إنها ليست مجرد قصة عن محترف فنان تشكيلي اندثر من الوجود، بل هي قصة اغتيال مأسوية للمكان الذي شهد ولادة كل الأحلام والذكريات والآمال التي بناها الفنان على مر السنين. هذا الاغتيال تم أثناء القصف الإسرائيلي المركّز على منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث كانت ترقد أعمال يوسف غزاوي وزوجته الرسامة الشابة سوزان شكرون، فإذا بالمبنى ينهار فوقها ويحطمها ويأخذها إلى الهوة السحيقة من الأرض التي تبدو كأنها أصيبت بزلزال. تلك القصة التي رواها الفنان غزاوي وزوجته، في شريط وثائقي هو عبارة عن فيلم تسجيلي صامت بكاميرا غير احترافية، نقلت لحظة بلحظة هول الفاجعة أثناء عملية انتشال ما تبقى من اللوحات الناجية من تحت الأنقاض. وعلاوة على مناظر الضحايا وجثث القتلى المتفحّمة والأشلاء المتناثرة التي أدمت قلوب اللبنانيين في حرب تموز من العام المنصرم، فإن أكثر ما يؤلم في المربع الأمني هو مشهد الركام الهائل. الركام الرمادي لحطام طبقات المباني المفجوعة المتقطعة الأوصال. ومن أبرز ما التقطته عدسات المصورين لسكان الضاحية الجنوبية هي اللقطات التي تصور طريقة اقبال الناس على تفقد ما تبقى من محتويات بيوتهم، فكانوا ينقّبون ويقلّبون في طيات الخرائب، لعلهم يعثرون على القليل من المتاع أو الذكريات الغالية. كان"ألبوم"صور العائلة أشبه بالكنز، يفرحون به، لأنه سلم من يد العبث والتخريب. وأكثر ما خلّفه القصف هو ألعاب الأطفال التي هوت وتحطمت، حتى الدمى"قتلت"بدورها، إذ ان القتل لم يكن قصراً على البشر الأحياء بل انسحب على الجماد الذي تأنسن، وعلى إنتاج الفنانين التشكيليين. الخسران ليس إلا الخسران، وحين يتعلق الأمر بنتاج فني يعود إلى ثلاثين سنة خلت يكون تعب العمر قد ضاع هباءً."مئات الأعمال بكل التقنيات وصولاً إلى الموزاييك والزجاج المعشّق والمنحوتات، ناهيك عن مكتبة منوّعة تحوي آلاف الكتب غلب عليها الفنيّ الملون الباهظ الثمن، تلاشى كل شيء بكبسة زر من هذا الطائر الشيطان. وهذه الأعمال التي استطعنا انتشالها بعد توقف العدوان، هي أشلاء أعمال وآهات ألوان وأشكال ثكلى فقدت الكثير من رفيقاتها وأمهاتها وآبائها". هذه الخسارة كما يقول غزاوي، ليست الأولى التي يتعرض لها في حياته، فالأولى كانت في بلدته الخيام الجنوب اللبناني عام 1977 التي أودت بأعمال تعود إلى مراحل الطفولة، والمرة الثانية كانت عام 1982 أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي أدى إلى تدمير المبنى الذي يقطن فيه، وبالتالي فقدان معظم أعماله التي تنتمي الى المرحلة الأكاديمية مع المكتبة، وها هي المرة الثالثة التي يتعرض فيها محترفه للتدمير. ما تبقى من أعمال يوسف غزاوي، ليس إلا ومضات من مراحل متعددة تعرضت لأنواع من التشويه والتقوّض والتمزيق. تطل بعض لوحات البورتريه التي رسمها لوجوه عائلته، وهي تنم عن مقدرته في التشخيص، إلى جانب بعض الأعمال الواقعية ذات الطابع الأكاديمي، وهي تعبّر عن المسار التصاعدي الذي حمل بصمات دراسته في باريس حيث شارك في تنفيذ أعمال جدرانية في معارض الفنون الشابة الباريسية، وتحمل أيضاً انفتاح تجربته على التقنيات المتنوعة بين الموزاييك وفن الزجاج المعشق. ويشهد أسلوبه في مرحلة لاحقة - امتدت من منتصف الثمانينات إلى منتصف التسعينات من القرن العشرين - على تحوله نحو التجريد الغنائي. ومن ثم جاءت العودة إلى التشخيص من خلال استعادة ذاكرة تاريخ الفن، في أسلوب الواقعية الجديدة المستمدة من فن البوب - آرت والتجميع بالمواد المختلفة. ولئن بدأ غزاوي مساره المهني للفن من خلال التعليم، فهو تعرّف أثناء مزاولته التدريس إلى إنتاج طفلة موهوبة ذات تطلعات متميزة، فاحتفظ من لوحاتها الطفولية بلوحةٍ من دون أن يدري أن هذه الطفلة ستغدو تلميذته على مقاعد الدراسة في معهد الفنون الجميلة - الجامعة اللبنانية، ثم زوجته. "سوزان الجميلة"كما رسمها غزاوي هي من المفارقات السعيدة التي أوجدها القدر في دربه، وهي الرفيقة في الفن التي ابتكرت لنفسها كينونة خاصة، تمثلت في موضوع"عالم النسوة"الذي تطرقت إليه بأسلوب تعبيري متحرر يعكس شغفها بالألوان القوية، كشغفها الجارف بالحياة ومناظر الحقول. ثمة وجوه ممزقة لم يبق منها غير نظراتها الحادة، فالعجوز الثكلى تبدو كأنها رُسمت بعد الحرب وليس قبلها. أما التجريديات فهي كبحيرات لونية تطفو على ظاهرها الثقوب والحروق، فضلاً عن اللوحات التي قوضت إطاراتها، اثناء اللوحات الحزينة التي أحنى ظهرها العدوان ومناظر الأشجار المنكسرة الأغصان والجذوع. ولئن كان التشويه والتّعمد في التثقيب والحرق والهدم هي من سمات فنون ما بعد الحداثة وإرهاصاتها، غير أننا نخشى أن نقول إن هذه الندوب والأثلام والتمزقات أضفت على هذه الأعمال الفنية قيمة تعبيرية جديدة، اتسمت بالتهكم والسخرية والقوة في آن واحد، وهي قيمة يمكن استغلالها لاحقاً في وسائل محدثة من العرض والتعليق والتجهيز. تبدو الهوة بين الفنان وماضيه التشكيلي هي الهوة نفسها بين ما كانت عليه هذه الأعمال الفنية، وما تلقته من تغييرات في مضامينها وأشكالها وتوجهاتها. لعلها أصبحت أكثر إيلاماً في جروحها الجديدة وإنسانيتها المضافة. لعل صراخها بات أقوى وأكثر وقعاً وتأثيراً في العين والضمير.