إذا كان صحيحاً ما يقال دائماً من أن العمل الأدبي الكبير لا يمكنه أبداً أن يحوّل الى عمل فني كبير، فإن ثمة عشرات الأمثلة التي تؤكد هذا، لعل أولها عجز السينمائيين عن تحويل روايات بروست او جويس أو حتى سيلين الكبرى الى شرائط سينمائية. وفي السياق نفسه ولكن في اتجاه معاكس يقال دائماً ان النصوص الصغرى قابلة لأن تتحول الى أعمال فنية لا بأس بها. ولعل النموذج الأبرز الذي يمكننا التوقف عنده هنا هو مسرحية"حلم تيتوس"- والحلم هنا هو الرحمة لا المنام - التي اذ اشتغل عليها نحو عشرين موسيقياً في أزمان متفرقة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أدهش هذا الأمر النقاد طالما أنهم نظروا الى النص الأصلي على انه ساذج وميلودرامي يكاد لا يكون له أي معنى. من هنا حدث دائماً لهذا العمل أن فشل في التقديم المسرحي الخالص، لينجح في شكله الأوبرالي الذي اتخذه على أيدي أولئك الموسيقيين. طبعاً هناك حالات مشابهة عدة في عالم الأوبرا عن نصوص أدبية ضعيفة عاشت، موسيقياً، حياة ثرية. بل يمكن القول ان معظم الأوبرات التي خلدت في تاريخ هذا الفن انما أخذت عن مثل تلك النصوص. وفي المقابل تبقى حال فاغنر استثنائية، حيث نعرف انه - إذ كان غالباً كاتب نصوص وأشعار أوبراته - عرف كيف يقيم توازناً بين النص الأصلي والعمل المموسق. موتسارت اختلف وضعه كلياً. فهو، إذ لحن الكثير من الأوبرات التي لا تزال حية في أزماننا ويبدو لنا انها ستظل حية لأزمان طويلة مقبلة، انطلق دائماً من نصوص ضئيلة الأهمية، إن على صعيد اللغة أو حتى على صعيد الموضوع، غير انه تمكن من أن يضع لتلك النصوص هذه الموسيقى التي نعرف. ومن الواضح انه، إذ تعامل في معظم الأحيان مع"شعراء"من طينة ميتاستازي، كان يعرف حدود موهبتهم فلا يطلب منهم أكثر من أن يكونوا ناظمين لأشعار بسيطة موسيقية الإيقاع، خفيفة الموضوع يعود هو الى إحيائها بموسيقاه. نقول هذا ونفكر بأعمال مثل"خطف في السرايا"وپ"دون جوان"وپ"هكذا يفعلن جميعاً". ولكن خصوصاً بأوبرا"حلم تيتوس"التي - من بين العشرين موسيقياً أو نحوهم الذين اشتغلوا على تحويلها الى أوبرا - كان موتسارت الأبرز. وعاشت موسيقاه الفترة الأطول. حتى وإن كان كثر من النقاد يرون أنه فيما كان عمل موتسارت بديعاً في هذه الحال، فإنه لم يكن أهم أعماله، وفي المقابل، إذ قدم أنطونيو كالديرا سلف موتسارت العمل بدوره للمرة الأولى في فيينا، كان هذا العمل أهم انجازات كالديرا. علماً أن موتسارت انجز عمله بعد أكثر من نصف قرن من ظهور أوبرا كالديرا. وقيل في البداية انه تأثر به. المهم في الأمر ان موتسارت اهتم ذات زمن من حياته، بدوره ومثل عشرين موسيقياً آخر، بمسرحية ميتاستازي، وموسقها، لتقدم للمرة الأولى في براغ في العام 1791، وليس في سالزبورغ. فماذا يمكن ان نقول هنا، بعد، عن خلفيات هذا العمل؟ أهم شيء، لقد أنجزها موتسارت خلال 18 يوماً لا أكثر... وكأن الرجل كان يعلم انه سيموت عما قريب، لذلك عجل في إنجازها لتقدم للمرة الأولى في العام نفسه الذي شهد نهايته. مع هذا ليس من الممكن القول ان"حلم تيتوس"كانت آخر عمل ألفه موتسارت... فالموسيقي العبقري الشاب كان اعتاد، خلال السنوات الأخيرة من حياته ان يكتب أعمالاً عدة في وقت واحد. هذا من ناحية، لكننا نعرف من ناحية أخرى ان موتسارت مات وهو يشتغل على الجناز الغامض الذي سيعتبر آخر أعماله، وسيعتقد كثر انه ظل غير مكتمل حتى كان، قبل