أمير الرياض يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات «التقنية» والمعاهد الصناعية الثانوية    مسبار صيني يهبط على القمر    خلال أسبوع.. «مسام» ينتزع 1,406 ألغام وعبوات ناسفة من الأراضي اليمنية    مجلس الوزراء الكويتي يبايع الشيخ صباح خالد الصباح ولياً للعهد ونائباً لأمير البلاد    جهاز HUAWEI MateBook X Pro يتميّز بابتكارات متطورة ومزايا عدّة تجعله الجهاز الرائد ل 2024    وزير الخارجية يصل إلى الكويت في زيارة رسمية    الزعيم يتجلى في الجوهرة    انطلاق بطولة العالم للبلياردو في جدة    إدانة مزور شيكات ب34 مليون ريال منسوبة لجمعية خيرية    دوريات الأمن بمكة تقبض على وافدَين روّجا سندات هدي غير نظامية    «أسبلة المؤسس» شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    تاسي يعود للارتفاع وتراجع سهم أرامكو 2%    أوبك+ تمدد تخفيضات الإنتاج لنهاية 2025    إبراهيم المهيدب يعلن ترشُّحه لرئاسة النصر    وصول الطائرة ال51 لإغاثة غزة    كوريا الجنوبية تتوعد بالرد على بالونات القمامة    المملكة تسجل أقل معدل للعواصف منذ 20 عاماً    إطلاق اسم بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    «إخفاء صدام حسين» يظهر في بجدة    المملكة تحقق أول ميدالية فضية ب"2024 APIO"    «أطلق حواسك».. في رحلة مع اللوحة    فرضية لحالة شجار بين مرتادي مسلخ بمكة    «طريق مكة».. تقنيات إجرائية لراحة الحجيج    حميّة "البحر المتوسط" تُقلِّص وفيات النساء    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    الشورى يناقش مشروعات أنظمة قادمة    سعود بن خالد يتفقد مركز استقبال ضيوف الرحمن بوادي الفرع    الصادرات السعودية توقع مذكرة تفاهم مع منصة علي بابا    أمير عسير يؤكد أهمية دور بنك التنمية الاجتماعية لدعم الاستثمار السياحي    نجوم النهائي يكملون عقد الأخضر    الأهلي السعودي والأهلي المصري يودعان خالد مسعد    إنقاذ مريض تعرض لسكتة دماغية بأبيار الماشي في المدينة    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 36439    د. الردادي: المملكة تضمن سلامة وأمن ضيوف الرحمن وتحدد متطلبات اللقاحات في موسم الحج 1445ه    التخصصي يعالج حالة مستعصية من الورم الأصفر بعد معاناة 26 عاما    التجارة تدعو لتصحيح أوضاع السجلات التجارية المنتهية تجنبا لشطبها    الحزن يخيم على ثانوية السيوطي برحيل «نواف»    الجامعة العربية تطالب المجتمع الدولي بالعمل على إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة    الراجحي يبحث عن الصدارة في بلاد «ميسي»    أمير الشرقية يهنئ رئيس المؤسسة العامة للري بمنصبه الجديد    "فعيل"يفتي الحجاج ب 30 لغة في ميقات المدينة    3109 قرضا تنمويا قدمته البر بالشرقية وحصلت على أفضل وسيط تمويل بالمملكة    الصناعة والثروة المعدنية تعلن تخصيص مجمعين لخام الرمل والحصى في بيشة    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    "الصحة العالمية " تمدد مفاوضات التوصل إلى اتفاقية بشأن الأوبئة    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    كارفخال يشدد على صعوبة تتويج الريال بدوري الأبطال    ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    غرامات وسجن وترحيل.. بدء تطبيق عقوبة «الحج بلا تصريح»    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"كتاب خالد" لامين الريحاني مثالاً . الأدب اللبناني بالإنكليزية ورسالة القرن العشرين
نشر في الحياة يوم 12 - 04 - 2000

لو جاز لي الافتراض لأرّخت للأدب الإنكليزي في العصر الحديث بدءاً من 1903 وهو العام الذي أطلق فيه برنارد شو نظرية "قوة الحياة"، وتشاء الظروف أن يعلن عام 1903 مولد الأدب اللبناني المكتوب باللغة الإنكليزية، فينشر الريحاني 1876 - 1940 ترجمته لمختارات من شعر أبي العلاء المعرّي The Auatrains Of Abul' - Ala' يقدم لها بمقدمة يمكن اعتمادها كإعلان لأهداف المدرسة الأدبية التي أرسى قواعدها في الولايات المتحدة أمين الريحاني وكان أبرز أعلامها وأهمهم شأناً جبران خليل جبران 1883 - 1931، يشاركه في توجيه التيارات الفكرية والأدبية لتلك المدرسة ميخائيل نعيمة 1889 - 1988. وعندما أعاد الريحاني نشر الكتاب نفسه في عام 1918 تحت عنوان The Luzumiat Abul-Ala، فإنه نقّح المجموعة وأعاد صياغة كثيرٍ من الأبيات المترجمة، ووسّع المقدمة حيث شملت الأهداف الرئيسية التي كانت خلف محاولته هذه....
