كيف كان يمكن أسرة انكليزية من طبقة عليا أن تعيش الأسبوع الذي شهد وتلا مقتل مطلقة الابن الأكبر لهذه الأسرة في حادث سير سرعان ما يتبين ان عشيقها الجديد قتل معها فيه؟ إذا نسينا حين نشاهد فيلم"الملكة"لستيفن فريرز، أن ربة الأسرة هي ملكة بريطانيا العظمة، وربّها، زوج السيدة الملكة، يمكننا أن نجيب بسهولة على السؤال: كان من شأن هذه الأسرة ان تعيشه تماماً كما عاشته الأسرة المالكة، بحسب سيناريو بيتر مورغان وإخراج فريرز، وسط كثير من الارتباك وعزة النفس. فالأسرة في الفيلم فضّلت، أول الأمر، الابتعاد عن المكان والتوجه في نزهة خلوية طالما ان المطلقة هنا، أي الأميرة ديانا، لم تعد فرداً من الأسرة. لكن المشكلة تبدأ في الفيلم وفي الحياة العادية، من الكلمة التي تلي تماماً كلمة"الأسرة"الواردة في السطر السابق: ... المالكة. فحين تستنكر الملكة اليزابيث في الفيلم أن يكون من الضروري انضمام الأسرة الى الشعب والحكومة في الاحتفال بدفن ديانا والحداد عليها، تصر الملكة على ان هذه الأخيرة لم تعد واحدة من أفراد الأسرة المالكة. ولكن، في تلك الأثناء يكون توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الطازج الآتي من"النيولايبور"أي حزب العمال الجديد، الذي وجد نفسه آخر شهر آب أغسطس، أي بعد أسابيع قليلة من تسلمه الحكم، أمام معضلة سياسية - عائلية قومية، يكون قد وصف ديانا بپ"أميرة الشعب"مستجيباً لحداد عشرات ملايين الانكليز ومئات ملايين الأفراد في العالم أجمع أمام هول كارثة أودت بحياة صبية كان الناس اعتادوا وجودها و... التسامح مع نزواتها، منذ سنوات. الأسرة المالكة، ولا سيما إليزابيث الثانية وزوجها دوق أدنبرة، ما كان يمكنها ان تتسامح، فالمسألة ليست فقط مسألة عائلية، بل قضية كرامة سياسية. كل هذا يشكل، طبعاً، جوهر هذا الفيلم الذي يتدفق الملايين لمشاهدته منذ بدء عرضه قبل أيام... وهو كله معروف وينتمي الى التاريخ المعاصر. لكن فريرز، الاستفزازي عادة، شاء إذ اقترب من هذا الحدث الفظيع وما ترتب عليه، شاء أن ينظر الى هذا التاريخ المعاصر من ثقب الباب. شاء أن يصور ما لم يره أحد يومها وبالكاد طرح الناس في حينها أسئلة من حوله: كيف عاشت إليزابيث وأهل البلاط كل تلك الأحداث المتعاقبة، في حياتهم الخاصة؟ كيف جرت تلك الأمور التي لا يعرف أحد شيئاً عنها؟ ومن هنا يشتغل الفيلم على مبدأ التلصص، مخاطباً رغبات المتفرجين، ليس في معرفة كيف جرى التاريخ الرسمي أو كيف يمكن تفسيره، بل في معرفة كيف كان يمكن أن يكون قد حدث على المقلب الآخر، هناك حيث لا يمكن عيناً أو أذناً أن تصل. صراع الأسرتين والحقيقة ان هذا ما أعطى فيلم"الملكة"قوته الاستثنائية ونقطة جاذبيته الأساسية. فهنا، حتى وإن كنا في قلب التاريخ، والتاريخ الذي يعرفه الكل عن ظهر قلب، فإننا أيضاً في قلب"الذي لا يوصف"، في داخل حميمية أهل بلاط باكنغهام المعاصرين لنا. بل أكثر من هذا في فيلم ستيفن فريرز الجديد ثمة حميميتان تنكشفان فجأة أمامنا: حميمية قصر باكنغهام وقصر الصيد الملكي في بالمورال، ثم حميمية بيت توني بلير، حيث ان الفيلم لا يصف فقط ما فعلته الملكة وظل خفياً، بل ايضاً ما عاشه بلير، الذي، على رغم عماليته، يصل به الأمر