يلقي كتاب "عرب جيدون - الاستخبارات الاسرائيلية والعرب في اسرائيل عملاء وأربابهم، متهاونون ومتمردون، أهداف وأساليب"للمؤرخ الاسرائيلي الدكتور هيلل كوهين الصادر أخيراً في اسرائيل بالعبرية، الضوء على كواليس أجهزة الأمن والمؤسسات الحكومية الاسرائيلية في تعاملها مع الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم مع إقامة الدولة العبرية عام 1948، تحديداً في الفترة الممتدة بين عامي 1948 وپ1966 التي أُخضع فيها الفلسطينيون الى الحكم العسكري والقبضة الحديد، في محاولات محمومة من السلطات الاسرائيلية للنأي بهم عن هويتهم القومية وإرغامهم على قبول هوية"العربي الاسرائيلي". ويكتسب الكتاب 307 صفحات من الحجم المتوسط أهمية خاصة، كونه يلقي ضوءاً آخر على علاقة المؤسسة الاسرائيلة بپ"مواطنيها العرب"، مختلفاً الى حد كبير عن الضوء المروَّج له منذ نحو ستة عقود. ويعتمد الكاتب آلاف الوثائق والمستندات والبروتوكولات التي تحفظت عنها أجهزة الأمن شاباك والشرطة ومكتب رئيس الحكومة وصُنِفت حتى زمن وجيز"سرية للغاية"، الى ان رفعت السرية عنها قبل نحو سنة - وما زال العديد من مثلها طي الكتمان. وأتاح نشر المستندات للباحثين الاطلاع عليها في"أرشيف الدولة". وكان الدكتور هيلل كوهين، الباحث في معهد ترومان في الجامعة العبرية في القدس، أسرع من غيره في تجميع ما رآه مناسباً وكافياً لإلقاء"الضوء الحقيقي". كما يقول بعيداً من الاجتهادات او الروايات غير الرسمية والإشاعات - على ما تعرض له فلسطينيو 1948 من ممارسات سلطوية ابتغت، كما يؤكد المؤلف والوثائق التي اعتمدها"سلخهم عن شعبهم العربي وإنكارهم هويتهم الفلسطينية وقبولهم هوية جديدة". ولم يتردد الكاتب في نشر أسماء عشرات من المتعاونين والعملاء العرب، خصوصاً الذين تبوأوا مناصب رفيعة، فوصلوا الى الكنيست الإسرائيلية نواباً وترأسوا سلطات محلية. يمكن القول ان الكتاب الجديد يكشف القصة الحقيقية، او جزءاً كبيراً منها، لطبيعة العلاقات المعقدة بين"الدولة"والعرب داخلها التي قامت أساساً، وما زالت كما يؤكد المؤلف، على تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية في صفوف العرب خشية"تطرفهم"، فعملت لتأليب بعضهم على بعض، طائفة على أخرى وعائلة ضد أخرى وأب على ابنه. ويؤكد المؤلف ان السلطات الرسمية الإسرائيلية انطلقت في تعاملها مع العرب، منذ اليوم الأول لإنشاء إسرائيل، باعتبار أنهم"طابور خامس افتراضي"و"خطر امني"فعملت لپ"مصادرة أراضيهم وكيّ وعيهم وارشادهم حول أنماط تصويتهم للكنيست". ويضيف الكاتب ان الاستخبارات الاسرائيلية وعملاءها العرب كانوا الأداة المركزية في تحقيق الأهداف الأمنية والسياسية التي تدخل في وضعها رئيس أول حكومة في الدولة العبرية دافيد بن غوريون. ويتابع: نشط عملاء خارج الحدود في مهمات تجسس والمعاونة في مصادرة الأراضي، وتجنيد أصوات للحزب الحاكم"مباي"وللقوائم العربية المرتبطة به التي اختارت الاستخبارات مرشحيها، ولقمع أي تنظيم معاد قومي حتى ان الوشاية بپ"المتمردين"، سياسيين وأفراداً، طاولت مواقفهم السياسية وكل ما تفوهوا به حيثما حلوا، حتى مضامين أغاني الأعراس. ويؤكد المؤلف ان ما جاء في الكتاب الذي اعتمد الدقة في نقل مضامين الوثائق التي سمح بنشرها، يفند عدداً من الروايات الرسمية ويزيح الستار عن حقائق حول نشاط القوى الوطنية في صفوف العرب ضد الدولة الفتية وسياستها، وهي حقائق شوهتها إسرائيل إذ روّجت انها ادعاءات تندرج ضمن"نظرية