يذكر مؤتمر حوار الأديان والثقافات الذي عقد قبل أيام في مقر الأممالمتحدة في نيويورك، بمساهمات مفكرين عرب وأجانب في هذا المجال، ومنهم أمين الريحاني. موضوعا الدين والحرية كانا محور اهتمام أمين الريحاني 1867 - 1940، وهما يطلان بوضوح بارز من أعماله باللغتين العربية والانكليزية. واتخذ الريحاني من أبي العلاء المعرّي أستاذاً له. فالمعري من بين الذين استحوذ على اهتمامهم موضوعا غاية الحرية وحقيقة الدين. واذا كان الاهتمام في هذا المقال يتركز على موضوع الدين، لكننا لا نتناسى مسألة حرية الضمير، وقد لا يكون هناك اليوم أنسب من هذين الموضوعين وأجدر بالبحث. كتب جاكوب آيزاكس في كتابه الصادر عام 1951 في عنوان"تقويم لأدب القرن العشرين":"يعرف أي عصر من العصور بألفاظ وعبارات خاصة سواء كانت تمثل تجسيداً حقيقياً لذلك العصر أم مجرد نسج من الخيال. فقد اهتم القرن السابع عشر، مثلاً، بكلمة"العقلانية"، والقرن الثامن عشر بكلمة"الطبيعية"، أما اهتمامنا في القرن العشرين فقد تلخص في عبارة واحدة هي"المأزق الإنساني". هذه العبارة تشير الى ما يشغل بالنا وما يتكرر في حديثنا عن الإحباط والارتباك والتفسخ وسوء التكيف، إضافة الى عمق ما تحس به من مشاعر القسوة والعنف، وما يسودنا من مشاعر الحيرة والقلق، وفي خلفية كل ذلك شعور بالذنب والخطيئة والمهانة واليأس، وليس الإيمان والأمل والمحبة أبداً". وفي غمرة هذه الأحوال المضطربة برزت مجموعة من المهاجرين العرب الى الولاياتالمتحدة، بعضهم من السوريين، وغالبيتهم من اللبنانيين، فرضوا تأثيرهم القوي على النهضة الثقافية العربية، وعلى التقارب الديني والتبادل الثقافي بين الغرب والعالم العربي. ومن بين هذه المجموعة أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة الذين كانوا بمنزله السفراء الثقافيين بين الشرق والغرب عندما كانت موجة التحديث تجتاح العالم العربي نتيجة اكتشاف ثروته النفطية، وفي الوقت الذي كانت تبرز أميركا كعملاق للنشاط الاقتصادي والتقدم المادي. ومن أهم المواضيع التي عني بها أمين الريحاني الوئام بين أديان العالم. فخاض في هذا الموضوع مرة بعد أخرى، وكرره في أعماله كما في كتابه"جادة الرؤية"، وروايته"كتاب خالد"، وغير ذلك من مقالاته ومحاضراته عن"التطرف"و"التساهل الديني"و"إصلاح الأمة"، وخطابه في حفلة التخرج في الجامعة الوطنية في عاليه - لبنان عام 1922. وكانت من النتائج الملازمة لمبدأ الانسجام بين الأديان النظرة المتعمقة التي طالما عبّر عنها الريحاني، وهي أن أي صراع بين الأديان انما هو حصيلة فساد أو فقدان تفاهم بين قادة المؤسسات الرسمية. استمد الريحاني أفكاره من موقع لبنان كمفترق طرق تاريخي ونقطة التقاء جغرافي بين الاسلام والمسيحية. وتأثر بما شهده من التآلف بين الأديان في لبنان، وأدرك ان هذا التآلف حطمته القوى السياسية الخارجية وقضت عليه في بعض الأحيان. وعلى رغم ان الريحاني ولد مسيحياً مارونياً، لم يجد صعوبة في الاعتراف بأن محمداً رسول من عند الله، وبأن القرآن كتاب مقدس. فقد آمن بأن الأديان سبل تؤدي بالإنسان الى الوعي بالألوهية. كان الريحاني طليعياً في الدعوة الى تفاهم الأديان، وعبّر عن تلك الفكرة المهاتما غاندي 1869 - 1948 الذي قال إنه"لن