وينبه الريحاني الى أهمية "اللزوميات" في الكشف عن أفكار أبي العلاء التي تلقى هوى متيناً في نفس الريحاني الذي يعرضها بحرارة واندفاع، وجاذبية تحاول أن تحاكي جاذبية المعرّي ذاته، كما تترك أثراً مماثلاً لدى كلّ مفكر حُرّ في كل عصر....
ويحدس القارىء الفطن منذ البداية بأن الريحاني في انتقائه الذخائر للمعرّي كموضوع يطرحه على الساحة الفكرية في الغرب والشرق إنما يخاطب العصر ويتناول قضاياه الملحّة، حضارية كانت أم سياسية، عبر اختياره لموضوعه. ويتأكد ذلك الحدس كلما اندفع الريحاني في حماسة لقضايا أمته وغيرته عليها، مع ما يصاحب ذلك من نبرة خطابية حادة:
"لا يزال الشرق مسرحاً للصراع بين المذاهب والأديان، أما الأوروبيون، على رغم أنهم حرّروا أنفسهم من ربقة العبودية الدينية والمذهبية، فمصممون على أن يبقونا نحن رهن عبوديتنا ليسهّلَ عليهم ذلك فتوحاتهم التجارية، والتنين الرهيب الذي يغذيه الإرساليون الأجانب والروحيون المحليون بالإضافة الى رجال الدين والعلماء، هذا التنين الذي يقوم بافتراس عقول الشعوب الشرقية وقلوبها حيّ يرزق اليوم كما كان الحال مثل عشرة قرون عبرت. فليتمعن أولئك الذين ظنّوا فون كرايمر مغالياً في قوله: "ان أبا العلاء شاعر سبق عصره بكثير من القرون".
ومهما يكن من أمر، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يخاطب فيها شرقي عالَم الغرب بلغة ذلك العالم وأسلوبه، فيقدم له أبلغ شاعرٍ عربي وصف "القلق النفسي والروحي" ناعتاً إياه لوكرشيوس الإسلام وفولتير الشرق والشاعر الذي تجاوز الزمن وخاطب القرن العشرين والحيرة الإنسانية. ألم يقف أبو العلاء هو أيضاً عند مفترق طريق وفي عصر انتقال تقاسمته الشكوك وطغى عليه التشاؤم واليأس وعمّت فيه الفوضى. كان حدس الريحاني صادقاً في اختياره لأبي العلاء لساناً للشرق الذي صمت لخمسة قرون من الزمن ليتحدث بعد ذلك، وعبّر الريحاني، بالإنكليزية، اللغة الأكثر انتشاراً وتداولاً. وهكذا يصير اللبناني، متمثلاً في الريحاني هذه المرّة، حلقة الوصل بين الشرق والغرب ويسعى هو ومعاصروه من أمثال جبران ونعيمة الى توحيد المسيحية والإسلام إذ يؤكدون على وحدانية الجوهر على رغم الفروقات المظهرية فقط، وتصبح وحدة الأديان هاجساً عند هؤلاء وقضية رئيسة يعالجها كلٌّ بأسلوبه الخاص به.
