السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    احذر أن ينكسر قلبك    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    حراك شامل    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    هتان السيف.. تكتب التاريخ في الفنون القتالية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    مستقبل الحقبة الخضراء    تركي بن طلال يرعى حفل تخريج 11 ألف طالب وطالبة من جامعة الملك خالد    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    فوائد صحية للفلفل الأسود    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    أثقل الناس    تحولات التعليم.. ما الذي يتطلب الأمر فعله ؟    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    رئاسة السعودية للقمة العربية 32.. قرارات حاسمة لحل قضايا الأمة ودعم السلام    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    صفُّ الواهمين    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    سقيا الحاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عريضتان تنازعتا النظرة الى العراق بعد اندحار العثمانيين . مشروع البصرة الانفصالي لعام 1921 استند الى ميزتي الانفتاح والمصالح التجارية 1 من 2
نشر في الحياة يوم 10 - 09 - 2007

الدستور العراقي الذي يسمح بتكوين وحدات فيديرالية غير محددة الحجم يطرح يومياً، في النقاش كما في العنف الأعمى، مستقبل الوطنية العراقية ومفهوم العراق من النواحي الثقافية والجغرافية والقانونية. وإذ لا يمكن ضبط الفيديرالية ومنعها من الجنوح الى الانفصال، يحيل الوضع اليوم الى أيام التكوين الأولى لدولة العراق الحديثة حين قامت في البصرة حركة انفصالية، بمعنى الامتناع عن الاندراج في الدولة الوليدة والدعوة الى دولة بصراوية خليجية مقطوعة أو قليلة الصلة ببغداد.
ريدر فسّر باحث هولندي قدم أطروحة دكتوراه في جامعة اكسفورد عنوانها"البصرة - الدولة الخليجية الفاشلة / الانفصالية والوطنية في جنوب العراق"، ونقلت الاطروحة الى اللغة العربية وهي في سبيلها الى النشر الشهر المقبل عن دار الجمل في ألمانيا.
في ما يأتي فصل من الكتاب / الأطروحة، ننشره في حلقتين.
خلال ربيع عام 1921، ذاعت في البصرة شائعات عن تأسيس وشيك لمملكة عربية - أي كيان واحد يمتد من الخليج إلى الموصل، ويحكمه أمير عربي - ولقيت بعض القبول. وصرح البريطانيون مراراً بنياتهم في تنصيب فيصل بن الحسين حاكماً على العراق. وفي نيسان ابريل، نفوا السيد طالب النقيب، أحد أبرز منافسي فيصل على عرش العراق إلى سيلان سريلانكا حالياً، بحجة أنه كان ينوي إثارة القلاقل والعنف. وفي حزيران يونيو، أعلن مسؤولون في بغداد أن فيصل استقل سفينة من جدة وهو الآن في طريقه إلى البصرة. أما قادة البصرة من الوجهاء فكانت تدور في أذهانهم أشياء أخرى غير المملكة العراقية.
ظهرت أولى بوادر حركة سياسية جديدة في البصرة خلال اجتماع بين برسي كوكس واثنين من كبار التجار من ملاك الأراضي في المدينة، هما أحمد الصانع وعبداللطيف المنديل، في 7 نيسان 1921. وطالب البصراويان، في الاجتماع، بإدارة منفصلة للبصرة تحت الحكم البريطاني المباشر، وزعما أن البصرة مدينة تجارية ذات مصالح تختلف عن مصالح بغداد. وأعربا عن مخاوفهما من أن يكون حكم بغداد"بلوى أسوأ"من بلوى النظام العثماني. وفي الوقت نفسه، بدأت تصل إلى مسامع شبكة الاستخبارات البريطانية شائعات بأن عريضة قيد الإعداد، تطالب بإنهاء النفوذ العربي في الإدارة المحلية وإعادة تأسيس نظام بريطاني خالص يمتد من الفاو إلى القرنة. وفي أيار مايو، رفع عبد اللطيف المنديل وأحمد الصانع عريضة للمندوب السامي، وانتشرت شائعات تقول بزيادة الدعم لهذا المخطط. وصار المسؤولون البريطانيون يدركون الآن أن عريضة أكثر استفاضة قيد الإعداد، وفي 14 حزيران، كان في وسع المستشار المحلي في البصرة أن ينقل محتوياتها بالتفصيل. لقد أقر المسؤولون البريطانيون رسمياً بوجود حركة انفصالية في الوقت الذي أوعزوا الى الصحف المحلية أن تعيد نشر خطبة مناصرة لفيصل ألقاها تشرتشل في"مجلس النواب"، مندداً فيها بالمخططات التي تتحدى رؤية المملكة الواحدة، وقد ورد فيها ذكر البصرة بالتحديد. وفي 20 حزيران، قدم العريضة رسمياً إلى المندوب السامي وفد يتكون من ستة أشخاص سافروا إلى بغداد من البصرة.
