تنتمي الكاتبة المصرية نعمات البحيري التي رحلت قبل أيام إلى جيل السبعينات، هذا الجيل الذي تعد تجربته السردية واحدة من التجارب الفارقة في مسيرة القص العربي، إذ اتسمت نصوصه بقدر كبير من المغامرة الجمالية والموضوعاتية. وفي روايتها الأخيرة"يوميات امرأة مشعة"التي صدرت في القاهرة في منشورات"مكتبة الأسرة"يحمل السرد صبغته الذاتية الخاصة. فالراوية/ البطلة ترصد تجربتها وآلامها القاسية مع المرض اللعين سرطان الثدي، والتمزقات الداخلية والتصدعات التي تقلب حياتها رأساً على عقب. تتشكل الرواية من تسعة عشر فصلاً، أولها"أمي"وآخرها"بيان أخير ضد الموت"، وتنهض على جدلية الاتصال/ الانفصال في البناء الشكلي للنص. فثمة فصول سردية قائمة ومستقلة بذاتها، غير أن رابطاً مركزياً يجمع بينها يتمثل في مغالبة الألم المستمر في الذات الراوية التي تعيش حالاً من الانتقاد لما آلت إليه بفعل ظروف عدة. وفي"يوميات امرأة مشعة"تطارد الحياة الموت، تحاول أن تحقق ولو نصراً ضئيلاً عليه. إنها فسحة الوقت وهي تغالب دق الجرس. تتكئ الرواية على آلية الاعتراف التي تحوي في جوهرها إحساساً بالمحبة العارمة للذات"الطيبة المقهورة"في مواجهة"أقدار متواطئة"وبشر جبناء: "والله العظيم ح اعترف... أعترف أن الحلم وحده كان سبيلي الوحيد لتجاوز كل عثراتي... كما أعترف أنني تمردت على أبي حين حدد مستوى تعليمي بدبلوم تجارة تعس وبائس فتجرأت وتجاسرت وذاكرت لأحصل على بكالوريوس تجارة حتى أتفادى الزواج من ابن ابن عمه..."الطينة من الطينة واللتة من العجينة".. كما تقول أمي". وثمة حضور للاغتراب في معناه الشامل في الرواية، إذ أن هناك انفصالاً بين الذات الراوية والبنية الاجتماعية المحيطة بها، سواء في طابعها الشكلي، أم في جوهر العلاقات المشكلة لها. فثمة شعور بالاغتراب صبغ علاقة الراوية بالمكان مدينة الشروق حين اعترتها تغيرات ديموغرافية نتيجة لقدوم أعداد هائلة من سكان الريف العائدين من الخليج، وبما أفضى إلى"ترييف المدينة"، وشيوع نمط معيشي مغاير عن النمط الحادث فيها. تتجه الرواية أيضاً الى مراجعة أوضاع المرأة داخل المجتمع المصري، في إدانة لجملة من الظروف والسياقات السياسية والثقافية التي أنتجت هذه الأوضاع. يضغط المرض على الراوية بعنف وقسوة شديدين، ومما يجعلها تتجاوز في طرحها وضعها الخاص إلى وضع أكثر عمومية، يتعلق بالنساء الأخريات ممن فقدن ثديهن:"المشهد في تفاصيله يشي بأن أنوثة هذا الوطن مستهدفة مثلها كما الذكورة.. صرنا نسير على الأرض قنابل موقوتة لا تدري أي نفس متى تنفجر ومن ينجو. ستكون الصدفة وحدها صاحبة الفضل الأعظم. ربما كانت فاجعتي في قطعة حيوية من جسدي هي التي هيأت لي شيئاً من الخرافة. وبعد عام بدت بؤرة على العظام.. وبؤرة ثانية. عدد كبير من النساء بثدي واحد يطمحون في المحافظة عليه. عفواً نون النسوة لا مكان لها في واقع مأسوي نعيشه نحن نساء الثدي الواحد. لذا نأتي فرادى وجماعات للحصول على حصتنا من العلاج الإشعاعي لنخرج إلى الشوارع نساء مشعات تعرضن من قبل للعلاج الكيماوي الذي هو أبشع من السرطان ذاته". لا يسير الزمن في الرواية وفق نسق خطي/تتابعي، وهذا ما يبدو بارزاً في نهاية الفصل السردي تموجات بنفسجية حيث ينتهي بدخول الممرضة معلنة أن شخصاً ما يريد الراوية/البطلة على الهاتف. غير أن هذه الحكاية لا تستكمل في الفصل التالي الطابق الخامس الذي يبدأ بحكاية جديدة لا تكمل الحكاية السابقة، حيث تبدأ حكاية جديدة عن صاحب الشقة الذي يريد بيعها وإنهاء عقد الإيجار مع البطلة. تحوي الرواية نزوعاً للسخرية وتتمحور هذه السخرية حول تيمة المرض نفسها، فتصبح"غرفة الرنين"أشبه بالغسالات الضخمة في مراكز التنظيف والكي الآلي! ويبدو جهاز الأشعة مثل وحش كبير، يخرج منه لسان معدني بمقدوره التهام الإنسان. تعد السخرية هنا شكلاً من اشكال مقاومة المرض عبر الذات الراوية. ولعل مساحات المتخيل السردي داخل الرواية - والمقطع السابق يكشف عن ذلك - ساهمت في تعميق الرؤية السردية في داخلها، فضلاً عن ايجاد حالة روائية رهيفة تتكئ على ذكر الحوادث الخاصة والمتعلقة بما عانته الذات الراوية من آلام في محنة مرضها القاسية وعلى سواها:"حدثت نفسي بضرورة تجاوز المهزلة ببعض الألاعيب النفسية مثل إعمال الخيال وإدماجه في عالم آخر، بعيد كل البعد عن مكان التجربة. هكذا تمرست في التحايل على كل الصعاب التي واجهتها في حياتي". تعد تقنية الحلم من التقنيات المركزية في رواية"يوميات امرأة مشعة"، حيث يصبح الحلم بمثابة المخلص للذات الراوية من الملاحقة الشرسة للمرض، فعبره تهرب من قسوة الواقع الآسن. ولذا فحضور الحلم في الرواية يكون لصيقاً لشدة الألم، كأن تلجأ إليه الراوية في اللحظات المفزعة، وهذا ما بدا جلياً أثناء إجرائها الجراحة الخاصة ببتر الثدي، أو دخولها غرفة الأشعة المقبضة. وتتواشج مع تقنية الحلم هنا آلية الاسترجاع التي تستعيد عبرها الراوية لحظات حميمة تخفف من غلواء المرض وتصنع تسامياً عليه. ويعد فصل"الطابق الخامس"من الفصول الدالة على ذلك حيث يشيع قدر من النوستالجيا لأيام الصبا، ويصير استرجاع الماضي ملاذاً من قسوة الراهن، وتجاهلاً لوطأة آلة الأشعة المفزعة:"ليس هناك يقين بأن موتي هذا موقت.. ربما لوقت ليس قليلاً لا أدري مداه..". ثمة تقاطعات قائمة بين النص السردي"يوميات امرأة مشعة"، والراهن المعيش بحيواته المختلفة وخبراته الذاتية الخاصة، حيث أضحت الهموم والاحلام والإخفاقات الشخصية بمثابة"المادة الخام"التي تأخذ حظها من التشكيل والتطويع، وفقاً للقدرة المميزة للكاتبة نعمات البحيري على أن توجد منها نصاً يحمل ملامحها هي، وبصمتها الأسلوبية الخاصة، وطرائقها في السرد، ما أفضى إلى خصوصية هذه الرواية وفرادتها.