المتغيرات الاجتماعية والفجوة بين الأجيال أصبحا من المواضيع الملحة والمطروحة على مستويات عديدة في شتى أنحاء العالم. وبالطبع هي مطروحة في السينما منذ سنوات، لكن يبدو أنها تمثل أهمية خاصة في المجتمع الصيني خصوصاً ان الصين تمر في مرحلة انتقالية حيث تغيرت أوجه الحياة والمجتمع فيها بصورة متزايدة خلال السنوات القليلة الماضية، لذا طرحت هذه المواضيع في اكثر من فيلم في الآونة الأخيرة منها مسلسل تلفزيوني شعبي 2004 الذي حوى عرضاً للمستجدات الاجتماعية السلبية على المجتمع الصيني متمثلة في العنف واللامبالاة بالآخر والعلاقات غير المستقرة بين الآباء والأبناء، منها أيضاً فيلم"الطريق"2006 الذي قارن ما بين زمنين معاصرين: عهد ماوتسي تونغ والصين اليوم، وذلك من خلال امرأة عاشت الزمنين لكنها كانت اكثر انتماء لقيم الزمن القديم. أما في"الحديقة"2007 الذي فاز بجائزة لجنة تحكيم النقاد الدولية في مهرجان مانهايم الألماني السادس والخمسين، فقد عرضت مخرجته الشابة بين لينكوان المتغيرات الاجتماعية ذاتها لكن من خلال خط رئيس ومختلف هو الفجوة في الآراء والقناعات بين أب محافظ ومتقاعد من الجيش وابنة متحررة الى حد ما من التقاليد الاجتماعية البالية. جون، تقرب من الثلاثين، وتعمل مراسلة تلفزيونية، أبوها لا يزال مهتماً بأمورها ويخشى أن يفوتها قطار الزواج فيترك قريته ويذهب لزيارتها في المدينة التي تعيش وتعمل فيها، ويخبرها انه سيذهب الى حديقة المدينة من أجل إيجاد عريس مناسب لها حيث من التقاليد الصينية المعروفة ان يتقابل الآباء في الحديقة لاختيار زوج أو زوجة لأبنائهم من طريق تبادل المعلومات والصور، ترفض جون هذه الطريقة التقليدية خصوصاً أنها تعيش مع صديقها هو سونغ الذي يترك الشقة عند مجيء الأب. وبدوره يعترض الأب على هذه العلاقة الحرة من دون زواج"أساس المجتمعات المستقرة هو الأسرة القائمة على الزواج"لكنها تجيبه أن"الزمن تغير ولا أحد هنا يريد درساً في السياسة". على مدار أحداث الفيلم تفاجئ الأب أشياء وسلوكيات غريبة لم يشهدها من قبل في مجتمع المدينة، أهمها صديق ابنته السابق الذي يتحول عنها ويتزوج رجلاً، يصطدم شخص به ثم يسير في طريقه من دون اعتذار، وهو نفسه تسرق حافظة نقوده في محطة القطار ومن ثم يواجه بإهانة شديدة من محصلة التذاكر التي اعتقدت انه يتظاهر بفقدانه حافظته. لاحقاً عندما تعتقد جون أن هو سونغ تخلى عنها، توافق على اقتراح الأب بالزواج من طريق الحديقة وتختار أحد المتقدمين لكن يستمع الأب مصادفة الى ذلك الرجل وهو يتحدث مع شخص آخر قائلاً له إنه يحاول أن يجاري فقط رغبة أمه في تزويجه لكنه يحبه هو وسيظلان معاً الى الأبد. وهنا تحدث للأب صدمة حقيقية يشعر بالإعياء والضعف على أثرها ويقرر العودة الى قريته. ما الفارق إذاً بين فيلم"الحديقة"والأفلام الأخرى التي تناولت الموضوع نفسه؟ الفارق هنا أن المخرجة عالجت الموضوع في شكل شاعري وأسلوب يميل الى التأمل ومن دون مباشرة مخلة سواء في الحوار أو الأحداث، كما يتمتع فيلمها بلغة سينمائية راقية وسليمة وكانت في خدمة الموضوع. فعندما يترك الأب محطة القطار في المشهد الافتتاحي كانت الكاميرا التي تتابعه ثابتة ومستقرة، وقد كانت كذلك في معظم مشاهد الفيلم، لكن عندما تسرق حافظته، في محطة القطار أيضاً، وكانت هذه آخر الصدمات الكثيرة التي تعرض لها عبر أحداث الفيلم وأثرت فيه سلباً يثور الأب وتنقلب الدنيا في عينيه رأساً على عقب، وهنا تستخدم الكاميرا المحمولة مرة يتيمة في الفيلم، وكانت غير مستقرة كما حال الأب وكانت لاهثة مثله وعبرت عن توتره الداخلي وغضبه الظاهري. استخدام الكاميرا المحمولة هنا كان في الموقف المناسب تماماً ولم يكن مجانياً كما في أفلام أخرى. استخدمت المخرجة أحجام اللقطات في صورة مثالية فلم تأت أول لقطة كلوز إلا بعد حوالي 30 دقيقة من 97 دقيقة هي زمن الفيلم وكانت في مكانها الصحيح أيضاً، كانت لوجه جون عندما أحرجها أبوها أمام سونغ وقال له إن"ابنتي لم تعد صغيرة السن"، وهنا اقتنصت الكاميرا في هذه اللقطة القريبة مشاعر الأسف والحرج على وجهها. اللقطات المتوسطة كانت أيضاً متوازنة وكأن المخرجة لا تريد للمشاهد أن يأخذه الاستغراق العاطفي في الأحداث لكن أرادت له أن يستوعبها أيضاً بعقله ومن هنا سادت اللقطات الطويلة البعيدة معظم مشاهد الفيلم. أداء الشخصيتين الرئيسيتين وانغ دشون في دور الأب، ولي جيا في دور الابنة ساعد على تحقيق ذلك التكامل في هارمونية حركة الكاميرا وحجم اللقطات والأداء الدقيق غير المبالغ، وأيضاً الكادرات المدروسة بعناية بألوانها الصحيحة والمريحة للبصر، على رغم ضيق مساحة شقة جون التي دارت بها معظم الأحداث، استخدمت المخرجة أبوابها وحوافي حوائطها والمرايا الموجودة فيها في صنع إطارات ثرية. موسيقى الفيلم أيضاً ألفت بحرص ونعومة ولم تكن كذلك مجانية إنما وظفت في توقيتها الصحيح، حتى لحظات الصمت بالفيلم، تلك التي تبادلها الأب وصديقه القديم في"تراس"شقة الأخير، كانت دالة وأبلغ من أي حوار يمكن أن يعبر عن شعورهما الداخلي، وتكتمل شاعرية الفيلم بالمشهد الأخير الذي يحدث فيه التصالح بين الأب وابنته وتتذكر فيه الابنة كم كان أبوها يحرص دائما على إسعادها وهي صغيرة خصوصاً أن أمها رحلت عندما كانت في الثالثة من عمرها وكيف هي لا تشعر بالأمان إلا في وجوده حتى الآن، لذلك لم يكن غريباً ان يثني مايكل كوتز على جائزة لجنة تحكيم النقاد الدولية، وربما لن نتعجب كثيراً أمام هذه المعالجة الشاعرية النادرة في أعمال الشباب إذا عرفنا أن المخرجة كاتبة وشاعرة في الأساس.