في وسط مدينة خروننكن الشمالية وفي غاليري "فن في المقدمة" التي تعد من اكبر أماكن العرض، يقيم الفنان العراقي ستار كاووش معرضاً هو الأكبر والأكثر جرأة ومغايرة له منذ إقامته في هولندا، وعنوان المعرض"أغنيات على قماشة الرسم". إثنتان وسبعون لوحة أختارها منظمو معرضه الجديد في مدينة ثقافية تكثر فيها المهرجانات وفيها أكاديميتان للفنون ومتحف"خروننخر"الذي تفصله عن الغاليري قناة مائية وسط المدينة. اللوحات اختيرت من بين مجموعة كبيرة من الأعمال التي نفذها الفنان خلال السنوات السبع الأخيرة، وكلها منفذة بمادة الأكريليك، ورتبت اللوحات على شكل مجموعات تبعاً لعددها الكبير ولحجم الغاليري الهائل. تسع لوحات دائرية الشكل نفذت على سطوح طاولات حقيقية اشتراها الفنان لهذا الغرض، ثم عالج سطوحها بمواد خاصة كي تصبح صالحة للرسم، فكانت الخطوط والألوان وحتى أشكال الشخصيات منسجمة مع انحناءة الدوائر ومكملة لها. وتوزعت هذه اللوحات على جدار كبير وفي شكل غير منتظم وكأنها مجموعة من النجوم في فضاء واسع. ومن هذه اللوحات: لوحتا"القبلة المائلة"و"الغلالة الخضراء". وهناك لوحات مستطيلة جداً في أحجام كبيرة، وزعت على جدار آخر يظهر فيها ملائكة مجنحون يغوون نساء جميلات ذوات شعر أحمر ووجنات حمراء شفافة تذكرنا بالفلاحات الهولنديات يعيش الفنان في الريف الهولندي. تستوقفنا هنا لوحة"ملاك شارد الذهن"ولوحة"غواية". وفي ركن آخر من الغاليري هناك لوحات مربعة الشكل يغلب عليها اللون الأزرق، أجواؤها حلمية شفافة وخطوطها منسابة بنعومة بالغة وتدرجاتها الزرقاء في غاية الحساسية مثل لوحة"الحلم الأزرق"وپ"وداع الصيف"وپ"بحث عن الضوء". وتفاجئنا لوحات أخرى وقد رسمت بجرأة وحرية كبيرتين بحيث تخرج بعض الأجزاء من الشخصيات المرسومة خارج إطار اللوحات وقد أصبحت جزءاً من الجمهور الذي يتنقل بهدوء بين الأعمال الفنية. وتثير هذه اللوحات جواً فيه الكثير من الطرافة عند افتتاح المعرض، ومن هذه اللوحات لوحة"القبلة"ولوحة"الشتاء"وپ"امرأة من الكريستال". ثم هناك مجموعة من اللوحات الصغيرة المكعبة الاحجام تشبه الصناديق وقد رسم عليها من كل الجوانب ووضعت فوق مكعبات خشبية بيضاء توضع عادة تحت المنحوتات البرونزية. وهناك عمل طويل جداً عرض فوق الأرض وهو في طول ستة أمتار وتتداخل فيه وجوه وأياد وسيقان لنساء مع أشكال الخلفية الخضراء. نسير في جانب هذا العمل وننظر إليه وكأننا نمسك كاميرا سينمائية ونصور حفلة مملوءة بالسيقان والأيدي والحركات الراقصة. هذا العمل عنوانه"الليلة الثالثة". الجديد في هذا المعرض هو الجرأة في معالجاته واحجام لوحاته وخروجه عن المألوف، وفيه تبرز مهارات كاووش كفنان محترف متوحد مع عمله الفني وهو يقدم هذا العدد الهائل من اللوحات، وسط احتفاء الجمهور الهولندي به. لوحات مستديرة يستخدم الفنان كاووش في اللوحات المستديرة تقنيات مختلفة وطبقات من الألوان، حتى أصبحت وكأنها تشبه الأعمال الغرافيكية الملونة. وساعد على ذلك أنها نفذت على سطوح خشبية صلبة، أستطاع كاووش أن يمارس فوقها الحك والشطب والحفر