من الأمور القليلة التي تتفق عليها تقريباً جميع مصادر العريضة هو نص الوثيقة. فالطلب الذي قدمته البصرة، ويحمل 4500 توقيع، كان يتألف من"ورقة"مطبوعة النسخ لنص بالعربية، كان بدوره ترجمة عن وثيقة أولى صيغت بالإنكليزية. وينقل [أفضل استخدام صيغة المضارع التي تقابل الحاضر التاريخي في الإنكليزية Historical Present الباحثون العراقيون الذين تمكنوا من الوصول إلى ملفات وزارة الداخلية العراقية في السبعينات بأن لا وجود للعريضة الأصلية الموقعة فيها، بل توجد نسخ من الصيغة المطبوعة بالإنكليزية، بالإضافة إلى صياغات أخرى تنطوي على الترجمة العربية الأصلية. وتكاد تتطابق جميع هذه الوثائق مع الأخيرة، لذلك لم يظهر أبداً أي خلاف حول المطالب الفعلية للعريضة.
كانت العريضة تنطوي على عنصرين. الأول تقديم الحجج لدعم دعوى البصرة في المعاملة الانفصالية. وتشمل هذه الحجج المناخ المناصر للبريطانيين في البصرة منذ الاحتلال عام 1914، وعدم وجود إخلال بالأمن في المنطقة خلال ثورة 1920، والموقع الخاص للبصرة كميناء دولي منفتح ذي طبيعة تجارية قوية، والاعتقاد بأن تقدم البصرة"سيكون مخالفاً في نوعه وسرعته لتقدم العراق". وكانت هذه الأحوال تعني أن أهالي البصرة يجب النظر إليهم بوصفهم"فئة الأقلية"بين سكان المناطق الخاضعة للسيطرة البريطانية. ولا توجد إشارات إلى أي تراث تاريخي خاص، أو ديني، أو عرقي، بمعزل عن وضع البصرة كمنطقة منفتحة دولياً.
وقدمت العريضة مخططاً لاستقلال سياسي منفصل للبصرة، يعتمد هذا في الجوهر على صيغة اتحادية: حيث توضع"ولايتا العراق والبصرة المتحدتان"تحت"الوصاية"البريطانية، ويحكمهما"أمير"عربي أو أي"حاكم ينتخبه أهالي العراق"وفق إجراءات لم يرد لها تحديد. على أن الجزء الأكبر من العريضة كان يهتم بقضايا الحكومة التي يجب فصلها عن السلطة الاتحادية وتفويضها بدلاً من ذلك إلى الحكومة المحلية: اختيار حاكم محلي من بين ثلاثة أفراد ينتخبهم مجلس البصرة [هذا النص مأخوذ من الترجمة العربية للوثيقة وليس ترجمة حرفية للكتاب] وقضايا الدفاع والأمن الداخلي حيث للبصرة جيشها الخاص وقوة من رجال الشرطة خاصة بها، وكذلك قضايا التشريع ونظام الضرائب فللبصرة مجلس تشريعي منفصل يسيطر على المداخيل المحلية. ويجب حصر الوظائف الحكومية المسندة للسلطات الاتحادية بالأنظمة المشتركة للبريد والبرق والنقود والمقاييس والأوزان وسكك الحديد وطرق الملاحة الداخلية، والخدمة الديبلوماسية في الخارج، ومسؤوليات الاشتراك في دفع الغارات الخارجية والدفاع عن البلد. ولم تتضمن العريضة مطالبة بوضعية خاصة للغة العربية ولا لدور العرب في الإدارة. كما لم يتم تعيين حدود الدويلة المقترحة للبصرة، على رغم أن المنطقة الممتدة من الفاو إلى القرنة حصراً كانت تفهم باعتبارها المنطقة المستهدفة بالحكم الخاص.