الى إنقاذ الملكة من نفسها... على الضد من رغبة زوجته شيري ذات النزعة الجمهورية. للوهلة الأولى قد يبدو هذا كله وكأنه يضعنا في قلب دراما قصور من النوع الشكسبيري، وهو ما أشار اليه نقاد كثر تحدثوا عن الفيلم من هذا المنطلق، لكن الأصح من هذا هو أن الفيلم يبدو منتمياً أكثر الى عالم ماكيافيللي ولنتذكر هنا، في المناسبة، ان ماكيافيللي لم يكتب"الأمير"فقط بل كتب مسرحيات عدة أيضاً. والماكيافيللية في هذا العمل القوي والاستثنائي تكاد تصف تصرفات بلير نفسه، في أول تجربة جادة له تتعلق بمسألة الحكم وإدارة الدولة، بعيداً من مبادئ نظرية كان المسؤول العمالي قد تعلمها واعتاد ممارسة بعض منها، قبل وصوله الى الحكم. وفي اعتقادنا ان هذه السمة في الفيلم هي ثاني أهم سمة فيه، بعد مسألة التلصص المدهش على الحياة الحميمة لآل وندسور الأسرة المالكة في التجابه مع أسرة سبنسر أهل ديانا الذين لم يفوتهم ان يتهموا قصر باكنغهام بتدبير مؤامرة أدت الى مقتل ابنتهم. في السمتين إذاً، نحن في قلب التاريخ، وفي قلب السينما إذ تكتشف قدرتها على التعامل مع هذا التاريخ. والأقوى من هذا، ان فيلم فريرز لا يتعامل مع هذا التاريخ في قالب تسجيلي كما كان يمكن له أن يفعل لصعوبة التعامل الروائي مع أحداث طازجة، لكل من أبطالها سماته وشكله وسيكولوجيته المعروفة والراسخة عميقاً في ذهن الجمهور بل يتعامل مع التاريخ في تحد كبير. إذ نعرف ان مثل هذا الفيلم كان يمكن له أن يفشل لو ان اختيار الممثلين، واللحظات المصورة، لم يكن دقيقاً. والمسألة هنا دقيقة تقنياً. ففيلم"الملكة"هو فيلم سيناريو في الدرجة الأولى، أكثر منه فيلم إخراج. وبالتالي هو فيلم يشتغل على مستوى الحوار والحركة المرسومين سلفاً ما يحتاج الى قدرات تمثيلية هائلة، ليس فقط من أجل إقناع الجمهور بپ"حقيقة ان هذا قد حدث فعلاً وعلى هذا النوع"، بل أكثر من هذا، بأن من نراه على الشاشة هو الملكة حقاً، وتوني بلير هنا، والأمير فيليب والأمير تشارلز هم أنفسهم حقاً. بالنسبة الى ديانا، اختار فريرز، طالما انها الغائبة الحاضرة في الفيلم كله، الاستعانة مباشرة بمشاهد موثقة لها شخصياً. أما الآخرين فكان عليه ان يستعين بممثلين لا يكتفون بأن يشبهوا الشخصيات الحقيقية وهو أمر مستحيل طبعاً - بل يتجاوزون هذا للتعبير عن الروح الداخلية للشخصيات الحقيقية. وفي يقيننا ان قوة فيلم"الملكة"الأساسية تكمن هنا. لقد وفق ستيفن فريرز بالنسبة الى كل الذين قاموا بالأدوار الأساسية في الفيلم، ولكن خصوصاً في اختياره هيلين ميرين لدور الملكة اليزابيث، ومايكل شين لدور توني بلير. فهما، أمام كامرا ستيفن فريرز القوية والسابرة لروح الشخصيات، تمكنا بعد دقائق تردد أولى، من اقناعنا بأننا حقاً أمام اليزابيث وبلير. بل من دون أن نجازف بالمبالغة - شعر الجمهور أمام حضور كل منهما الطاغي، انه أمام أكثر من الملكة وأكثر من بلير: أمام ما كان يجب أن تكون عليه اليزابيث حقاً، وما كان يجب أن يكون عليه بلير! التاريخ افتراضياً قوة الاداء والاخراج ساعدا على هذا بالتأكيد. ولكن هناك أيضاً سيناريو بيتر مورغان، ثم الحوارات القوية الشكسبيرية حقاً هنا سواء جاءت عبر جمل ترمى هنا وهناك لتعبر عن مسالك هذه