المؤامرة"لدى العرب. ويقول كوهين ان ما شهدته الدولة العبرية في السنوات الأولى لقيامها يدحض الادعاء بأن الجيل الأول للنكبة كان"خنوعاً وخاملاً"، مضيفاً ان المستندات تؤكد ان ذلك الجيل كان"منتصب القامة"، اكثر من الجيل الحالي. كما يضع الكتاب حداً للاقتناع السائد بأن العرب الدروز هم من بادروا الى التجند في الجيش الإسرائيلي، مشيراً الى الأساليب التي اعتمدتها الاستخبارات الإسرائيلية من دق اسافين وافتعال مشاكل وخلافات بين مشايخ الطائفة اضطرت بعضهم الى قبول التجنيد لتفادي تشويه سمعته، واللجوء الى القوة والترهيب لثني الشباب الرافضين للخدمة العسكرية الإلزامية عن موقفهم. وتؤكد الوثائق ان إسرائيل سعت الى عزل الدروز فيها عن الدروز في لبنان وسورية، وابتغت من تجنيدهم تأليبهم على الغالبية المسلمة في أوساط فلسطينيي 1948، ودفعتهم الى إقامة مؤسسات دينية خاصة بهم منفصلة عن تلك الإسلامية. پ سبعة فصول يؤكد الكاتب في مقدمة كتابه ان الأجهزة الأمنية الاسرائيلية ومنذ اليوم الأول لاقامة الدولة العبرية شرعت في إقامة شبكات من العملاء والمتعاونين داخل المجتمع العربي لدافعين: أولهما الحؤول دون التحاق عدد منهم بالجهود الاستخباراتية والعسكرية للدول العربية المجاورة، وثانيهما إحكام السيطرة على التنظيمات الاجتماعية والسياسية الفاعلة في وسطهم. وألقيت على جهاز الاستخبارات مهمات تعقب تنظيمات عسكرية سرية، والطلب من العملاء الوشاية بكل من يقيم علاقات مع استخبارات عربية وتقديم معلومات عن المهجرين والنازحين الذين يحاولون العودة التسلل بحسب القاموس الاسرائيلي الى منازلهم، وقد شنت إسرائيل حرباً شرسة ضدهم. كما طلب الى العملاء الوشاية بالمهجرين الذين بقوا في إسرائيل ويحاولون العودة او حتى فلاحة أراضيهم في قراهم المهدمة. وطلب الى العملاء التبليغ عن الميول السياسية للمواطنين في كل قرية وبلدة، والحياة الاجتماعية فيها مثل نوع الأغاني في الأعراس! وحتى الأوضاع داخل العائلات والقبائل لتغذية الفرقة، في حال استوجبت مصلحة الدولة العبرية ذلك. كما جندت الاستخبارات عدداً من عملائها في البلدات الأردنية واللبنانية والسورية والمصرية المحاذية للحدود. وتضمن هذا النشاط جمع معلومات وتنفيذ اغتيالات وأعمال تخريبية. واذ رأت المؤسسات الرسمية أن الفلسطينيين الباقين في وطنهم 160 ألفاً من 860 ألفاً تحول 700 ألف منهم الى لاجئين قد يلتحقون بالجيوش العربية في حال اندلعت الحرب مجدداً، فأصدرت أوامرها لأجهزة الاستخبارات بإحكام السيطرة الأمنية على المجتمع العربي، ليس فقط من خلال فرض الحكم العسكري ومنع حرية الحركة انما ايضاً بالسيطرة السياسية التي تجلت خصوصاً في تقوية مكانة القادة العرب المحليين ممن تنكروا لهويتهم القومية وأبدوا استعداداً للتعاون مع الدولة الجديدة. فرُشِح هؤلاء على قوائم انتخابية عربية للبرلمان الكنيست مرتبطة بحزب"مباي"الحاكم. ويتوقف المؤلف مطولاً عند هذه"الشخصيات العربية"- ومنها شخصيات دينية مرموقة من كل الطوائف - ودورها في المجهود الحكومي لسلخ الفلسطينيين عن أمتهم وهويتهم. ويشير اولاً الى ان معظم هذه الشخصيات ويذكر أسماء كثيرين كانوا ممن تعاونوا مع العصابات اليهودية خلال الانتداب البريطاني في فلسطين وفي حرب 1948 و"كوفئوا بعد قيام الدولة بمبادرة من أجهزة الأمن، فصاروا زعماء محليين وانتخبوا أعضاء في الكنيست، في مقابل قبولهم عدم طرح مطالب تخص المواطنين العرب"على أساس قومي"."