أحياناً. أما عملية خلط الألوان فتمت فوق اللوحة نفسها وكأنها استحوذت على وظيفة باليت مزج الألوان. ومن اللوحات الكبيرة في هذا المعرض لوحة"حلم عازفة الأكورديون"، ولأنها من أعماله الحديثة فهي مختلفة عن الكثير من لوحات المعرض، فيها رمزية واضحة ونفذت بحساسية عالية وشفافية كبيرة. العازفة هنا تغفو على طاولة وقربها تفاحة حمراء وعلى الأرض آلة الأكورديون وهناك رجل في عمق اللوحة يظهر نصف وجهه خلف جدار جانبي وهو يتلصص على المرأة الغافية، وتظهر بعض ملابسه معلقة على الجدار أو الحاجز. إنها لقطة سينمائية بامتياز نفذت بطريقة تعبيرية سحرية. ثمة لوحات تعكس علاقات خاصة بين النساء مثل لوحة"امرأتان"وهي تمثل امرأتين في حمام تحجب النصف الأسفل من جسديهما ستارة شفافة تشي ببعض التفاصيل غير الواضحة، وهناك الماء الذي ينسكب من الأعلى ليجعلهما جسداً واحداً. إضافة الى لوحات تمثل نساء في بانيو، مثل لوحة"غيمة في بانيو"ولوحة"الحلم الغارق". في اللوحة الثانية استخدم كاووش عجائن من الألوان نستطيع من خلالها أن نمسك بحافة البانيو، إضافة الى وجه المرأة الحالم... هل كانت تنتظر أحداً أم أنها كانت تفكر بإغراق نفسها في الماء الدفيء؟ أما مجموعة البورتريهات الكبيرة التي رسمها كاووش لبعض الشعراء الهولنديين وقد نفذها في طريقة تعبيرية أنيقة فقد مزج فيها بين أسلوبه التعبيري وروح الشخصيات، كما حصل مع بورتريه الشاعر فيليم يان فان فايك الذي قرأ في افتتاح المعرض قصيدة خاصة كتبها عن كاووش وهو يقف قرب صورته المعلقة وسط الغاليري. وهذه البورتريهات جزء من مشروع كبير لرسم أهم شعراء هولندا الأحياء. حين نتجول في المعرض ونتأمل اللوحات بدقة نرى مفردات محددة تطفو على سطوح غالب اللوحات، فمن أصابع أو أيدي الشخصيات المتشابكة بعضها ببعض أحياناً أو الى تلامس الوجوه لنعومة أحياناً أخرى، إلى الأجنحة التي تظهر في الكثير من اللوحات مع شخصيات هلامية شفافة لا يمكن أن نصادف مثلها في الواقع. هذه الشخصيات قد تشبهنا في بعض ملامحها. هناك أيضاً لوحات تظهر فيها ندف الغيوم الصغيرة الملونة بطريقة فنتازية، كأن تدخل هذه الغيوم من النافذة إلى الحمام حيث المرأة في لوحة"غيمة في بانيو"أو تتسلل هذه الغيوم من خلف ستارة شفيفة الى غرفة النوم بينما يستلقي الحبيبان على فراش ملون كما في لوحة"بحثاً عن الضوء"، أو كما في لوحة"بعيداً عن الأرض"حيث يحتضن رجل بأجنحته البيضاء امرأة جميلة ويقبلها وهما يسبحان في فضاء مملوء بالغيوم القرمزية الشفافة. ومن اللوحات الطريفة في هذا المعرض لوحة"رسالة إلى زوجة رامبرانت"حيث تغفو"ساسكيا"قرب رسالة انتهت تواً من قراءتها والى جانبها على الطاولة ظرف الرسالة الذي يظهر عليه عنوان الفنان كاووش نفسه. وهكذا علق أحد الخبثاء في المعرض:"كاووش لا يستطيع أن يجاري رامبرانت من خلال الرسم ولهذا أتجه إلى زوجته ساسكيا". يأتي هذا المعرض المتميز بعد مجموعة كبيرة من المعارض التي أقامها كاووش في بلدان مثل العراق والأردن وإيطاليا وأوكرانيا والسويد وألمانيا وما يقارب من ثلاثين معرضاً في هولندا.