شهور من أيامنا هذه، اكتشاف مهم لمخطوطة تضم نوطات الخاتمة. "حلم تيتوس"إذاً، تعتبر - على أية حال - من أعمال موتسارت الأخيرة. ومن ناحية الموضوع تعتبر عملاً ميلودرامياً ساذجاً. ولنضف الى هذا انها لا تحتل مكانة مرموقة في تراتبية أعمال موتسارت، فهي لا ترقى بأية حال الى مستوى"دون جوان"أو"زواج فيغارو"، لكنها، وبكل تأكيد - وهذا أمر من الضروري قوله هنا - تتفوق على كل المحاولات الموسيقية الأخرى للدنو من هذا النص. ومن هنا ارتباطها باسم موتسارت أكثر مما باسم أي موسيقي آخر بمن فيهم كالديرا. تدور الأوبرا - والمسرحية الأصلية بالتالي - من حول تيتوس الحاكم الذي اشتهر برحمته وعدله وكان مثالاً في الأخلاق الحليمة. ولم يكن أدل على ذلك من انه اعتاد ان يغفر الى كل من يسيء اليه. كان يسامح على الفور، ولكن ليس لضعف في شخصيته، بل لأنه كان يشعر أن كل المؤامرات التي دارت من حوله وحاولت استهدافه، أخفقت في مساعيها ولم تتمكن من القضاء عليه. فلم الثأر؟ طالما أن فشل المتآمرين هو خير عقاب ينالونه؟ وعلى هذا النحو تمضي حياة تيتوس ويخفق كل المتآمرين من حوله. أما الآن ونحن عند بوابات هذا العمل، فإن ثمة في الأفق مكيدة جديدة، هي هذه المرة مكيدة نسائية، محورها يدور من حول مجموعة متعددة من الشخصيات، بحيث ان المتفرج يحس ذات لحظة بأنه ضائع بين من يحب من ومن يتآمر على من. وكما يحصل عادة في مثل هذه النصوص يطالعنا منذ البداية أزواج عدة من الناس. فهناك أولاً تيتوس الذي لديه صديق هو اينوس، ولديه أخت هي سرفيلا. وسرفيلا هي حبيبة اينوس. وأما الثنائي الثالث هنا، فيتألف من تيتوس وامرأته بيرينيس التي لا نراها أبداً مع انها السبب المباشر لكل ما يحدث في الأوبرا. وما يحدث هو مؤامرة يحبكها سيستوس ضد تيتوس بتشجيع من فيتيلا التي تشعر بغيرة كبيرة ازاء بيرينيس. وكان تيتوس قد أبعد بيرينيس تحديداً لكي يحميها من انتقام فيتيلا التي لا تزال تأمل في أن يحبها تيتوس ويتخذها امرأة له... وهو ما يخشاه سيستوس الذي يعرف لا نهائية طموح حبيبته. في المقابل كان تيتوس وضع في رأسه ان سرفيلا هي التي ستصلح له زوجة، ما جعل اينوس يستاء هو الذي يحب سرفيلا. ثم ان هذه تقول لتيتوس بكل صراحة ان اينوس هو حبيبها وتفضله زوجاً لها. وهذا أمر لا تعرفه فيتيلا التي تعتقد ان سرفيلا تريد أن تكون امبراطورة، ومن هنا تدبر مؤامرة للتخلص منها، وإذ يدرك تيتوس ما يدور من تشعب للعواطف من حوله، يرى ان من الأنسب له أن يتزوج فيتيلا اتقاء لشرها. فتتحول هذه من متآمرة الى امرأة تريد أن توقف تلك المؤامرة التي كانت هي من حركها. لكنها تعجز عن وقف الأمور... ويتناهى الى سمعها، خطأ أن تيتوس قد قتل. ويحكم مجلس الشيوخ على المتآمرين بالإعدام. غير ان تيتوس سرعان ما يظهر سليماً معافى، ويعلن انه لا يريد أياً من الامرأتين ولتتزوج كل واحدة، فهما حبيبتاه. وهكذا تنتهي الأوبرا على هذا الحل التصالحي، الذي وجده النقاد جميعاً سخيفاً ساذجاً. غير انهم في المقابل أثنوا دائماً على إبداع موتسارت الموسيقي فيه. ذلك ان هذا الفنان الذي كانت تجربته الموسيقية قد بلغت أوجها في ذلك الحين، عرف خلال الثمانية عشر يوماً، التي استغرقها تلحينه لهذه الأوبرا كيف يضع هنا خلاصة تجربته لتأتي"حلم تيتوس"وكأنها جردة حساب لعمل أوبرالي تمكن وولفغانغ أماديوس موتسارت 1756 - 1791 في سياقه من أن يقدم بعض أعظم الأوبرات في تاريخ هذا الفن.