يُعتبر جان بول ريوبيل أحد أبرز التعبيريين التجريديين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك ضمن كوكبة التجريديين الغنائيين في باريس. والفارق بين الاتجاهين التجريديين يعكس الفارق والتنافس بين مدرستي باريسونيويورك في بداية الستينات من القرن الماضي. هو الممثل الوحيد لهذا التوليف، قد يكون أقرب الى جاكسون بولوك في الولاياتالمتحدة منه الى زملاء من جالية باريس مثل ماتيو الذين شاطرهم تاريخ التجريد خلال ثلاثين سنة. السبب بسيط، وهو أنه الوحيد بين المجموعة من أصل كندي: وُلد في مونتريال 1923 التي حافظت على الثقافة واللغة الفرنكوفونيتين حتى اليوم. عندما قرر عام 1948 الإقامة والاستقرار في عاصمة التشكيل: باريس، حافظ على حركة أسفار بندولية متراجحة بين ضفتي المحيط الأطلسي، ما بين باريسومونتريال، وحتى توفي في باريس عام 2002. وأخذت معارضه التكريمية تتقاطر لتظهر أهمية تجربته تاريخياً، فقد انحسر ذكر أمثاله في ضجيج فناني"ما بعد الحداثة"ما بعد السبعين. كان أقيم له قبل أربع سنوات معرض تكريمي في باريس لكن المعرض الذي أقيم أخيراً كان أبلغ عناية وبانورامية، أقامه متحف"كانتيني"في مرسيليا. لا شك في أن أسفاره وشروده المزمن بعيداً من"المكان الأم"منح تجريده طابعاً شمولياً، وقد يكون اختفاء ذكره يرجع الى عودته الى كندا منذ عام 1992 بطلب من تحف مونتريال وبعض جامعي اللوحات لتكليفه بمجاميع عملاقة من اللوحات. حركة معارضه البارزة بين باريسومونتريال وتورنتو ونيويورك ولندن، تركت في مطار تورنتو مثلاً أكبر أعماله، عمل بقياس 5.5-4.5م، ومثّل كندا في بينالي فينيسيا لدورة عام 1962. أما تمسّك كندا به فيرجع الى أنه الفنان العالمي الوحيد الذي يمثلها، وقد جمعته صداقة متينة مع سام فرنسيس وكالدير وبيكيت. مع ذلك نرى النقاد الفرنسيين يعتبرون تجريده جزءاً من المدرسة الباريسية الغنائية، هو التجريد الذي صنعته إقامته ومعاشرته لتاريخ المعاصرة والحداثة في باريس. يبدو هذا الانتماء أقرب الى الواقع منه الى الانتساب الورقي أو الإداري، إذ هناك تداخل مثبت بين مدرستي باريسونيويورك في الستينات، هو ما سمح لتجربة ريوبيل أن تكون البرزخ بينهما. يمثل تاريخه الحد المتوسط بين المدرستين، ظهر الميل السوريالي في بدايته بتأثير أندريه بروتون، ونجده بصيغة موازية يؤسس"جماعة التداعي"منذ عام 1948، التي تبشّر بمداهمة اللوحة بصيغة حدسية صدفوية من دون أدنى تصور قصدي مسبق، وهي التقنية الفرويدية الأوتوماتيزم التي اعتمدها زملاؤه في باريس مثل هنري ميشو وأندريه ماسون وماتا، ووصلت في مدرسة نيويورك ابتداء من مؤسس التجريد فيها الأرمني أرشيل غوركي، وانتهاء بنظيره جاكسون بولوك. بل ان ريوبيل استعار من جاكسون طقوس انجاز لوحته: مرة بصيغة"أفقية"بوضعها على طاولة أو على الأرض ومرة بصيغة عمودية كما ستعرض. لمع اسمه عالمياً بسبب قوة شخصية لوحاته وتمايزها، وذلك إثر استغراقه في الاستلهام من الطبيعية، خصوصاً من المشاهد التي تثيره من الطائرة، لدرجة أنه كان يرفض أن يقبل صفة"التجريد"في لوحته. يجيب ذات مرة أحد النقاد بنزق صريح أنه"لا يقبل أن تكون مناظره تجريداً"ويصل بفكرته حداً أبعد عندما يؤكد أن"موندريان لا يصور تجريداً وإنما يصور هولندا". كان على قناعة بأنه يصور المسافة الجغرافية التي تقع بين باريسومونتريال. يستخدم السكين بدل الفرشاة ليحمل الى اللوحة مواد سخية كثيفة الصباغة وذلك ضمن نواظم عفوية من رصفات تربيعات لمساتها اللونية، حتى لتبدو لوحاته العملاقة وكأنها ملحمة بانورامية لا تحدها حدود من المرايا المتعاكسة والألوان المقزّحة كاليودوسكوب، فمختبره التنغيمي يعتمد على مشكاة من الأنوار المتعاكسة المستقاة مباشرة من أضواء المناظر الطبيعية. هي التي تميز موقع محترفه في وسط غابات ريف باريس، مثله مثل الانطباعيين. لعله ولهذا السبب يصرّ النقاد الفرنسيون على انتساب فسيفساء موزاييك لوحته الى ما بعد"التجزيئية"الانطباعية، وأنه يصوّر مشهداً مجهرياً - فلكياً مأخوذاً عن لوحاتهم. هو نفسه كان يقر بهذه الحقيقة التي تشع من معرضه البانورامي الراهن.