إذا نظرنا بتمعن الى قناتي"الجزيرة"القطرية و"فوكس نيوز"الأميركية، نجد انهما الأكفأ بين المحرضين المحدثين كافة، وان تميزت الجزيرة قليلاً على نظيرتها في التضليل. ومع انه توجد اختلافات كثيرة بينهما من حيث التمويل والجمهور المستهدف، فلكل منهما حظ من درجة من درجات المهنية، وكلتاهما تدعيان الحياد، وكلتاهما تنتقيان بعناية شعارات الصدق والوسطية وما يراد بثه من ترويج. ف"الجزيرة"مثلاً، تنتقي بعناية بعض اقوال الصحاف الناقدة، لانها تعرف أكثر من غيرها انه كان يتحدث باسم نظام هوى قبل بث حديثه، وفي الوقت ذاته تردد ما انتقدها به وزير الدفاع في حكومة علاوي حازم الشعلان، لتقول انها محايدة، والمحايد بطبيعة الحال لا يمكن ان يرضى عنه طرفان متناقضان. و"الجزيرة"أكثر العارفين انه لم تكن للصحاف لا سلطة ولا نفوذ في اتخاذ أي قرار، ومفروض عليه ما كان يقوله، في وجود صدام وقبيل سقوط تمثاله بساعات. اما"فوكس نيوز"فتكتفي بالقول انها"متوازنة"، وهي في الواقع مائلة الى يمين شارون بزاوية حادة. وقد يبدو، انه لا يعقل تصديق أي وجه من وجوه المقارنة، بين محطة يسيطر على تحريرها ابرز وجوه اليمين المتطرف من الليكوديين، وبين محطة عربية تجتذب اليها كل الغوغائيين من قوميين ويساريين، وكل الفصحاء ممن يروجون للإرهاب، اما مباشرة بأصوات القتلة، او بأصوات الصامتين عن شروره والمعتذرين له، بدغدغة عواطف العرب والمسلمين ضد من يكنون لهم كرهاً مزمناً، قد يكون له ما يبرره. ويرحبون بأي سعودي يُكَنِي نخبة قادة الخوارج والفئات الضالة، بأبي عبدالله أو بأبي محمد... الى آخر الأسماء الملفقة والحقيقية. وقد صدق من قال: كيف نصدق من يسمون القتلة في السعودية إرهابيين، وفي الوقت ذاته يُسمون زملاءهم ورفاقهم، قتلة الاطفال والنساء وقاطعي رؤوس الأبرياء في العراق أبطالاً مجاهدين؟! ومن لا يدرك ان قادة القتلة والانتحاريين في العراق ومصر والمغرب والخليج، وفي أي مكان آخر، هم انفسهم قادة التكفيريين المنفذون، الذين يفضلون قتل رجال الأمن السعوديين قبل غيرهم، لولا تزايد صعوبة قتلهم غيلة أو اختطافهم، واتحاف العالم بصور قطع رؤوسهم، والتمثيل بأجسادهم البريئة من دنس افكار مشايخ الارهاب؟ ألا تحرص"الجزيرة"على السبق في اذاعة اشرطتهم ما دام ما يقولونه يسيء الى السعودية من بعيد أو قريب؟ ولكن السؤال هو: لماذا تميزت"الجزيرة"و"فوكس نيوز"، فصارتا هما الأكفأ في توظيف ادوات التحريض، والتضليل الأرقى، اضافة الى الدس المتقن إخفاؤه؟ الاسباب أكثر من ان يمكن بحثها بجدية هنا. غير ان أهمها: ان واضعي سياستي تحريرهما يختارون اعلاميين مهنيين، عندهم من التجربة والمعرفة المتعمقة لتنفيذ السياسة التحريرية المطلوب منهم تنفيذها بمهنية وكفاءة عالية. فلا يلجأون الى الكذب المفضوح. واذا احتاجوا الى الكذب والتزييف وجدوا مهرجاً محترفاً يكذب من محطاتهم ثم يقولون ذلك كان رأي"الخبير"الضيف لا رأينا نحن. اما"فوكس نيوز"فقد تجاهلت ببراعة لا يقدر