كشفت مقدمة الريحاني هذه عن عدد من القضايا التي شغلته والتي شغلت جبران ونعيمة فيما بعد، ولم تختلف هذه القضايا عن قضايا العصر من حيث الجوهر إنما اختلفت طرق المعالجة التي اتّبعها اللبنانيون الذين كتبوا عنها بالإنكليزية. سبقَ وأن أشرتُ الى أن عصرنا هو "عصر المأزق الإنساني": فنحن فريسة للإحباط وخيبة الأمل والحيرة وعدم الاستقرار والانحلال كما أننا نرزح تحت كابوس القسوة والعنف والقهر ويغمرنا شعور عميق بقلق عام شامل يحيط بنا، وفي قرارة نفوسنا إحساس بالخطيئة والمذلّة واليأس، أما الإيمان والأمل والمحبة فألفاظ تناساها العصر وحذفها من معجمه.
كان اللبنانيون الثلاثة الريحاني وجبران ونعيمة بارقة الأمل والإيمان والمحبة في حلكة الظلام. وبصفاء نفسي مدهش وبنزعة رسولية مؤمنة أجروا تجربة أدبية فكرية انسانية رائدة عرفها مستهل هذا العصر ولعلّها فريدة من نوعها في الأدب العالمي، أدرك الريحاني ومن بعده جبران ونعيمة أن الغرب يرزح تحت عبء تعصّب أعمى للمادية لا يختلف في آثاره وشروره عن التعصب الأعمى للدين الذي يرزح تحته الشرق، وميّزوا الخداع في سياسة الغرب تجاه الشرق كما ميّزوه في دسائس الشرق، ووجدوا الإنسان حيثما كان مهضوم الحق، مهاناً، يلحق به الذلّ، فهو في الغرب قد أصبح عبد الآلة فاقداً هويته وبراءته، وفي الشرق عبد التقاليد الموروثة، وأصبح سلعة في أيدي رجال الدين ومهرجي السياسة، وتبيّنوا أن لا سبيل الى خلاص ذلك الإنسان إلا بالعودة الى ذاته لاكتشاف الألوهية الكامنة فيه.
لمح الى ذلك برنارد شو بنظريته عن "قوة الحياة"، وقام د. ه لورانس يدافع عن إيمانه بالدم واللحم والجسد كسبيل للإيمان بالروح والله والخلود، كما اعتنق إليوت المذهب الأنكليكاني، وأعلن ييتس عن إيمانه بالعلوم الروحانية، إلا أن الأمر بقي ناقصاً، ففي عصر تهدّمت فيه الحدود وأصبح الناس، كما أكد أودن، يعيشون في عالم واحد، باتت مسألة وحدة الوجود قضية ملحة، وأصبح مولد الإنسان الكامل هدف المجتمع الحديث، وباتت قضية الخلاص من المادية الكاذبة الزائفة مسألةً عاجلة تماماً كالخلاص من الروحانية المزيّفة. وعالج الريحاني بعد ذلك هذه القضايا شعراً ونثراً في الكثير من أعماله الشعرية والنثرية.
كانت أقوى النزعات لدى أعلام المدرسة اللبنانية الإنكليزية النزعة الرسولية التي تمثلت في كتب ثلاثة فريدة من نوعها في الأدب الحديث هي "كتاب خالد" لأمين الريحاني وكتاب "النبي" لجبران خليل جبران و"كتاب مرداد: منارة وميناء" لميخائيل نعيمة. ويجمع هذه الكتب الثلاثة خيط ذهبي يتمثّل في رسالة انسانية موجّهة للعصر... وقد أُلّفت هذه الكتب الثلاثة أصلاً بالإنكليزية، ونُقل الأول الى العربية ملخصاً أسعد رزوق، بينما تمت ترجمة "النبي" على أيدي مترجمين مختلفين نذكر منهم أنطونيوس بشير وميخائيل نعيمة ويوسف الخال وثروت عكاشة، أما "كتاب مرداد" فقد قام بترجمته الى العربية مؤلفه نفسه ونشره عام 1952.
