واليوم تهتز بغداد ثانية امام عمليات تدمير تراثها تدميراً منظماً. فبعد فاجعة شارع المتنبي، التي حصدت عشرات الارواح وأحرقت ملايين الكتب واتت على اشهر المكتبات فيه لتحيلها جدراناً سوداً تفيض بالرماد ورائحة الدم... يأتي تفجير"جسر الصرافية"، اقدم جسور العاصمة واكثرها ارتباطاً بوجدان انسانها، فهو ليس مجرد جسر، مثله مثل بقية الجسور القديم منها والحديث، وانما هو تاريخ، وطراز هندسي خاص، وذاكرة حية توارثها الاحياء عمن رحلوا حتى اصبح التعلق بهذا الجسر، عند البغداديين، حالاً وجدانية. - فهو تاريخ من كونه اول جسر شيدته اول حكومة وطنية ولدت بعد خروج العراق من"الدائرة العثمانية"وبناء كيان العهد الوطني بعد احتلال بريطاني قال قائده الجنرال مود، اوائل القرن الماضي - كما قال الجنرال الاميركي اوائل القرن الحالي، في عملية احتلال بغداد ايضاً:"جئنا محررين، لا فاتحين"- ولكن الفارق هو ان اولئك"حرروه"من"نظام الدائرة العثمانية"، وهؤلاء من"نظام صدام حسين". وقد اصبح هذا الجسر- الذي هو اعلى جسور بغداد عن سطح النهر - اول جسر ثابت، بعد ان كانت"الجسور العثمانية"وحتى سنوات طوال من"العهد الوطني"جسوراً عائمة، لم يعتمدها الناس في العبور بين ضفتي النهر الكرخ والرصافة بقدر ما اعتمدوا"الزوارق النهرية"و"العبارات"و"القفف"جمع قفة... للسهولة ...والمتعة ايضاً. - وهو جسر ذو طراز هندسي خاص، يثير الاعجاب، وخصوصاً في تشابكات سقفه المؤلف من صفائح حديد اضفت عليه مسحة من جمال، وكذلك في امتداد سكة حديد القطار على جانبه الشرقي، وامتداد هذه السكة على ركائز تتواصل مع سدة ترابية لتربط منطقة الصرافية بآخر امتداد لمنطقة الوزيرية، حيث يمر القطار الصاعد من بغداد، والقطار النازل اليها - والذي اعيد احياؤه في السبعينات من القرن الماضي ليربط بين"المحطة العالمية، و"مدينة الثورة"- على الاطراف الشمالية من بغداد، فكان متعة اخرى من مشاهد المتع اليومية في حياة البغداديين، فضلاً عن ممر ضيق للسابلة على الطرف الآخر منه. - ومن هنا، فهو جزء حي من الذاكرة الشعبية، كثيراً ما تجد الناس يعبرونه مشياً بين الصوبين الكرخ في منطقة العطيفية والرصافة في منطقة الوزيرية اكثر مما يفعل سكان المناطق القريبة من الجسور الاخرى التي انشئت في ما بعد، حتى ان بعض المؤرخين العراقيين قال، وهو يتأمل المشهد الذي آل اليه هذا الجسر"بالامس شيعنا ابا جعفر المنصور، مؤسس بغداد في اشارة الى نسف تمثاله القائم في احدى الساحات، وبكينا اندثار شارع المتنبي واقدم مقاهيه مقهى السابندر، ملتقى المثقفين في هذا الشارع، واليوم نرثي جسر الصرافية". وتساءل:"ترى ماذا سيكون الهدف غداً؟"مضيفاً:"إن بغداد تتعرض للاغتيال، ولحملة ابادة منظمة، لا تشمل انسانها وحده، بل تراثها ايضاً"... متسائلاً:"عمن سيوقف المجزرة؟!".