بوجيز العبارة، كان نظام الحكومة المقترح يؤكد الانفصال بين العراق والبصرة أكثر من تأكيده وحدتهما. وذهب باتجاه اللامركزية الجذرية أكثر من مخطط الحكومة المحلية الذي كان يتطلع إليه طالب النقيب قبل الحرب. صحيح أن العريضة تنطوي على مطلب بالسيطرة على الضرائب، لكن التدابير المتعلقة بالجيش المنفصل وجهاز الأمن المستقل كانت ملامح جديدة تماماً. بل إن واحداً من المقاطع الأخيرة من العريضة يشير إلى إمكان إنهاء الاتحاد إذا فضل أهل العراق إنهاء الوصاية البريطانية وأصرَّ أهل البصرة على الاحتفاظ بروابطهم مع الإمبراطورية البريطانية. وحين يؤكد المخطط المعوقات مع بغداد أكثر من تطوير المؤسسات المشتركة، فإنه يمثل تذكيراً بالعلاقة بين دول الأمراء في الهند البريطانية أكثر منه بالكيان المتحد سياسياً. ورأى المسؤولون البريطانيون فيه تعديلاً لمطالب بالحكم البريطاني المباشر قدمت في نيسان وأيار، أملتها الضرورة حين تبلور دعم لندن لفيصل.
تأويلات تاريخية متنافسة
ادعى المراقبون البريطانيون المعاصرون بحيادية أن غالبية"كبار أهالي"البصرة كانوا ينحازون للعريضة. ومنذ أيار فصاعداً، صارت الحركة الانفصالية توصف باستمرار بأنها التيار السياسي المحلي الأكثر شعبية. وفي حزيران، لم يستطع المستشار البريطاني للبصرة أن يذكر سوى شخصيتين اثنتين فقط لم توقعا على الوثيقة التي تدعو للانفصال. وأخبر كوكس لندن أن على رغم وجود عريضة مقابلة تحمل 1500 توقيع، فإن"جميع الأفراد ممن لهم وزن من الناحية العملية"يقفون إلى جانب الانفصاليين. واعتقدت بيل بأن العريضة تحظى بدعم"التجار والملاك المتنفذين عملياً"، وحين كانت ترتب مأدبة احتفاء بترشيح فيصل لعرش العراق في بغداد بعد أسابيع، شكت من تركيبة الوفد القادم من البصرة:"إن وفد البصرة ليس جيداً جداً، لأن كبار الأهالي هناك يريدون لها أن تنفصل عن بقية العراق".
لم يكرس المؤرخون الذين ركزوا على السياسة البريطانية في العراق متسعاً كافياً لحركة عريضة البصرة. فقد ذكرها فيليب آيرلاند في الحاشية عام 1937، وذكرها ستيفن لونغرك في جملة اعتراضية عام 1953، وعرض لها إيلي خدوري بجملة واحدة عام 1959، وبسلسلة من الحواشي والإشارات العابرة بيتر سلوغلت عام 1976، وأخيراً مسها مساً سريعاً تودي دوج في حاشية عام 2003. ومع ذلك، تم التركيز، بقدر ما حظيت العريضة بالاهتمام في هذه الأعمال، على الانفصاليين، لا على خصومهم، ونُظر إلى الحركة باعتبارها حركة محلية أصيلة انبثقت في معارضة للسياسة البريطانية الغالبة.