الشخصية أو تلك، أو تدور بين شخصيتين أو أكثر. من النماذج الدالة على النوع الأول، ما يقوله الأمير فيليب الذي يكاد يكون أكثر شخصيات الفيلم إثارة للاشمئزاز حين يدخل مدير البروتوكول ليخبر الملكة عن مقتل ديانا. ففيليب حين يسمع اسم ديانا هكذا عند الفجر، يقفز قائلاً:"ماذا... فعلت أيضاً هذه المرة؟". هذه العبارة إذ تأتي في هذا السياق، تكاد وحدها تقول الفيلم كله، وتقول موقف قصر باكنغهام مستفزة مشاعر المتفرجين. أما المثال الأروع على الحوارات الثنائية، فذلك الحوار الذي يدور في المشهد الأخير بين الملكة ورئيس حكومتها. إن السؤال البديهي الذي يمكن طرحه هنا، طالما ان موضوعنا هو العلاقة بين السينما والتاريخ، هو التالي: هل حدثت الأمور، في الكواليس، على هذا النحو حقاً؟ الجواب، طالما اننا أمام عمل فني في نهاية الأمر هو: ليس بالضرورة. ويمكن لأوساط الملكة ولأوساط بلير أن توضح وتنفي. لكن أحداً لم يفعل حتى الآن. وتحديداً لأننا هنا في صدد عمل فني مهمته ان ينظر الى التاريخ افتراضياً، وليس واقعياً تماماً. فهنا، في فيلم فريرز هذا، ليس المهم ان يُروى التاريخ - في تفاصيله - كما حدث حقاً. ونحن نعرف ان أحداً لا يملك، حتى بالنسبة الى التاريخ العملي والعلمي، زعم انه يقول الحقيقة... فكيف بالتاريخ وقد حُوّل الى عمل فني؟ وأكثر من هذا: حين تقدم السينما على تحقيق فيلم تاريخي، يستعان طبعاً بالأرشيف وبخبرات المتخصصين، ومع هذا تكون النتيجة فقط عملاً يعبر ليس عما حدث حقاً، بل عن نظرة المؤلفين والفنانين الى ما حدث. ذلك ان السينما لا ترى ان من مهمتها بأن تقول التاريخ كما هو، بل مهمتها خلق ذلك التفاعل بين النظرة الراهنة وتاريخ الأحداث، ما يخلق لعبة الاسقاط المتبادلة بين الماضي والحاضر. أما في فيلم من نوعية"الملكة"فإن المقترح، ليس رواية التاريخ، بل رواية ما لا يمكن التاريخ ان يصل اليه. ومن هنا تطلع أمامنا مرة أخرى لعبة التلصص. ولنوضح: كل الناس يعرفون ما الذي حدث حين قتلت ديانا في حادث الاصطدام في باريس. وكل الناس يعرفون ان النبأ خلق أزمة سياسية في انكلترا، وان الملكة حاولت التملص من المشاركة في العزاء والدفن، ما زاد من عداء الشعب الانكليزي للقصر، ومن تفاقم الأزمة، وشعبية ديانا بالتالي. ولكن في النهاية، وهو أمر يعرفه كل الناس أيضاً، لانت الملكة وشاركت و"حزنت". كل هذا معروف، لكن ما لم يعرفه أحد، في أوساط الرأي العام على الأقل هو: كيف حدث ولانت الملكة وما الذي بدل الأمور. في مصلحة من؟ طبعاً نعرف هنا ان ليس ثمة أرشيفات توضح الأمور... ونعرف، بالتالي، أن كل فيلم ستيفن فريرز إنما هو قائم على فرضيات، وعلى رواية يملكها كاتب السيناريو. ومع هذا يمكن لأي كان ان يتصور ان ما نشاهده من حياة الكواليس في الفيلم، كان يمكن أن يحدث. ومن هنا ينتمي"الملكة"الى التاريخ الافتراضي ويقدم لنا، ماكيافيللياً في المضمون، شكسبيرياً في الشكل، أمثولة مدهشة عن الطريقة البارعة التي أنقذ فيها رئيس حكومة عمالي، المؤسسة الملكية في بريطانيا، ببعض العبارات والمواقف التي عرف بها كيف يعيد الملكة الى صوابها والى شعبها وشعبيتها. فلم، اليوم، قد يكون من مصلحة قصر باكنغهام، أو من مصلحة بلير، نكران ذلك كله؟