يقال عادة في عالم الإبداع، ولا سيما إذا كان الإبداع من النوع المركّب، كفن السينما أو المسرح أو الهندسة العمرانية، ان أجمل مشاريع المبدعين قد تكون تلك التي لا تجد طريقها الى التنفيذ. ذلك ان المشروع هنا تظل له عفوية خيال الفنان وإبداعيته، قبل أن يصل الى أيدٍ أخرى تنفذه، ما يجعل"المساومات"وپ"التنازلات"تنطلق محدثة فيه تغييرات، قد تكون مفيدة، لكنها قد لا تتطابق مع ما كان الفنان يريده في البداية. الأمثلة على هذا كثيرة ولا يتسع لها المجال... ولكن يمكن القول ان ثمة الآن في فن السير وتاريخ الفن أقساماً خاصة تهتم بتلك المشاريع، دارسة إياها أحياناً على اعتبار انها أكثر قدرة، وهي على الورق، على التعبير عن الفن الحقيقي لأصحابها. علماً أنه يحدث في بعض الأحيان أن يصبح المشروع غير المنفذ لفنان ما، أشهر مشاريعه الى درجة يعتقد معها الناس ان المشروع تحقق فعلاً. نقول هذا وفي ذهننا مشروع للمهندس أدولف لوس، يسمى"بيت جوزفين بيكر". فبيت جوزفين هذا يعتبر في عالم الهندسة المعمارية بيتاً شهيراً، تدرس قواعد بنائه وتجديداته، مع علم كثر انه ظل حبراً على ورق ومجموعة خرائط... ولكن يحدث في مرات كثيرة ان يتوجه سياح الى باريس سمعوا ببيت جوزفين بيكر هذا، وراحوا يبحثون عنه راغبين في مشاهدته، وقد اختلطت عليهم الأمور فظنوه بيتاً حقيقياً. ولا بد من الإشارة هنا الى أن"بيت جوزفين بيكر"يدرّس، معمارياً، في مدارس ألمانية وغير ألمانية عدة. ويساعد على ذلك واقع ان اسم جوزفين بيكر هو من الشهرة بحيث يجتذب عمل مرتبط باسمها اهتمام الطلاب الذي سرعان ما ينصب على البيت نفسه، بصفته بيتاً نموجياً. فجوزفين بيكر"صاحبة"البيت هنا هي نفسها تلك الراقصة الأميركية الشهيرة التي عاشت وحققت شهرة كبيرة في باريس، وعرفت بتبنيها أطفالاً من كل جنس ولون، وبرقصها المثير ذي الايقاعات الأفريقية، وبحزام حبات الموز الذي كانت تضعه حول خصرها خلال الرقص إعلاناً منها عن انتمائها الاستوائي الأفريقي. وحكاية البيت هي ان المهندس أدولف لوس، حين عاش في باريس ردحاً من الزمن خلال الربع الثاني من القرن العشرين، تعرف الى جوزفين التي كانت آتية لتوّها من أميركا، وأغرم بها مثل كثر من مجايليه، وصار مثلهم من ابناء الحلقة المحيطة بها. ثم ذات يوم طرأت على خاطره، إذ راح يدرس شخصيتها ويناقشها في الكثير من الأمور الاجتماعية والحياتية، والسياسية حتى، فكرة ان يصمم لها بيتاً يتناسب تماماً مع رغباتها ومع صورتها عنده. ومن هنا ولد ذلك المشروع، الذي كان لوس، قد استبقه بمشروع حققه تلك المرة، هو"بيت تريستان تزارا"الشاعر الدادائي الذي كان صديقاً له ولجوزفين بيكر في الوقت نفسه. والحقيقة ان لوس صمم البيتين، ونفذ واحداً منهما بالفعل، تطبيقاً لمبادئه الهندسية التي كان صاغها منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر حين صاغ نظريات قائمة على أساس نزعة نفعية جمالية بسيطة تتفادى استخدام أية زينة. وهو بهذا كان أعلن منذ ذلك الحين ثورته، من ناحية على"الفن الجديد"في أوروبا، وعلى النيوكلاسيكية في أميركا. أما أول إنجاز حقيقي له في هذا المجال فكان بناء فيلا كارما، في كلانز بسويسرا. تلك الفيلا التي اعتبرت من جانب الدارسين تطبيقاً حرفياً لنظرياته، ونظر إليها على انها انجاز متقدم عن عصره، ببساطتها الهندسية ولغتها العقلانية. "بيت جوزفين بيكر"الذي صممه أدولف لوس في العام 1927، أي في العام التالي لتحقيق"بيت تريستان تزارا"، وبعد عقدين من الفيلا السويسرية، لا يخرج عن تلك القواعد، إضافة الى أنه، في تصاميمه وألوانه التي وصلت الينا، يبدو الى حد كبير شبيهاً بشخصية الراقصة نفسها. بل انها هي كما يقول تاريخ سيرة لوس المهنية من أملى عليه الكثير من التفاصيل، وفي مقدمها انها كانت تريد للبيت أن يكون مفتوحاً على العالم في الوقت نفسه الذي يضم كل شيء في داخله مثل حصن حصين. كما لو أن بيكر أرادت ان ترى