يكون سلام دائم على الارض ما لم نتعلم ليس مجرد التسامح التساهل مع الأديان الأخرى فحسب، بل حتى احترامها وكأنها أدياننا". ورأى الريحاني ان التعصب القائم على عدم التساهل الديني هو أكبر العقبات في طريق تقدم العالم العربي. وقرأ الريحاني في تاريخ لبنان أخطار التحزب والطائفية، فوجّه الازدراء لأولئك الذين يستغلون الشعور الديني لأغراض دنيوية. وكتب في ذلك يقول على لسان"أبي طنوس": "ما أبعد أمثالكم عنها. أمثالكم مثل الطعم تضعونه في الصنارة لتصطادونا نحن الاسماك في بحر المجتمع الانساني. تبشرون بالقناعة وتجمعون في أكياسكم المال. تنهون عن الشر وقلما تعملون عملاً مجرداً من الغايات الشخصية الخبيثة. تأمرون بالتقشف، ورئيسكم لا يأكل غير الطيور. تبشرون بالمحبة وتدسون الدسائس بعضكم لبعض طعماً بالمناصب والألقاب. تعلموننا الطاعة والخنوع، ونحن نعلمكم كيف يكون الانصاف مع المساواة". وتتردد في"كتاب خالد"للريحاني أصداء التألف الإنساني الذي وجد ايضاً طريقه الى التعبير في كتاب"مرداد"لميخائيل نعيمة وكتاب"النبي"لجبران خليل جبران. ومع أن جبران حقق شهرةً أوسع عن طريق شعره وأدبه، فقد ظلّ ينظر إلى الريحاني الذي كان يكبره بسبع سنوات كأخٍ أكبر. وكان الريحاني مفكراً أكثر ممّا كان شاعراً. كان رجل عصره. ألّف وكتب وسافر متنقلاً في أميركا والعالم العربي، فتحدّى قرّاءه أن يعوا تماماً ما تعد به الحداثة من فوائد وأن يدركوا في الوقت نفسه ما يحمله العصر الحديث من الأخطار والنوائب. وعن هذا التجاذب بين حياة الفكر والروح والحياة الدنيويّة كتب يقول: "إن السير في الشوارع يذكر الإنسان بالإنسان، أمّا السّير في الوادي أو الغاب، فيذكّر السّائر بالخالق العظيم. الأوّل يدعو إلى العمل، والثاني إلى التفكير والتأمّل. في الأوّل بعض اللذة التي يتبعها الإعياء والقنوط، وفي الثاني نوع من اللذة التي يتبعها النشاط والعزم وحسن المآل". استطاع الريحاني مثلما استطاع نفرٌ قليلٌ من قبله أن يجمع في ذاته حسّاً وفهماً عميقين لعالمين متباعدين مختلفين كل الاختلاف. فخاطب أميركا بلغة الإطراء والتعنيف على السواء. وإذ امتدح حيويّة شبابها ونشاط أهلها العملي والوعد بحرّيتها السياسيّة وتقدمها العلمي لم ينس ان يحذر من أخطار الإفراط في المادّية والفساد السياسي وعدم الإنصاف الاجتماعيّ. ووازن حماسته للإصلاح العصري بإدراك عميق للحاجة إلى قيم روحيّة ترشد التحوّل الاجتماعي وتشكله. فدعا الغرب في كتاباته بالإنكليزية إلى اكتشاف تراث الشرق الروحي وتفهّمه، ضارباً المثل بموطنه لبنان كمجتمع متعدد الثقافات، حيث تتجسّد القيم التقليديّة الدائمة لكل الطوائف والأديان. أمّا كتاباته العربية من الناحية الأخرى، فقد انصبّت حول مواضيع التحديث والعصرنة. وحذر العرب بشكل خاص من السماح للمادّية بإغرائهم والابتعاد بهم عن الجوهر الخلقي والمعنوي لثقافتهم وتقاليدهم. وفي الوقت الذي حذّر العرب من خطر ضيق الأفق والتعصّب نبّههم إلى ضرورة تشكيل مجتمعات تعدّديّة منفتحة لا مكان فيها للتعصّب الديني أو العرقي. وكتب في هذا المجال: "إنّكم، وإن استغوتكم السياسة واستهوتكم الأحزاب، لمن وطن واحد حسناته ذكاء أبنائه، ورأس آفاته تفرّد أبنائه. أريد بالتفرّد النزوع إلى التفريق، أو