ان كلاً منها - وفي المقام الأول - أهم أثرٍ أدبي وفكري لمؤلفه لخَّص فيه آراءه وعبّر فيه عن رسالته كاملةً، و - ثانياً - لأن كل ما كتبه كل من هؤلاء إنما يتجه الى هذا المؤلف الواحد أو ينبعث منه، فالكتب الثمانية الأخرى التي ألّفها الريحاني بالإنكليزية تجد نفسها في "كتاب خالد"، وكُتب جبران في كتاب "النبي". أما ميخائيل نعيمة الذي تُعدُّ كتبه الإنكليزية الثلاثة الأخرى كتباً مترجمة عن العربية ولا تنتمي الى آثاره الإنكليزية فنجد أن "كتاب مرداد" الإنكليزي الأصل يمثل بالنسبة اليه خلاصة تفكيره والأثر الرئيسي الذي يُقاس به كل ما خطّه بالإنكليزية والعربية. وعليه فإن كتابي "خالد" و"النبي" يصبحان أساساً لا يستغنى عنه لأيّ تقويم جدّي وصحيح لفكر الريحاني أو جبران والذي عبّر كلّ منهما عنه في مؤلفاته العربية.
يعلمنا الريحاني أن "كتاب خالد" سفرٌ تختلط فيه السيرة والفلسفة وهو يتميز بأسلوب قصصي فريد يشبه الى حدٍ بعيد رواية كارلايل الشهيرة Sartos Resartus. وتكتمل صورة بطل الكتاب، خالد، على ثلاث مراحل أولاها في الولايات المتحدة In the Exchange وثانيتها في لبنان In the Temple وثالثتها في "كل مكان" أي بين بعلبك والقاهرة In Kul Makan. والإهداء يقدمه في أول مقطع من مقاطع فصله الافتتاحي الذي يسمّيه "الفاتحة".....
اكتشفت المخطوطة العربية الحديثة التي أصبحت موضوع هذا الكتاب في المكتبة الخديوية بالقاهرة، وكانت بين مجموعة من مخطوطات البابيروس للكاتب المصري القديم أمن رع ومجموعة أخرى من المصاحف الشريفة المذهّبة تذهيباً جميلاً. ولفتَ نظرَ محرّرِ هذا الكتاب الإهداءُ الذي تضمّنه المخطوطة كما لفتته الرسوم على غلاف المخطوطة.
ولكي يُعطي الريحاني كتابه طابعاً قصصياً ابتكر له قصة طريفة فزعم أن الكتاب كان مخطوطة كتبها بعلبكي اسمه خالد وانه اكتشفها في المكتبة الخديوية في مصر وأن دوره في نقل القصة الينا هو دور المحرر والمترجم والراوي، ليس إلاّ.
تبدأ قصّة خالد في بعلبك مسقط رأس بطل القصة حين يقرر أن يهاجر الى العالم الجديد تاركاً وراءه حياة رتيبة تعيقها قيودٌ بالية، فالعالم الجديد محطّ الآمال للثراء والمكاسب. وهكذا يتفق خالد وصديقه شكيب على السفر معاً، ويبيع كلٌّ منهما بغلاً كان يمتلكه ويدفعان ثمن تذكرتي سفر، وبعد رحلة مليئة بالأحداث والمفاجآت يصلان الى نيويورك ليزاولا تجارة "الكشّة" آملين أن تتحسّن بهما الحال لينتقلا الى مهنة أخرى تكون أكثر ربحاً وأقل عنتاً. ويلاقي شكيب النجاح المادي أما خالد فيصرف جلّ وقته وماله على الكتب التي يمزّقها حال أن ينتهي من قراءتها. ويزداد خالد اهتماماً بالروحانيات والأفكار الفلسفية، وتمتزج في نفسه مشاعر الاشمئزاز تجاه العالم المادي والجشع الدنيوي ويقوده ذلك وولعه بحرق كتبه الى تدمير صندوق تجارته فيأتي على ما عنده من سلعٍ كان يرتزق منها.