العالم من بيتها، من دون أن تعطي العالم فرصة واسعة لكي يراها. والحال وهذا تفصيل قد لا تكون له علاقة كبيرة بالأمر برمته أن من يشاهد اليوم صوراً لجوزفين بيكر، أو شرائط تصور رقصات لها أو مشاهد من حياتها العامة، يلحظ بسرعة ان هذه الفنانة تنظر الى العالم من خلال الصورة، بأكثر مما تسمح للعالم بأن ينظر اليها. ولنقل ان هذا البعد يتطابق، من ناحية، مع نظريات لوس حول العمران، ومن ناحية ثانية مرتبطة بالأولى بالفكرة الأساسية التي تقف وراء هذا المشروع. منذ البداية يعتبر الدارسون أن مشروع"بيت جوزفين بيكر"، الذي لا ينطلق من أي اتفاق مسبق، ولا يرتبط حتى بأي برنامج لهندسة بيت معين في مكان جغرافي معين، هو عبارة عن درس في العمران يعبر عن موهبة مصمم البيت الاستثنائية، لأنه أطلق في رسمه العنان لمخيلته. لكنه يعتبر في الوقت نفسه تحية من المهندس الى الراقصة، وكشفاً عن مدى النزعة الإنسانية الكامنة في عمق أعماقها، انطلاقاً من حماسة لوس لجوزفين. ولعل الجزء الأكثر تجديداً في المشروع يقوم في احتواء مبناه على حوض سباحة داخلي صمم بحيث ان السابحين فيه يبدون، عبر واجهات زجاجية داخلية وكأنهم أسماك في حوض مغلق. وإذ كانت جوزفين أبدت رغبتها في أن يكون منزلها مضافة عامة، أي بيتاً ومؤسسة تستقبل الضيوف العابرين والدائمين، انطلاقاً من نزعتها الاجتماعية الناتجة عن خوفها من الوحدة والحواجز التي تحد من انطلاقة المرء داخل المكان، حرص المشروع على أن يجعل الصالون وغرفة الطعام فسيحين متكاملين، كأنهما قاعة رقص أو اجتماع في فندق كبير. وهو كان يقول حين يسأل من هذا، انه إنما أراد أن يوفر لپ"تلك الافريقية الرائعة"حيزاً هو من الاتساع بحيث يمكنها ان ترقص فيه على سجيتها، وكأنها تسبح في فضاء لا نهاية له. ومن هنا إطلالة الحوض في الطابق الثاني من المبنى، على الصالون وغرفة الطعام كتعبير عن استعراضية داخلية على النمط الذي كانت جوزفين تفضله. أما بالنسبة الى واجهة البيت الخارجية، فقد حرص لوس على أن تظهر الأشكال المستطيلة التي كان يفضلها دائماً على غيرها من الأشكال، هو الذي كان يرى في الدوائر نزعة غير عقلانية وفي المثلثات نزعة صوفية، فيفضل عليهما عقلانية المربع والمستطيل والخطوط المتلازمة. وفي هذا السياق، يأتي مبدأ جعل الواجهة ذات خطوط افقية بيضاء وسوداء على مدار محيط البيت، تعلو قاعدة من المرمر الأبيض، الذي كان أدولف لوس يفضله على أية مواد أخرى، وغالباً ما استخدمه في مشاريعه. ولا بد من أن نشير هنا الى أن لوس كان يعتبر هذا المشروع، واحداً من أجمل وأهم أعماله، انطلاقاً من تجديداته المهمة في مجال ما كان يسميه"الترابط الدرامي بين السلالم الداخلية"ومحاور الرؤية المتنوعة والمتقاطعة في معظم النقاط، داخلياً وخارجياً، ناهيك بالحوض الداخلي وجدرانه الزجاجية. طبعاً تتعدد الأسباب التي حالت دون انجاز هذا المشروع. ومع هذا يرى كثر فيه خلاصة طيبة لكل الفن الذي كان أدولف لوس يسبغه على مشاريعه. الفن الذي جعله يعتبر من سادة الحداثة في العمران الأوروبي... وجعل له مقلدين وحواريين ومتأثرين بأعماله، من بينهم الأميركي الكبير فرانك لويد رايت الذي كان يقول دائماً حين يمتدح انه يعتبر نفسه مكملاً للوس الذي"أنجز على الصعيد الأوروبي ما أنجزته أنا على الصعيد الأميركي". وأدولف لوس ولد العام 1870 في برنو بمورافيا، التي ستصبح لاحقاً جزءاً من تشيكوسلوفاكيا، ليموت بعد ذلك بثلاثة وستين عاماً في مصح عقلاني في فيينا، كان نقل اليه بعدما أصيب بأمراض عدة منها أمراض عصبية، هو الذي كان درس في درسدن بألمانيا، وحقق مشاريعه بين فيينا، التي كانت وطنه الذي ارتبط به أكثر من أي وطن آخر، على رغم تنقله بين البلدان، وبين اللغات التي كان يتقن الكثير منها. وأعمال لوس الثورية التجديدية، المحققة هذه المرة، لا تزال قائمة اليوم في فرنسا وسويسرا وألمانيا والولايات المتحدة، إضافة الى النمسا بالطبع.