تتحرك سفن الولاياتالمتحدة الحربية باتجاه منطقة الخليج على نحو يوحي بأن واشنطن تستعد لخيار عسكري محتمل ضد إيران. وتتأسس الاستراتيجية الجديدة للرئيس الأميركي جورج بوش في العراق على رماد توصيات لجنة بيكر - هاملتون المتعلقة بضرورة الحوار مع سورية وإيران. وتتحرك الإدارة الأميركية وفق فلسفة التصادم لا وفق منهج الشراكة والحوار. ويعكس السلوك الأميركي انطلاق واشنطن من مسلّمة استراتيجية مفادها، حتى إشعار آخر، أن الولاياتالمتحدة هي أمبراطورية العصر الراهن وهي قائدة هذا العالم بلا منازع يذكر. وسواء تراجعت سطوة المحافظين الجدد على شؤون الإدارة الأميركية، وسواء تقدم الديموقراطيون في الانتخابات التشريعية الأميركية الأخيرة، وسواء تصاعدت أصوات أميركية منتقدة جموح بوش نحو التصعيد والمواجهة، وسواء شكك حلفاء واشنطن قبل خصومها في جدوى سياسات بوش إزاء العراقوإيران، فإن اللغة الأميركية مهما خففت من وطأتها حركة الفريق الجديد على رأس مفاتيح القرار الأميركي تبقى تسير وفق أجندة بيتية أميركية ترى العالم بعين أميركية بغض النظر عن اتساق ذلك مع حركة الصديق أو تناقضه مع مناورات الممانعين. على هذا، فقد خاب أمل المراهنين على تبدل ما في طباع واشنطن نتيجة ما ساقته نتائج الانتخابات الأميركية وما ساقه تقرير بيكر - هاملتون. وعلى هذا، فإن الموقف من إيران يؤسس لمحور الحركة الأميركية المقبلة، ليس فقط بسبب الموقف الإيراني وما يمثله من تحد، بل أيضا لأسباب أميركية تتعلق بحرفة قيادة هذا الكون، وتتصل بمكامن الحفاظ على عوارض القوة الأميركية التي تأثرت، من دون شك، بوحول السلوك في العراق. لذلك فإن"المعركة الإيرانية"بالنسبة الى الولاياتالمتحدة، تمثل ضرورة استراتيجية، لا شك أن الأميركيين الجمهوريين والديموقراطيين يُجمعون على تحقيقها. فقد تتعدد الاجتهادات وتتباين الرؤى لدى النخبة الحاكمة الأميركية، لكن ذلك يجري من أجل الهدف نفسه: نجاح الولاياتالمتحدة في تثبيت نفسها زعيمة لهذا العالم بغربه وشرقه. الحركة الأميركية تتأسس على معرفة تامة بمكامن القوة والضعف في هذا العالم. وواشنطن إذ تتحرك في ملفات العالم الشائكة، لا سيما ملفي إيرانوالعراق، فهي مدركة لحجم هامش الحركة المتاح للحلفاء الأوروبيين، كما تعي تماماً سقف الاعتراض المحتمل لدول كبرى كروسياوالصين. والعقل الأميركي يعرف أن سياسات واشنطن المعلنة إزاء العراقوإيران لا يمكن أن تتعرض لعراقيل دولية أو اقليمية لافتة، ليس فقط بسبب ما تمثله الولاياتالمتحدة من قوة عسكرية واقتصادية وسياسية، بل بسبب استفادة تلك القوى الدولية والإقليمية من تلك السياسات، أو أملها في تلك الاستفادة. لم تحظ قرارات الحرب المتعلقة بالعراق باعتراض فاعل ولافت من قبل أوروبا أو روسيا أو الصين أو حتى الدول العربية، اللهم إلا من بعض التحفظات والتحذيرات والاستهجان اللفظي هنا وهناك لا سيما في مسألة تجاوز مجلس الأمن. بكلمة أخرى لم تتحوّل تلك الانتقادات إلى حركة مقلقة لواشنطن. فلم يسقط معسكر الحلفاء، كما لم يتحوّل الخصوم الصينوروسيا إلى أعداء. فعلى رغم ما يربط وما كان يربط الصينوروسيابإيران وبالنظام العراقي السابق، فإن الموقف الصيني والروسي بقي خجولا مراقبا متحفظا إزاء حركة الفعل الأميركي. بالمقابل تحركت الولاياتالمتحدة بفردية مطلقة وبتحالفات صورية ومحدودة مع بريطانيا ودول أخرى من دون أن نرصد تطييبا أميركيا لخاطر روسياوالصين، أو حتى غضاً للطرف عن مسائل ما برحت واشنطن تثيرها حول حقوق الإنسان في هاتين الدولتين. واستمرت زيارات المسؤولين الأميركيين لبكين وموسكو، أو زيارات المسؤولين الروس والصينيينلواشنطن، تتواكب، كالمعتاد، مع تذكير أو تحذير أو عتب أميركي على هذا السلوك أو ذاك في ميادين الحريات العامة واحترام حقوق الانسان لدى الدولتين. وحتى حين راجت أصوات أميركية ودولية تتحدث عن"الورطة"في العراق، وتقارن هولها بهول التجربة الأميركية في فيتنام، فإن المنتقدين لسياسة الولاياتالمتحدة لم يتحركوا