أما تأويلات العريضة الانفصالية التي تركز على مادة الشؤون الأهلية وأكثرها مكتوب بأقلام عراقية فتختلف اختلافاً صارخاً. بعد سنة واحدة من تقديم مطالب البصرة، نشرت الصحافة الوطنية في بغداد مقالات تتناول الظروف المحيطة بالمشروع، محاولة أن تقدم وجهات نظر نقلها"شهود عيان". وصفت صحيفة"الرافدان"العريضة بأنها في جوهرها مجرد عملية"احتيال": إذ لم يعرف الغرض الحقيقي من هدف الانفصال سوى سبعة أشخاص، ولم يكن على دراية حميمة بمحتوياتها الدقيقة سوى اثنين فقط. وينحدر هؤلاء الرجال السبعة من النخبة التقليدية للمدينة، وهم يضمون تجاراً ووجهاء يحملون ألقاباً من الحقبة العثمانية: أي أغوات، وبكوات، وباشوات. أما أهل المدينة الأميون، من بائعي الفواكه والخضر والمثلجات، فقد خُدِعوا أو أُجبروا على توقيع العريضة، التي صدرت عن مسؤول بريطاني عاكف على طلب الثأر بعد طرد محميه وهذا تلميح واضح لنفي السيد طالب ومستشاره البريطاني. وقد وجد هذا الشخص الوسيلة المناسبة للقيام بذلك من طريق العريضة الانفصالية، التي قصد منها تقديم الدعم لمن أطلقوا في فترة ما قبل الحرب مشروع"الدولة الطالبية"، ومهدوا الطريق لرجوع السيد طالب حاكماً على دويلته الجديدة. وتصور المقالة المقابلة الاجتماعية القوية بين"خبث السيد طالب وأعوانه الأقوياء"والناس الذين وقعوا العريضة، فتصف كيف كان على الموقعين أن يخلعوا أحذيتهم بتواضع وهم يدخلون قصر أحد هؤلاء الأقطاب السبعة لكي يضعوا أسماءهم على الوثيقة الانفصالية. وقد وصفت، في المقابل، خصوم المشروع بأنهم"أحرار"المدينة.
وهناك مقالة صحافية ثانية أعطت نبذة مختلفة قليلاً وأقل تحاملاً إلى حد ما، لكنها كررت الموضوعة نفسها عن نخبة اقتصادية صغيرة تستغل براءة الجماهير الشعبية الجاهلة. وذكر هذا التقرير أن بعض ملاك الأراضي كانوا يخافون على ثرواتهم إذا ما نصبت حكومة عربية في بغداد. ولمنع ذلك، نظموا هذه العريضة الانفصالية، وتدبروا من خلال"أذنابهم"الحصول على تواقيع الفلاحين وأهل المدن بحجة أن العريضة لا تنطوي إلا على طلب الإعفاء من الضرائب والتجنيد.
وطبع أول كتاب يتطرق إلى ذكر العريضة عام 1924، في عنوان:"تاريخ القضية العراقية"، من تأليف محمد مهدي البصير، وهو سياسي وطني من أهل الحلة معادٍ للبريطانيين. لم يتطرق البصير إلى الدعاوى السابقة في الصحافة الوطنية عن تلفيق العريضة، لكنه ذكر أن"نفراً من وجهاء البصرة"كانوا وراءها، وسمى منهم المنديل والصانع على وجه التحديد. ثم أكد أنهم قوبلوا بعرائض مضادة، سافر رافعوها إلى بغداد وحصلوا على تطمينات من السلطات البريطانية بأن البصرة"ستظل عراقية". وكان البصير نفسه مسجوناً في حزيران 1921، ومن الواضح أن النبذة التي يقدمها تعتمد على معلومات استقاها من أصدقائه، إضافة إلى المقالات الصحافية عن الموضوع التي نشرت عام 1922.
عام 1933، في غمرة السيَر التي ظهرت في أعقاب موت الملك فيصل، ضمَّن محمد عبد الحسين روايته لما حدث في البصرة ربيع عام 1921 في كتابه"ذكرى فيصل الأول". [للأسف لم أر هذا الكتاب، و عنوانه يوحي بأنه أُلّف في زمن فيصل الثاني فأرجو التأكد من العنوان]. كان المؤلف، الذي هو في الأصل من أهالي الكاظمية التي كانت حينئذ خارج بغداد، يعمل صحافياً في البصرة في ذلك الوقت، وتطرق كتابه إلى وجود صراع بين الانفصاليين والمعارضين للانفصال. وصف المؤلف أعوان المخطط الانفصالي بأنهم"نفر قليل"ليس لديهم سوى قناعات ضعيفة: وما ان سمعوا الخطبة البليغة التي ألقاها فيصل عند وصوله، حتى غيروا أفكارهم وتخلوا عن خطتهم الأصلية. وحينئذ اختفى المشروع الانفصالي فوراً"كالملح في البحر".