ولا يمرّ وقت طويل حتى يجد خالد نفسه من دون عمل. يُطرد من وظيفته في مكتب التسجيل. يقيم علاقة حميمة مع غانيتين. إلا أنه يتمكن من الإفلات من هذا المأزق ليزاول النشاط السياسي فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وينغمر في ذاك المعترك الى أن تعصف به خيبة الأمل. ويفشل الحزب الذي عمل من أجله في الانتخابات ويحاول بطلنا أن "يعظ" رئيس الحزب داعياً إيّاه الى الصلاح والاستقامة فيكون جزاؤه السجن.
إثر ذلك يشعر خالد بأنه قد استنفد جلّ قواه وينتابه حنين مبرح الى وطنه. يبذل جهده ليوفر ما يعوزه من مال ليعود الى بلاده مصطحباً شكيباً معه. وينمو لدى خالد شعورٌ عميق تجاه أميركا هو مزيج من الإعجاب والاشمئزاز والمحبة والكره. فأميركا العالم والتقدم تبهره بمنجزاتها في حين تخيفه أميركا المادية وتملأه اشمئزازاً لما تمثّله من تسابق على الزائف والزائل ولما تعرضه من انهيار أخلاقي وإفلاسٍ روحي. ويتمنى في قرارة نفسه لو أخذت أميركا على عاتقها قيادة العالم في مجالات الروح والأخلاق كما تقوده في مجالات العلم والاختراع والتقدم، كما يرجو أن تتضافر فضائل الشرق والغرب ليتلاشى الشرّ ويزول، ويتوق أيضاً الى اتحاد الأديان العظيمة كلها في دين واحد، فتأتلف المسيحية والإسلام ليصبحا ملجأً واحداً لبني البشر.
ويعود خالد مع صديقه الى الوطن. وبدل الشعور بالإحباط الذي نال روحه أثناء وجوده في أميركا حلّت لديه نزعة رسولية مشرقة تنضح بالحيوية والعزيمة أمام التحديات المتربصة:
"إن بلادي قد بدأت بالنطق الآن، وما أنا إلا لسانها المختار، فإذا ما تقاعست ولم ألبِّ النداء وأذهب الى نصرتها، فإنها ستبقى خرساء الى الأبد".
وتثور في نفسه شتى المشاعر والأحاسيس التي يذكّيها خياله المتقد وذكرياته الحيّة فيرى بلاده صورةً متألقة مشعّةً مليئةً بالأمل لعالم ينهار ويتلاشى وتملأ أسماعه أنغام وطنه الحبيب لبنان سيمفونية سحرية تطربه وتحرك وجدانه:
"نهرٌ تاريخي عتيق يجري في أرض تبارك ثراها بجنون قدسي أفعم روح الإنسان فيها" وشوامخ تكسوها الثلوج وعند أقدامها ينمو الزنبق والدفلى، وغابات الصنوبر تبعث أريجها فتملأ ضباب التلال، وعرائش العنب، وبساتين التين والسفرجل، وحدائق الليمون والبرتقال".
وتهدأ روح خالد وقد شعر بالطمأنينة في رحاب تلك الأرض المقدسة، إلا أن راحته وطمأنينة نفسه لا تدومان فيجد نفسه في ضنك جديد إذ يسعى الى الزواج من ابنة عمه نجمة رفيقة الطفولة التي أحبّها منذ الصغر، ولكن ضيق ذات اليد يمنعه من تحقيق حلمه، وتفضي به محاولاته لكشف الظلم والاضطهاد الذي يحيق ببني وطنه بالتضامن مع معاداته لرجال الدين الى أن تنزل به الكنيسة عقاب الحرمان، ممّا يقوده في نهاية الأمر الى السجن ثانية. ويبتّ والد نجمة، يعاونه في ذلك رجال الدين، أمر زواج بنته من رجلٍ ثريّ. ويتم الزواج في ذات اليوم الذي يخرج فيه خالد من السجن.