وشكل هؤلاء"عيوناً وآذاناً للاستخبارات"الاسرائيلية وتبنى بعضهم الرواية الصهيونية عن حرب 1948. ولم يتوقف"ولاء"هؤلاء عند هذا الحد بل لعبوا أيضاً دور السماسرة لمصادرة أراضى العرب، وصوتوا ضد إلغاء الحكم العسكري! ويرى الكاتب ان إسرائيل سجلت عبر سلوك هذه الشخصيات إنجازاً مزدوجاً: الأول الدور الذي لعبه هؤلاء في إقناع العرب بفوائد التقرب من الحكومة وعدم الخوض في السياسة، وبأنهم يشكلون البديل للرياح القومية التي هبت في أوساط واسعة لدى العرب من مؤيدي الحزب الشيوعي وحركة الأرض. والثاني تظاهر إسرائيل بأنها دولة ديموقراطية آذانها صاغية لمشاكل الأقلية داخلها بل تتيح لممثلي هذه الأقلية الوصول الى البرلمان. ولم يقتصر نشاط أجهزة الأمن الإسرائيلية على الصعيد القطري بل جاء متشعباً في كل قرية ومدينة، من خلال تعيين مخاتير اختيروا وفقاً لمعيار دعمهم سياسة الحكومة ومدى تعاونهم معها. واذ"زود هؤلاء البضاعة"سعت أجهزة الاستخبارات الى عرقلة انتخابات للسلطات المحلية في البلدات العربية، لخشيتها من ان تأتي انتخابات ديموقراطية برئيس وأعضاء لا يطيعون كلمة الحكومة. ويلفت المؤلف الى ان المعركة الأساسية التي خاضتها أجهزة الأمن في تعاطيها مع العرب، كانت معركة لبلورة الوعي والهوية لدى العرب في اسرائيل، فرصدت تصرفات الأفراد في كل مناسبة، سياسية او اجتماعية، للاطلاع على مواقفهم ومدى قبولهم الدولة العبرية وهل يمكن ان يشعروا بالانتماء اليها ويرون في أنفسهم إسرائيليين، ام يرفضون هذه الهوية أو ربما يقبلونها بانتظار الفرج من العالم العربي... كل ذلك مع إدراكها ان قوى وطنية وقومية تنشط في العلن والسر في أوساط العرب وتبث فيهم روح الصمود للحفاظ على هويتهم الفلسطينية. ويستنتج الكاتب، مقدماً نماذج من الحياة، ان الجهد الاستخباراتي انصب على اقتلاع الهوية الفلسطينية والذاكرة الجماعية لدى الفلسطينيين الباقين، بعدما رأى فيها الإسرائيليون خطراً وسعوا الى استبدالها بهوية جديدة لها خصوصيتها،"عربي إسرائيلي"، تكون مسلوخة عن الهوية العربية القومية والهوية العربية الفلسطينية تحديداً، مشيراً الى ان الحزب الشيوعي بإضافته كلمة إسرائيلي الى اسمه وقف في منتصف الطريق بين المقاربتين. وشكل جهاز التعليم حلبة رئيسة لنشاط العملاء، اذ طُلب من معلمين وطلاب الوشاية بمعلمين يدعمون حق اللاجئين في العودة الى ديارهم، أو انتقدوا الحكم العسكري او سياسة الحكومة". وقابل هذا المشهد نشاط احتجاجي قاده الحزب الشيوعي وحركات قومية مثل حركة"الأرض"التي سارعت السلطات الاسرائيلية الى نزع الشرعية عنها ومنعتها من خوض الانتخابات. ويقدم المؤلف نماذج كثيرة للنشاطات الاحتجاجية للحركات القومية ويقول: من المثير وكما تثبت المستندات، انه على رغم النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني وفور فرض الحكم العسكري على البلدات العربية، انتظم نشاط احتجاجي واسع وغير مهادن استمر عقدين على رغم الملاحقات الاستخباراتية ولجوء الحكم العسكري الى أنظمة الطوارئ التعسفية التي سمحت له بتنفيذ اعتقالات إدارية مكثفة ضد ناشطين وترحيل عدد منهم. ويشير المؤلف الى ان الاستخبارات الإسرائيلية لم تكف يوماً، وبعد انتهاء الحكم العسكري للبلدات العربية عام 1966، عن التغلغل في أوساط العرب بل أخذت تكثفه وتعود الى أساليبها القديمة في التعامل معهم، منذ الهبّة الجماهيرية لعرب الداخل التضامنية مع الانتفاضة الثانية عام 2000 والتي سقط فيها 13 شهيداً من الشباب برصاص قوات الأمن الإسرائيلية.