عليها غيرها، استضافة المحامي الموكل عن موظفتهم التي رفعت قضية اتهمت فيها احد نجومها بالتحرش الجنسي. وما كذبت"فوكس"، ولكنها أذاعت فقط ما تريد من جمهورها سماعه، لا ما فعلته شبكات التلفزة الأخرى من استضافة محاميي الطرفين. وبالمثل فعلت"الجزيرة"عندما تجاهلت مأساة بطن من بطون بني مرة. وليتصور من يريد الحقيقة، فعلاً لا شعاراً، ماذا سيكون رد فعل"منبر من لا منبر له"لو حدث ما حدث لبني مرة في قطر، لأي قبيلة مماثلة في السعودية أو في الكويت. أما الانتحار، وبقية فنون قتال، ابي محمد وابي مصعب وابي حفص وبقية قادة الارهاب، بالنسبة الى"الجزيرة"، ما دام انها تحدث خارج قطر، حتى لو في لندن ومدريد، فهي أعمال تستضيف الجزيرة من يصفها ب"جهادية"، أو على الاقل من يعتذر لها ويبررها بما هو واقع على"الامة"من ظلم حقيقي أو غير حقيقي في أي مكان فوق الأرض. أما جهاد المقاومة المشروعة في فلسطين، التي لا تستهدف العزل من النساء والاطفال وبقية الأبرياء، ولا تقاتل غير المحاربين المسلحين المحتلين، بالنسبة الى"فوكس"، فهم جميعاً ارهابيون من النوع الذي خطط ونفذ كوارث 11 سبتمبر في اميركا و7-7 في لندن، ومدريد بينهما. وإذا قال المحافظ القديم النزيه"بات بيوكنن"ان الفلسطينيين بما في ذلك"حماس"وامثالها، لم يؤذوا قط أي أميركي ولا اوروبي ولا اي انسان آخر خارج نطاق حدود اسرائيل وفلسطين، فإنها تبذل كل ما تستطيعه من جهود لتجاهل بيوكنن وامثاله في احسن الاحوال، أو اتهامهم بمعاداة"السامية"وبالعنصرية ضد بقية الأقليات الأميركية، حتى لو كان القائل يهودياً. ومما يجمع بين"فوكس"الأميركية، و"الجزيرة"القطرية، ليس الحد الادنى من المهنية، وادعاء الحياد والصدق فحسب، ولكن أيضاً اختيار أطراف المتحاورين بعناية تحقق الهدف المعد مسبقاً، باختيار الاطراف الأضعف وتضييق الخناق عليهم من ذوي الرأي"المطلوب"من جهة، وباختيار الأكثر قدرة لمن يحرصون على تغليب رأي واضعي سياسة التحرير بطريقة مدروسة بعناية فائقة. كذلك مما يجمع بين"فوكس"الأميركية، و"الجزيرة"القطرية، الحرص على البحث عن كل ما يسيء الى سمعة السعودية، بخلط حقائق لا علاقة لها بموضوع النقاش، مع اختلاق"حقائق"وتزييف أخرى بأصوات الاساتذة"الخبراء"الضيوف، لها علاقة بموضوع النقاش. بالطبع قد نجد عذراً للقائمين على تحرير"فوكس نيوز"، في الإساءة الى السعودية، لأنهم يعرفون ان السعودية لها صداقة مُتجَذِرة مع أميركا ولدت قبل ميلاد اسرائيل، وهي صداقة في مصلحة العرب كافة وغالبية الأميركيين، استمرارها. وفي الوقت ذاته، يعرفون أيضاً ان السعودية لن تتخلى عن فلسطين، ولن تقيم علاقات صداقة مع اسرائيل، ما لم تُحل قضيتهم الدولة الوحيدة القادرة على ايجاد حل عادل، يضمن الامن والاستقرار في المنطقة، والسلام في العالم. أما اصحاب القرار في ما تذيعه وفي ما تتجاهل اذاعته"الجزيرة"، تحقيقاً للإساءة الى السعودية بقدر المستطاع، فلا يعلمه إلاّ علام ما تخفي الصدور. أكاديمي سعودي.