ويلجأ صاحبنا الى ديرٍ مهجورٍ في جبل لبنان وينكبّ على كتابة "مخطوطة". هنا تُروى القصة بلسان شكيب الذي يسترسل في سردها معتمداً على ما يصله من أخبار ورسائل من خالد مضيفاً اليها ملاحظاته وخواطره. وينزل خالد الى بيروت حيث يلتقي بسيدة اسمها مسز غوتفري تسبغ عليه رعايتها وتتيح لخالد الفرصة كي يبدأ بتنفيذ رسالته التي أخذها على عاتقه وهي إيقاظ بني قومه وتحريرهم، فيعمل جاهداً في سبيل ذلك وينال شهرة واسعة، وفي ذروة نشاطه هذا يلقي خطاباً مهماً ينتقد فيه رجال الدين بقسوة ويتصدى للدستور الجديد الذي يريدونه،. فيتعرض خالد لهجوم عنيف يضطره الى الهرب لإنقاذ حياته، ويعود الى بعلبك حيث يجتمع بأمه ونجمة التي هجرها زوجها وحيدة مع طفلها نجيب. ويرجع خالد الى بيروت من جديد مصطحباً معه شكيباً ونجمةً ونجيباً ومسز غوتفري فيذهبون جميعاً الى القاهرة. إلا أن سعادتهم لم تدم طويلاً فتغادرهم مسز غوتفري ويموت الطفل نجيب نتيجة مرض لا يُعرف له دواء وتموت أمه حزناً عليه. وهكذا يختم شكيب القصة فيخبرنا كيف يختفي خالد فلا يُعرف له أثر، وتنقطع أخباره كلياً، وهو لا يزال يحلم حُلمَه المستحيل في وحدة بني البشر وتلاقي كل ما هو خيّر في الوجود.
هناك ما يبرّر التوقف مليّاً عند محطة "خالد"، فهو الوحيد من بين الكتب الثلاثة السالفة الذكر الذي لم يترجم كاملاً الى العربية فضلاً عن تعذّر الحصول على طبعته الأولى.
كان الرّيحاني أول عربي يكتب بالإنكليزية قصّة وينظم بواسطتها شعراً، وكان لكتاب خالد الذي أعدّ رسومه جبران أعمق الأثر عليه، وفي رأيي أن "كتاب خالد" لم يكن مصدر الإلهام الأعظم ل"نبيّ" جبران فحسب، بل كان ذا أثر بعيد في خلق نعيمة لشخصية مرداده العظيم. كان الريحاني أستاذ جيل نمت مواهبه في المهجر، وأقرّ جبران بذلك حين أطلق على الريحاني لقب "المعلم". وبعد ذلك كان الريحاني رائداً لكل من كَتب بالإنكليزية من العرب ولا أخالني مغالياً إذا قلت إنه كان أهمّ حافز فكري أدبي اجتماعي حرّك العقل العربي في الربع الأول من القرن الحالي فولّد تفاعلاً خلاقاً في مجالات الأدب والاجتماع والسياسة والدين داخل لغة الضادّ ....
وثمة ملاحظات حول "كتاب خالد" أودّ طرحها، هي:
أولاً - "كتاب خالد" غني بملاحظات الريحاني الحميمة في السياسة والدين والاجتماع، وهو كنز غني لكل باحث في علم الاجتماع ولعلّه أكمل وثيقة بين أيدينا لرأي شرقيّ حرّ في بداية هذا العصر يتسم بصراحة مطلقة وصدق مدهش فلا يترك أمراً من دون الالتفات اليه وإمعان النظر فيه وتمحيصه، ولعلّ صراحته المطلقة وخصوصاً فيما يتعلق بشؤون الدين هي التي حالت من دون ترجمة الكتاب وانتشاره في العالم العربي حتى اليوم.