بالحري إلى العصبية، قوميّة كانت أم طائفيّة، جبلية كانت أم إقليميّة... ما زالت النعرات الطائفيّة حيّة فينا قويّة، ظاهرة كانت أم خفيّة. وهذه في نظري علّة العلل. فلا الوصاية ولا الاحتلال، ولا الضمّ ولا الانفصال، ولا الحرّية والاستقلال، كبير نفع اليوم إذا كنّا لا ننهض على النزاعات الطائفية والنعرات الدينية فنقتلها وننزع، في الأقل، غدد السمّ منها. ونزع غدد السم هو طرد الطائفية من ميدان السياسة". ودعا الريحاني إلى تقويم متوازن للغرب، وعرّف القارئ العربيّ بالتراث الشعري الأميركي الغني، والرؤية المؤكّدة للروحانيّة التي عبر عنها دعاة المذهب المعروف بالإنكليزيّة بكلمة Transcendentalism والقائل إن الحقائق يمكن أن تعرف عن طريق التفكير المجرّد أو التأمّل، وكان من هؤلاء هنري دافيد ثورو 1817-1862 ورالف والدو إيمرسون 1803-1882 ووالت ويتمان 1802-1848. وتأثّر الريحاني تأثّراً شديداً بكتابين لواشنطن إيرفنغ 1783-1859، الأوّل بعنوان"الحمراء"والثاني بعنوان"حياة محمّد."وجهد الريحاني في تعريف كل من الثقافتين بأفضل وأنبل ما في الأخرى من عناصر مؤملاً في إيجاد نقطة التقاء بينهما واكتشاف القاعدة الروحيّة التي تنتمي إليها كل من الثقافتين. وآمن فعلاً بأن البشريّة تستطيع بهذا الأسلوب مواجهة التحدّيات الروحيّة والماديّة للعصر الحديث. وتناول الآخرون من أبناء المدرسة اللبنانية - الأميركية بإسهاب أيضاً المشاكل التي تنشأ عندما يسيّس الدين ويصبح قوة في تصريف الشؤون العالمية. ولعل أروع إنجازٍ للريحاني أنّه استطاع أن يستهدف بنقده مفسدي الدين، مسيحيّين كانوا أم مسلمين. وفعل ذلك ببراعة وكياسة مبطّنتين، فجاء نقده قويّاً وفاعلاً أكثر ممّا لو كان هجوماً سافراً، وخاطب المسيحيّين والمسلمين باللهجة والأسلوب نفسيهما مطالباً الطرفين بإيجاد الألفة والتفاهم وتقبّل كل منهما الآخر. وكان هذا نهجاً ظاهراً في كل ما كتب الريحاني. وكان الريحاني يؤمن إيماناً صادقاً بالوحدانيّة بكلّ معناها ومغزاها: وحدانيّة الإله، وحدانية الطبيعة، ووحدانيّة الإنسان. وأعلن في وصيته التي كتبها عام 1931: "أوصيكم بالتوحيد. فالدين نظريّاً هو الصلة الحيّة النيّرة بين الإنسان وربّه الأوحد. والدين روحيّاً هو الاستمتاع بما يكشفه الاجتهاد، من دون واسطة البتّة، من مخبئات هذه الصّلة الفريدة الخفيّة. والدين عمليّاً هو أولاً إدراك الحقيقة الإلهية في كل من علّم الناس صفحة، بل حرفاً في كتاب الحب والبر والتقوى. ثم هو الأخذ عنهم والاقتداء بهم، فكراً وقولاً وعملاً، كلّ على قدر طاقته. وما يحمّل الله نفساً فوق طاقتها". أعمال الريحاني ميراثّ غنيّ تركه لنا عربيّ أميركي، وثيق الصلة بحضاراتِ الشرق والغرب، ومفكّر إنساني قدّر هذه اللحظة التاريخيّة حق قدرها. كان إنساناً عمليّاً مهتماً غارقاً في الشؤون الدنيويّة، ناذراً حياته للعمل في سبيل المجتمع المدني الضّامن لحقوق الإنسان كاملة والساعي لتقدّم العالم العربي وازدهاره ضمن المجتمع العالمي. * أستاذ منبر جبران خليل جبران في جامعة ماريلاند الأميركية، رئيس"الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية". أمين الريحاني بالزي العربي نشر في العدد: 16663 ت.م: 17-11-2008 ص: 29 ط: الرياض