ظهرت نبذة أخرى عن العريضة الانفصالية عام 1952، نقلها مراقب آخر معاصر للحدث. إذ كتب سليمان فيضي، السياسي البارز المؤيد للإصلاح في البصرة آخر العهد العثماني، عن حوادث عام 1921 في مذكراته بالتفصيل. ولم يكرر فيضي، الذي كان في بغداد حينئذ ولا بد من أنه استقى معلوماته من آخرين أخبروه بها، التهم بالاحتيال والتزوير كما فعلت الصحافة الوطنية عام 1922. مع ذلك، بقي يصر على التمييز الحاد بين الانفصاليين ومعارضي الانفصال استناداً إلى خلفياتهم الاجتماعية. وهو يصف الانفصاليين بأنهم فئة مترفة"لا هم لها إلا مصالحها... لا يردعها صوت ضمير أو نداء واجب"، وقعت"تحت ربقة الاستعمار"وخشيت أن تمس مصالحها بسوء، إذا ما تسنم عرش العراق ملك عربي وتولت الحكم فيه وزارة وطنية. وقد عارضتهم ثلة من شباب البصرة ممن تصدوا"لعبيد القوة". ولم يعط فيضي أسماء الانفصاليين، لكنه أدرج أسماء قلة من معارضيهم. وفي حين يفرز فيضي عدداً من رجال النخبة المحلية لدورهم في وضع هذه العريضة، فإنه يوجه الاتهام ضد المسؤولين البريطانيين في البصرة، لا سيما أحد القضاة، الذي زعم أنه هدد باعتقال معارضي مشروع الانفصال. ومن ناحية أخرى، لم يتخذ كوكس أي إجراء بشأن العريضة، لكنه احتفظ بها ليشهرها سلاحاً يساوم به فيصل عند التفاوض.
ولم يتبلور أي منظور جديد عن الحركة الانفصالية في البصرة حتى نشر عبد الرزاق الحسني عام 1974 طبعة جديدة من كتابه عن"تاريخ الوزارات العراقية". كانت الطبعة السابقة من الكتاب عام 1953 تطرقت بإيجاز إلى ذكر الحركة الانفصالية، لكن يبدو أنها اعتمدت في الأساس على النبذتين اللتين قدمهما البصير وفيضي. أما طبعة 1974 فتقدم مزيداً من التفاصيل. وهنا أيضاً يتم تصوير الانفصاليين بأنهم نخبة صغيرة ويورد أسماء عدة، وهي أول قائمة أسماء تظهر، في حين أن خصومهم من"الوطنيين العراقيين"كانوا من القوة بحيث هزموا المشروع وقبروه في"لحد عميق". وفي رأي الحسني، فإن بريطانيا لم تقتنع بدعم المخطط، لكنه بقي يعزو لقوى خارجية دوراً في هذه المسرحية: وقد اقتبس من سليمان فيضي قصة المسؤول البريطاني الذي هدد معارضي مشروع الانفصال بالاعتقال ? ومن دون أن يشعر القارئ بأنه غادر النص الأصلي - يدس صفة"اليهودي"قبل اسم المسؤول البريطاني.
أوجز المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو عام 1978 دوراً بريطانياً مثيراً أكثر للخلاف، وقد آلَّف بطاطو في دراسته بين المصادر العراقية والمصادر البريطانية، فقد ذكر المشروع الانفصالي للبصرة ومضاعفاته طوال العشرينات، ومن الواضح أنه يقرنه بحركة جزء بذاته من المجتمع البصري، وهو فئة الملاك الكبيرة. على رغم ذلك، زعم أيضاً أن بريطانيا هي التي أثارت هذه الحركة:"بالطبع لم يخلق البريطانيون النزعة الانفصالية لدى ملاك البصرة... لكن يبدو كما لو أن هناك دفعات بريطانية خفيفة على المنكبين في مكان ما". على أن بطاطو لم يكشف ما هي الطبيعة الدقيقة لهذه"الدفعات الخفيفة".
