وهو ان توخى من ترديده، تأكيد مودة، فالمودة في زمننا هذا لا يمكن تعريفها الا بين الشخصين نفسيهما. ولكن التوسل بهذا الخطاب، كان جزءاً من وظيفة الشارع القديمة والعتيقة. فهل تستقيم بالحنين وحده حياة وتستمر؟.