يذكرنا الفنان التشكيلي محمد الروّاس بالتصوير الكلاسيكي، بأصوله وقواعده الأكاديمية التي كدنا ننساها. وهو إذ يردم الهوة بين حقبات الفن وأزمنته، في مزجه بين قديمها وحديثها، يسعى الى نوع من المصالحة أو المقارنة الاستدلالية التي لا تخلو من الانتقاد والسخرية، فتغدو اللوحة مصدراً للتأمل والاستفسار عن الإلهامات والمضامين والأفكار والتأويلات في حضرة التعبيرات الجمالية للسطوح والأحجام والأبعاد والملامس المتمثلة بالوسائل التقنية التي يسيطر عليها الفنان ببراعة. تبدو الصورية المقرونة بالتشخيص في فن الروّاس، مزيّة أساسية في حضورها شبه الفوتوغرافي. فالواقعية المفرطة Hyper rژalisme هي أول خطاب للعين، تستدرج وتغوي وتحيل الى بؤر وتقاطعات وتجسيمات ومناظر طبيعية وحجرات مؤطرة وأشياء عبثية تتفرق لتجتمع في ضرورات الفكرة. ولأن هذه الواقعية تنطق بالحضور الإنساني، فهي تثير الدهشة بدقتها وإتقانها، ومنها تبدأ رحلة الاكتشاف عن أحجية الموضوع. في جديد الروّاس المؤلف من 18 لوحة زيت وأكريليك وتجميع لمواد مختلفة، من بينها لوحتان رسم طباعي بالحبر يعرضها في غاليري عايدة شرفان، يستكمل الفنان مساره التصاعدي الذي طبع انتاجه في السنوات الأخيرة، بالوسائل نفسها: الأدوات والخامات المتنوعة والمواد المجمّعة التي اعتدنا رؤيتها من خردة نظيفة ولماعة وألعاب ودمى تدخل كعناصر جاهزة Ready Made، فضلاً عن الخشب والأسلاك والمعادن والأنابيب. هكذا يتوسع دور المحترف ليشتمل على محتويات مشغل أشبه بورشة نجارة وحدادة وصياغة. يلمّح الروّاس في أحد أعماله إلى المرأة - الملهمة التي تغادر الفنان لتنفرد بالطبيعة، وفي لوحة"المحترف"تدخل من الباب امرأة بلباس البحر في الوقت الذي يكون الفنان قد ترك لوحاته معلقة على الحامل، بعضها عبارة عن دراسات تحضيرية وواحدة شبه مكتملة تصور فتاة تقوم بتمارين رياضية. والمرأة في اللوحة ليست إلا دمية، وعالم المحترف ليس إلا عالماً افتراضياً نظيفاً خالياً إلا من الاسترجاع لذاكرة الفنون الماضية المتمثلة في حضور"الصيّاد وزوجته"المقطوفة من لوحة لوي غاليه. لكأن الإشارة الضمنية والمبطّنة تحفل بهاجس اصطياد النموذج - المرأة في اللوحة واقتناص لحظاتها داخل جدران المحترف. أما البحث عن عواطف المرأة فيتراءى في لوحة"فن الاستنساخ"حيث تبدو بطلة اللوحة"آنا"في حالٍ من الريبة لما ستؤول إليه نتيجة استنساخ صورتها الآدمية، لذا تظهر في جانب اللوحة صورتها المستنسخة على مسافة من منظر لمبنى تغمره شمس الصباح في طمأنينة لا يشوبها إلا ارتباطها بالخطوط المنكسرة إلى الداخل. فالأمكنة مسالمة بينما الإنسان قلق. أليست الريبة هي من سمات العصر التكنولوجي المرتبط بعالم الاتصالات والأنترنت والاختراعات العلمية التي جعلت صورة الإنسان أقرب إلى الواقع الافتراضي. هكذا يخاطب الروّاس الواقع من عتبات الوهم في عصر أصبح المراهقون والفتيان على علاقة يومية بشخصيات تتحرك في فضاءات مخيلتهم، شخصيات وهمية باتت لها هوية وأسماء وسلوكيات في ألعاب الفيديو والبلاي ستيشن Video Game وال Play Station. هذه الألعاب التي استقدمها الروّاس إلى حقول اللوحة وزواياها وهوامشها، ليشير الى طغيانها على السمة الثقافية للعصر. ثمة علاقة بين المرأة وحكايات طفولتها ومرآتها ونوافذها وأوهامها وكينونتها، تتجلى في بضع لوحات تكتنفها نزعة استرجاعية منها: ليلى والذئب، والرقص مع الذئاب. فالقصة التقليدية يرويها الفنان بأسلوب التحريف الساخر Parodie أو الطريف أحياناً، في تأمل لموروثات الذاكرة من الحكايات