وأخيراً ناقشت دراسة عراقية عن البصرة في السنوات الأولى من الحكم البريطاني بتفصيل غير مسبوق كيفية تكون العريضة الانفصالية. إذ يختلف حامد أحمد حمدان التميمي عن الكتاب السابقين في إشارته إلى أن معارضي الانفصال كانوا يفتقرون إلى الدعم الشعبي في البصرة أيضاً. وهو يذكر، على سبيل المثال، أن السلطات البريطانية لم تساورها الريبة في استعمال البصرة مكاناً لترحيل مثيري القلاقل من الوطنيين العراقيين بعد ثورة 1920 ? وهي إشارة واضحة إلى أنهم أغفلوا أن يروا في البصرة مكاناً يغلي بأفكار الثائرين من المدن الجنوبية ومثلهم. غير أن الغموض الظاهر في ما يتعلق بدعم العريضة الانفصالية لم يتبدد، في عمل التميمي، مع الميل إلى إخراج مؤيدي المشروع وتهميشهم. وهو يصف أنصار الطلب الانفصالي بأنهم"فئة أرستقراطية مالية"، ويلاحظ أن دعم الحكم البريطاني كان التيار الأقوى السائد لدى التجار من أصول أجنبية بالتحديد ? كاليهود والأرمن والهنود والفرس. وهو يرى أيضاً أن بعض أفراد الإدارة البريطانية كانوا يعارضون السياسة الجديدة عن مملكة عربية مفضلين توجيه الدفة لمصلحة المخطط القديم في إلحاق البصرة بالهند. كان سليمان فيضي ذكر سدني سولومون أبراهامز في البداية بصفته"قاضياً"بريطانياً، ثم صار لدى الحسني"يهودياً"، وها هو الآن"يهودي متعصب". وقد أضاف التميمي أن الرأي العام الشعبي في البصرة كان"مشوشاً"جداً لأن خزعل شيخ المحمرة والسيد طالب لم يسحبا ترشيحيهما لعرش العراق حتى عام 1921 الغريب أن من أقنع خزعل بسحب ترشيحه هما المنديل والصانع. وعلى أي حال، فإن وجهة نظر التميمي لم تكن تختلف كثيراً عن التأويلات السابقة، وهي كون العريضة الانفصالية لم تحظ إلا بدعم قلة من المتنفذين البصريين.
توحي ردود الأفعال التي صدرت عن مؤرخين عراقيين آخرين حول كتاب التميمي بأنه حتى الدلالة المحدودة التي نسبها للعريضة كانت خطوة إلى الأمام في الموضوع. وأشار أحد مراجعي الكتاب إلى أن الوثائق الأصلية لطلب الانفصال لم تعرف هويتها أبداً، واقتبس الكاتب من مصادر مقربة من الشخصيات البصرية الرئيسة في بواكير العشرينات ممن أصروا على أنه لم تجر سوى مناقشة سريعة لفكرة الانفصال، ولم تحظَ هذه الفكرة بدعم محلي على الإطلاق. وفي عام 1980، بدا أن التأويلات العراقية المتصدرة للأحداث تشبه شبهاً كبيراً التأويلات التي قدمتها الصحافة العراقية في أوائل عام 1922.
اتضح المدى الذي صار فيه أثر سؤال البصرة قضية مثيرة للنقاش لدى السياسيين العراقيين أيضاً مع كتاب ألَّفه أحد وجهاء البغداديين من حقبة الانتداب، وهو توفيق السويدي، وقد نشر بعد وفاة المؤلف في عام 1987. وفي هجوم على مزاحم الباججي أحد خصومه السياسيين وهو بغدادي مثله، اتهمه السويدي من بين ما اتهمه به بأنه من كتب عريضة البصرة عن الانفصال، ووقعها في ما بعد"البسطاء والغوغائيون". وجاء الرد عليه عام 1989 بشكل كتاب عن مزاحم الباججي كتبه ابنه عدنان الباججي، مفنداً هذه الادعاءات، وواضعاً اللوم في الحركة الانفصالية على المعسكر البريطاني، مع الادعاء بأن المندوب السامي البريطاني اشترك فيها.