ثانياً - حينما قال الريحاني في عام 1915: "لبنان، باريس، نيويورك - في الأول روحي، وفي الثانية قلبي، وفي الثالثة الآن جسدي" فإنّما كان يلخص ما دأب على التعبير عنه في كتاباته ورحلاته ونمط حياته، وهو الشديد التعلق بوطنه لبنان وتطلّعاته الإنسانية الشاملة الأمر الذي يؤكده لنا "كتاب خالد" في صورة جليّة وقالب فنّي متكامل يظهر من خلاله الريحاني رجلاً ذا أبعاد ثلاثة: بعدٌ لبناني وآخر عربي وأخير عالمي، فيؤالف بين التباين ويجمع الأضداد داخل شخصية فذّة ساحرة تضجّ بالحيوية وتقارع الإحباط، شخصية هي نسيج وحدها ومرآة في الوقت عينه لنخبة من كتّاب لبنانيين مبدعين كانوا هم أيضاً يعبّرون، منفردين ومجتمعين، عن روح حضارتهم اللبنانية والعربية والشرق أوسطية المنفتحة على العالم.
ثالثاً - تبرز شخصية خالد وكأنها ردُّ الريحاني على ويلز وهاردي، ف"كيبز" و"مستر بوللي" يمثلان الرجل العصري، المؤمن بالعلم، الاشتراكي التفكير، الملحد الى حدٍّ ما، والذي يأمل في تحطيم النظام الاجتماعي وتبديله، أما خالد، وعلى رغم أنه يسعى بشتى الوسائل لتغيير أحوال مجتمعه، فإنه مؤمن بالله وبالإنسان: "إن خالداً مثلي لا يستطيع نكران وجود الله بحكم تكوينه وفطرته، فكلانا من أرض كان الله دائماً يتحدث فيها الى الآباء والأجداد".
رابعاً - نلمس في "كتاب خالد" أثراً عظيم الأهمية ذا شقين هما: الأدب العربي واللغة العربية ممّا يحيل الكتاب بالنسبة لقارىء غير عربي الى مدخل شيّق لتذوّق الأدب العربي وحضارته ولا يبخل الريحاني بانتقاء بعض الألفاظ العربية والإسلامية يضمنها الكتاب معتمداً أسلوباً يشبه الى حدٍّ بعيد أسلوب تشارلز داوتي في "الصحراء العربية"، وكأنه يكتب العربية بالإنكليزية. وفي مقابل هذا الأثر العربي نجد أثر الأدبين الأميركي والإنكليزي فأصداء إمرسون وثورو وويتمان ووردزورث تبدو جلية عبر هذه التي أوردها على سبيل المثال لا الحصر. فتقديس إمرسون للطبيعة كمحراب لخالقها ومرآة له في كل أيكة ونسمة نراه بروحه ولفظه في كتاب خالد:
"هنا في هذا المسجد الكبير للطبيعة أرتّل قرآني. أنا، خالد، البدوي في صحراء الحياة، الهائم على درب الفكر العريض، آتي الى هذا المسجد الجليل، مكان التعبّد الوحيد المتاح لي، كي أجبر روحي الكسيرة في شذا رحابه العطرة لأرجائه السماوية. ان المحاريب هنا لا تيمّم وجهة من دون أخرى بل حيثما اتجه المرء يرى مشكاة بعد مشكاة تتجلّى فيها كلها روح الله الخالدة".
ودعوة ثورو غير الهيّابة الى الإصلاح ونثر بذور الخير ولو تحت عباءة العقم والعدم تتردد في دعوة خالد: "إيه، اخوتي، ابنوا معابدكم وازرعوا كرومكم ولو في القفار الصلدة!". وفي اتخاذ الريحاني للطفل رمزاً لكل ما هو حرّ وطاهر وحكيم صدىً لآراء وردزورث أبي الرومنطيقية الإنكليزية.
* كاتب وأكاديمي لبناني مقيم في الولايات المتحدة، والنص من كتاب جديد له يصدر قريباً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عنوان "الأدب اللبناني بالإنكليزية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.