لاتباع استراتيجية بديلة، أو انتهاج سلوك يشي بنية تلك الدول والقوى لعب دور أكبر، أو التقدم باستراتيجية مختلفة تعالج كارثة العراق ومعضلة إيران. وبقيت جوقات الشماتة محدودة، سواء من باريسوبرلين اللتين عارضتا الحرب ضد العراق، أو من بكين وموسكو اللتين لا تنظران بعين الرضا إلى سيطرة الولاياتالمتحدة على مقاليد القرار في شؤون تتعلق بالزبونين العراقيوالإيراني. وعلى تلك الأرضية بالإمكان التأسيس لتفسير واقع المنطقة العربية وموقفها مما ترومه الولاياتالمتحدة للملف الإيراني. يدرك النظام العربي أن هيمنة الولاياتالمتحدة ما زالت أكيدة على رغم عجلة المبشرين بنهاية العصر الاميركي. وهذا الإدراك ليس مرده فقط ما شهده أهل المنطقة من عرض عضلات لافت منذ حرب تحرير الكويت وانتهاء بحرب العراق، بل لنجاح الولاياتالمتحدة في التغلغل في النسيج السياسي والاقتصادي والميداني للمنطقة. ويعي النظام السياسي العربي أن قوة الولاياتالمتحدة تعود أيضا إلى احتكار الفعل الدولي مع غياب المنافسين منذ انهيار جدار برلين، وإلى غياب المشروع والمرجعية الإقليميين منذ نكسة 1967 وانهيار الناصرية. كما يدرك النظام العربي أن أمن المنطقة أضحى شأنا أميركيا بامتياز من أجل حماية هذا النظام واستقراره منذ الحرب الإيرانية - العراقية وما قدمه الأميركيون من دعم مروراً بالحرب في أفغانستان وانتهاء بحربي الخليج عامي 1990 و2003. لذلك فإن الموقف الرسمي العربي بغالبيته وقف مساندا لحروب الولاياتالمتحدة في المنطقة في كل مرة ضد خصم أو خطر يهدد أمن تلك المنطقة الوجود السوفياتي في أفغانستان، النظام الخميني في إيران، احتلال صدام حسين للكويت، وامتلاك نظامه المزعوم لأسلحة الدمار الشامل. هذه المرة أيضا، يتأسس تحالف موضوعي بين الولاياتالمتحدة والعرب بشأن إيران. فحركة الولاياتالمتحدة الميدانية حركة السفن الحربية والقانونية مجلس الأمن والديبلوماسية حركة المسؤولين الاميركيين تحضر لبناء العوامل الثلاثة من أجل حرب محتملة أو مفترضة ضد إيران. وعلى رغم توجس العرب عموماً وأهل الخليج خصوصاً، من تداعيات تلك الحرب على مستقبل الاستقرار في المنطقة، وعلى رغم تبلغ العرب بالإشارات الأميركية من دون تنسيق من أهل المنطقة على نحو ما شكا أحد وزراء الخارجية العرب، فإن الموقف الرسمي ما برح ومنذ سنين يطلق التحذيرات ويعبر عن هواجس إزاء تنامي قوة إيران ونفوذها في المنطقة على نحو يثير الريبة والقلق. بين العرب وإيران حرب مدتها ثمانية أعوام خاضها الجيش العراقي بدعم عربي شبه كامل، وبين العرب وإيران نزاع كلاسيكي متعلق باحتلال إيران لجزر الإمارات الثلاث، وبين العرب وإيران توتر تاريخي على خلفية دعم الثورة الإيرانية للحركات الإسلامية العربية بين العرب وإيران توجس من مشاريع إيرانية لبناء"هلال شيعي"أو خطف"ولاء الشيعة"العرب لصالحها أو ترويج وتمويل الحركة الشيعية إلى حد رفع حال الاحتقان المذهبي على ما هو جار في العراق ولبنان. وإذا ما اجتمعت للولايات المتحدة عوامل تجعل من الفعل الإيراني منافيا لمصالحها ولهيبتها الدولية، فإن الموقف العربي الرسمي من مشرقه لمغربه لاحظ تعثر توقف الرئيس الإيراني أخيرا في الجزائر يجد في الحركة الأميركية مصلحة ضمنية تقي المنطقة ونظامها السياسي مخاطر الطموحات الإيرانية. بيد أن تداعيات"المعركة الإيرانية"محفوفة بمخاطر جمة شديدة البعد عن تلك المخاطر التي واكبت حروب واشنطن السابقة في المنطقة. ولا ريب أن تحسس العرب لتلك المخاطر الإنسانية والبيئية والعسكرية والسياسية يجعلهم غير متحمسين لعلنية مفرطة، وغير محبذين لمشاركة مباشرة أو غير مباشرة، وغير رافضين لإمكانيات الحلّ الديبلوماسي. ولن يكون مفاجئاً قيام العرب أنفسهم بالتقدم بالمبادرات الجدية لرأب الصدع بين واشنطنوطهران ونزع فتائل التوتر الميداني لا تغيب عن هذه الفرضية زيارة علي لاريجاني الاخيرة للرياض لعل في ذلك صوناً لسلم المنطقة وتجنيباً لها تصادم أجندة واشنطن بأجندة طهران. * صحافي وكاتب لبناني