بقيت الكتابة التاريخية عن الحركة الانفصالية في البصرة في حالة جمود، طوال المدة التي ظل فيها حكم البعث في العراق. وكررت نبذة وجيزة كتبها جهاد صالح العمر عام 1989 في الأساس النظرات القائلة بوجود مصادر ثانوية. وفي عام 2003، أفضى الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة إلى إحداث تحول هائل، غيَّر أيضاً من مناخ كتابة التاريخ. فلم يبق هناك موضوع يمليه تيار قومي، رسمي، خصوصاً والرقباء الأميركيون يركزون على القضايا ذات النتائج السياسية المباشرة، ولهذا بدأت التأويلات البديلة في التاريخ العربي تقف أمام فرصة أفضل للعثور على تعبير عنها. ولذلك فمن المثير أن نجد مقالات تاريخية في الصحافة البصرية عام 2004 وصفت وصول فيصل إلى المدينة الخليجية عام 1921 من دون أن تتطرق أدنى تطرق إلى الحركة الانفصالية.
السياسة البريطانية ودعوات الانفصال
كانت ردود الأفعال البريطانية ككل على مشروع البصرة الانفصالي سلبية. وقد ندد كوكس صراحة بفكرة الانفصال في مقابلة له في نيسان مع المنديل والصانع، وكتب إلى لندن بأن مثل هذا المخطط"سيكون ضاراً بمصالح العراق ككل". وقال المندوب السامي، على غرار ذلك، حين بدأت عريضة البصرة تتخذ شكلها، إن هذا واحد من المشاريع التي من شأنها أن تعرض للخطر السياسة التي اتُّفق عليها في مؤتمر القاهرة، لذلك لا بد من"إحباطه". وعبّر مسؤولون كبار آخرون في إدارة كوكس عن وجهات نظر مشابهة. فأخبرت بيل مؤيدي العريضة بأن"دولة عربية في بغداد لن تترك بسلام أبداً البصرة تحت الحكم البريطاني، وأن أبناءهم وأبناء أبنائهم سيقفون إلى جانب الدولة العربية"، وحين استشارها وفد البصرة الانفصالي، نددت مرة أخرى بالمشروع بقوة.
وكانت ردود فعل لندن مطابقة تقريباً. إذ ردد الأركان في مكتب المستعمرات وجهات نظر كوكس، معلقين بأن المخطط"غير ملائم تماماً من الناحيتين السياسية والمالية". والمفارقة أن النفور من العناصر المؤيدة للبريطانيين في الأراضي المحتلة لم يُنظر له كمشكلة كبرى. كتب أحد المسؤولين البارزين:"قد نتعاطف مع مخاوفهم، لكن من الواضح أننا لن ننحرف عن سياستنا العامة". وسخر آخرون من فكرة أن توجد وحدة سياسية صغرى تقام في البصرة، مدعياً أن"اقتراح وجود جيش منفصل، ومجلس تشريعي منفصل... إلخ، يمكن أن يناسب العصور الوسطى، لكنه غير ذي جدوى في العصر الحاضر". واتضح المقت العام لازدياد المحميات الصغيرة والمكلفة في المنطقة في الطريقة التي أدارت بها دائرة المستعمرات الواعية بالثمن طلبات أخرى للاستقلال الذاتي خلال تلك الفترة، من بينها مخطط"لدولة آشورية ? كلدانية"مستقلة للأقليات المسيحية في أجزاء من ولاية الموصل العثمانية القديمة. وقوبل هذا الطلب في لندن بملاحظة متهكمة:"لو أن حكومة جلالته نفذت هذا الطلب ووضعت وقتها بين أيديهم، لطالبوا بتأسيس محمية مهمة في صحراء غوبي". أين تقع غوبي هذه فليست لدي فكرة عنها مع أنني عشت في الموصل أربع سنوات جامعية؟.