والأساطير المعطوفة على إسقاطاتها المباشرة. وكذلك فإن الاسترجاع من ذاكرة تاريخ الفن، لا يأتي كل مرة لدواعي الإعجاب بلوحة، أو بمفردة منها بل غالباً ما يكون مضمونها محرضاً لهتك قدسيتها بالمعنى الميثولوجي الجامد. وفي هذا النوع من الهتك ذي المنحى الدادائي تطل لوحة"دم على قميص يوسف"المأخوذ موضوعها من لوحة فيلاسكيز حيث من بطاقة صغيرة تحمل صورة اللوحة كاملة، يجتزئ الروّاس منها المشهد الذي يحمل فيه اثنان من أخوة يوسف القميص الذي بدل أن يظهر ملطخاً بالدم نراه يحمل فئة دم AB+. وينقلنا بطريقة مفاجئة من أسلوب التصوير الكلاسيكي وفق تقنية الترانسفير Transfert الى قميص من معدن معلق على حبل غسيل تقف الى جانبه فتاة استعراض من فريق رياضي جاءت الى مسرح اللوحة من سبيل الخطأ. وفي هذا الوجه الاستعاري ثمة غرائبية تصنعها الصدمة من استحضار الماضي ثم خيانته. هكذا يأتي فعل التجميع بدينامية لافتة، ناتجة من التقطيع المشهدي المكوّن من الحقيقة ونقائضها، من حركة القطع والوصل والتشييد والتأليف والتوليف، من لعبة الخطوط المستقيمة والمنحنية، والمضيء والمعتم، والفضاء المديني وآفاق الطبيعة الخلوية، في استكشاف جديد ليس للواقع بل لما وراء الواقع أو فوق الطبيعة. محمد الرواس ميتافيزيقي في رؤاه، وهذه الميتافيزيقية قائمة على التضاد المتأتي من تجاور عناصر هجينة مجلوبة من أزمنة متعددة الثقافات والتقاليد. وهو متطلّب في فنه، وهذا التطلب يجعل كل عمل يدخل في أطوار وتصورات واحتمالات تذهب الى الصناعة الحِرفية الدقيقة. صاحب موقف، له فلسفته الخاصة في الحياة كما في الفن. له اجتهادات وتأويلات يحضنا على اكتشافها من خلال عناوين لافتة مقروءة على ظاهر اللوحة كرسالة تعكس مضمونها بالضرورة. يشغفه الجمال التشكيلي الناتج من المواد والتقنيات التي من شأنها ان تمنح العمل ثراء بصرياً متطرفاً في نظامه وهندسته وإن وصل الى التكلّف. وهذا الثراء ناتج من التنوع والتناقض في ملامس اللوحة الثلاثية البعد، وما يكتنفها من طبقات متعاقبة وسطوح مشغولة، وألوان مشبعة ومخففة، ساطعة وجلية. فكل لوحة هي اجتهاد لفكرة، هي نافذة على الماضي والحاضر، تختلط فيها وحدات القياس والأرقام والألعاب والرقائق المعدن والقطع الصناعية والحروف المكتوبة وقطع الخشب والعجلات المسننة والبراغي والأسلاك، وما لا يحصى من الأشياء المنمنمة، تتجاور وتتقاطع في علاقات معقدة ومتعددة المظاهر، لكي تندمج تناغمياً مع تقنية الرسم والتصوير غالباً الريزين والأكريليك، من دون أن تلغي إحداها الأخرى. صائغ أشكال حفّار ومهندس يهوى البحث عن الغريب والمميز في تقنية التجميع التي هي منهج السورياليين والواقعيين الجدد وفناني البوب - آرت روشنبرغ وجونز، مع انه لا يصدق ما تمليه التيارات والمدارس، فهو لا يتبع سوى ولعه بالفن والهندسة والإنشاء التركيبي الذي يحسن توظيفه جمالياً. نظاميّ مرتب يرفض العشوائية والفوضى، يَعتبر الفن كياناً منظماً. فهو يكسر الرؤية الأحادية بالتعددية، كما يكسر الأفقي بالعمودي، والتصويري - اليدوي بالجاهز، على أساس أن الحقيقة تكمن في عالم مركب من أجزاء. وهو عالم مملوء بالاستعارات والتناقضات تندمج فيه صورة الإنسان بالطبيعة التي يؤطرها بقضبان وفق أشكال هندسية، حيث أشجارها من الخشب وحلّتها من ضوء النهار، وبيوتها لا يدشنها إلا الهواء. وهي طبيعة نظيفة ومثالية غير موجودة إلا في الحلم، ولأنها مستحيلة فهو يرسمها على هذا النحو كإطار مكاني ومسرح لكل التداعيات والاختبارات التي تذهب الى أبعد من الخيال.