بين جميع المخرجين الأميركيين السينمائيين الكبار الذين ظهروا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يكاد ستانلي كوبريك 1928 - 1999 أن يكون وحده مبدع الفن السابع الذي لم يقترب أبداً من العمل في التلفزة. فهو، على عكس غودار وفاسبندر وسبيلبرغ وفون تراير وحتى أورسون ويلز الذي غالباً ما يقارن به، كان من حب الوصول الى الكمال الفني المطلق في أعماله، الى درجة كان يرى معها أن أفلامه أكبر من الشاشة الصغيرة. فبالنسبة الى مخرج كان معروفاً أن هوسه بالتميز التقني والفني كان يدفعه الى التوجه، خفية، الى صالات لندنية تقدم العرض الأول لواحد من أفلامه، كي يتحقق أن كل شيء في العرض على ما يرام ساعياً الى ضبط الصوت والصورة في غرفة آلة العرض بحيث لا تكون ثمة شائبة، بالنسبة الى مخرج كهذا، ما كان يمكن أبداً لأي عرض تلفزيوني أن يرضيه. ومن هنا ندر أن عرض واحد من أفلامه على الشاشات الصغيرة خلال حياته. أما الآن فإن مثل هذا العرض بدأ يحصل ومن المؤكد أنه سيحصل أكثر وأكثر بالنسبة الى أفلامه الثلاثة عشر التي حققها خلال ما يقرب من نصف قرن. وإذا كانت شاشة قناة"آرتي"الثقافية النخبوية الفرنسية - الألمانية، اختارت أن تعرض هذا المساء تحفته قبل الأخيرة"سترة معدنية كاملة"فإن هذا العرض ينبع، أيضاً، من عاملين. أولهما أن هذه الأيام تشهد مرور عشرين سنة على إنجاز هذا الفيلم. وثانيهما - وهذا لا يقل أهمية عن ذاك - هو ان الوقت قد حان ووضع الجيوش الأميركية على ما هو عليه في وحول العراق وغبار أفغانستان، أن تأتي السينما لتذكر بما كان من شأن السياسة العسكرية الأميركية في فيتنام، عشية الهزيمة الكبرى التي أصابت واشنطن هناك. فحتى إذا كانت تتكاثر اليوم الأفلام المتحدثة، سلباً، عن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، كان لا بد لفيتنام من أن تطل برأسها من خلال السينما طالما أن التاريخ يبقى المعلم الأكبر. وطالما أن السينما صورت هذا التاريخ في أفلام رائعة ذات نفس متقدم وروح احتجاجية... لا سيما تاريخ الحرب الفيتنامية، التي أثقلت ولا تزال، على ضمير الأميركيين وخصوصاً المبدعين منهم. والحال أننا إذا ذكرنا سينما الحرب الفيتنامية، من المؤكد أن"سترة معدنية كاملة"سيكون واحداً من أفلام أميركية تتناول هذه الحرب بقوة إدانة استثنائية، الى جانب"يوم الحشر الآن"و"صائد الغزلان"وپ"مولود يوم 4 يوليو"وغيرها. ومع هذا لم يصور أي من مشاهد"سترة معدنية كاملة"في فيتنام، ولا في أميركا حتى. فستانلي كوبريك، الذي اعتمد في الفيلم على نص لغوستاف هاسفورد، صور الفيلم كله في بريطانيا، حيث كان يقيم منذ بارح هوليوود أوائل ستينات القرن العشرين، احتجاجاً على سياساتها وضيق أفق القائمين عليها. بل هو صور معظم مشاهد الفيلم في مصنع متوقف من العمل لا يبعد كثيراً من بيته. لكنه تمكن، على أي حال، من أن يقنع ملايين المشاهدين بأن قسمي الفيلم يدوران حقاً في أميركا وفي فيتنام. ذلك أن"سترة معدنية كاملة"ينقسم قسمين يقدم لنا أولهما طقوس وتفاصيل تدريب المارينز الأميركيين للقتال في فيتنام، والثاني، مشاهد من ذلك القتال نفسه في أرض المعركة. عبر هذين القسمين تمكن صاحب"لوليتا"و"خطوات المجد"وپ"دكتور سترانجلاف"من تصوير الجانب الذي كان يهمه أكثر، من تلك الحرب: الجنون البشري. وعبثية هذا القتال الحيواني الذي يسمى الحرب. والجنون في الفيلم يبدأ من هناك حيث تدور التدريبات التي تحول الشبان العشرينيين الى مجرد حيوانات ضارية سيكون أمامها اختيار من اثنين: إما أن تَقتل أو تُقتل، تحت وقع إرهاب لغوي وضغط نفسي يفرغ الشاب من أي روح. وفي الفيلم تكون لهذا كله نتائج مرعبة: بدءاً من انتحار مجند شاب في مكان التدريب، وصولاً الى انكباب عشرات المقاتلين هناك بعيداً في أرض المعركة، على مقاتلة ثم قتل صبية فيتنامية في شكل مرعب. لن ندخل هنا في التفاصيل أكثر. فقط نحيل الى هذا الفيلم، الذي قال قبل عشرين سنة، ما يمكن قوله اليوم في حذافيره... ويمكنه اليوم، إذ يُعمّم على الشاشة الصغيرة، أن يقول الكثير لمن لا يزالون يعتقدون أن السلاح والقتل وكل ضروب الإرهاب قادرة على حل المعضلات السياسية. * يعرض في الساعة 19.30 بتوقيت غرينتش.