حتى هوبرت يونغ، الذي أشار في مكتب الشؤون الخارجية قبل سنة إلى تفضيله الإدماج البريطاني في منطقة البصرة، لم يكن متحمساً للمطالب الانفصالية. وصار يسهم الآن في بيئة جديدة لدائرة المستعمرات بالحجج لمناقضة مخططه السابق بالتدقيق في أن"تقسيم الأراضي المنتدبة هو شكوى كبيرة ترفع ضد الفرنسيين في سورية". مع ذلك، تشبث يونغ بأفكاره السابقة، واقترح تضمين لا مركزية محدودة في الشؤون الإدارية في قانون واحد مستقبلاً، بالإضافة إلى فقرة تسمح للأقاليم المفردة ومعها المناطق الكردية كوحدة أخرى يمكن أن تستقل أن تبقى تحت الانتداب البريطاني، إذا ما أريد للدولة ككل أن تنجز.
كان وزير الدولة، تشرتشل، جديداً على شؤون الشرق الأوسط. وجواباً عن السؤال عن تركيبة أراضي الدولة المقترحة، علق قائلاً إن لديه"ذهناً مفتوحاً تماماً"في ما يتعلق بالبصرة، وأن بديهيته الوحيدة في ما يتعلق بالمناطق الكردية كانت أن بريطانيا"يجب ألا تضع الأكراد تحت حكم العرب". لكنه أشار إلى تفضيله الاعتماد على كوكس "الذي يعرف وحده الموقف المحلي"، ولم يشأ أن يفرض عليه تعليمات. وفي خطبته في مجلس النواب يوم 14 حزيران، أعاد تشرتشل بقوة حجج المندوب السامي ضد مشروع البصرة الانفصالي. وعلى رغم أن بعض أفكار يونغ الثانية بقيت موجودة في برقياته اللاحقة إلى كوكس، فإن تركيزه الأولي في هذه المرحلة كان يكمن في إيصال فيصل إلى العرش: وما بقي من أسئلة حول التصورات الدقيقة عن أراضي الدولة فيجب أن يحلها المجلس التأسيسي الذي سيتشكل بعد اعتلائه.
وإذ تظهر هذه المواقف عن كبار المسؤولين في بغداد ولندن، فيمكن أن تُطرح جانباً فكرة أن مشروع البصرة الانفصالي صدرت عن مراكز القوة البريطانية. أما موقف بعض المسؤولين البريطانيين التابعين فمسألة أخرى، وهذا هو مستوى الإدارة الذي يوجه إليه المؤرخون العراقيون معظم الاتهامات. وكانت الإدارة البريطانية تشمل أفراداً من خلفيات اجتماعية مختلفة، ممن يحملون نظرات أيديولوجية متناقضة، ولا شيء يضمن أن يعيد كادر من الدرجة الثانية صوغ أفكار كوكس تلقائياً في المناطق البعيدة.
مع ذلك، فإن الدعاوى العراقية حول"المدرسة الهندية"في أوساط صنع السياسة البريطانية، باعتبارها المحرض على المشروع الانفصالي، تتناقض بوضوح مع السجل التاريخي لهذه الدائرة الخاصة في الآلية الإمبراطورية البريطانية. ولا يخفى أن آرنولد ولسن كان المعلم الروحي"للمدرسة الهندية"، الذي روَّج لفكرة التواصل الإقليمي الذي يمتد من الخليج حتى الموصل. وفي عام 1921، حين كان ولسن في منفاه الرحيم كمدير لشركة النفط الإنكلو ? إيرانية في عبادان المجاورة، عبَّر عن دعمه لفيصل بصريح العبارة، على رغم تحفظاته السابقة. وأوصل هذه النظرة في رسائل خاصة لموظفين سابقين تابعين له، كان يحيطهم بثقته، في مراسلة ذُكرت فيها الحركة الانفصالية الجارية في البصرة عرضاً ولم تصور إلا باعتبارها مشروعاً محلياً أصيلاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.