القيادة تعزي حاكم بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي    صندوق الاستثمارات يطلق مجموعة نيو للفضاء    شهادات الاقتصاد    كوريا الشمالية تعلن فشل عملية إطلاق قمر اصطناعي لغرض التجسس    بولندا تبرم صفقة مع الولايات المتحدة لشراء صواريخ بعيدة المدى    جدول ترتيب هدافي الدوري السعودي بعد نهاية موسم 2023-2024    أخضر تحت 23 يشارك في بطولة موريس ريفيلو الدولية    الشمردل ينتزع ذهبية غرب آسيا للبلياردو    غرامة على من يتأخر في الإبلاغ عن مغادرة من استقدمهم في الوقت المحدد لانتهاء تأشيرة الدخول    كشف رب الأسرة    الطائر الأخضر والمقعد الأزرق !    «ديوان المظالم» يقيم جلسة توعوية بالتعاون مع الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    أمير المنطقة الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة نادي الاتفاق    ورحلت أمي الغالية    مكتسبات «التعاون»    «مايكروسوفت» تترجم مقاطع الفيديو وتدبلجها    إدانة دولية لقصف الاحتلال خيام النازحين في رفح    نعم.. ضغوطات سعودية !    الديمقراطية إلى أين؟    ولادة 3 وعول في منطقة مشروع قمم السودة    الاحتيال العقاري بين الوعي والترصد    موجز    التعاون يتغلب على الاتفاق بهدف في دوري روشن    إسدال الستار على الدوريات الأوروبية الكبرى.. مانشستر سيتي يدخل التاريخ.. والريال يستعيد لقب الليغا    أخضر رفع الأثقال وصيف العالم    اليوم في ختام دوري يلو.. تتويج القادسية.. والخلود والعروبة في صراع الوصافة    نائب أمير نجران يبارك للأخدود البقاء في دوري روشن    ارتفاع استثمارات «المسار الرياضي»        مفهوم الاختبارات    سرقة سيارة خلال بث تلفزيوني    طلب عسير    عبر دورات تدريبية ضمن مبادرة رافد الحرمين.. تأهيل العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    الدوسري أشاد بتميز جيل الرؤية.. «الإعلام» تحتفي بالفائزين في معرض « آيتكس»    الفيصل تُكرم الطلاب الفائزين في مسابقتَي «آيسف» و«آيتكس» وتشيد بمشاريع المعلمين والمعلمات    حفلات التخرج.. البذل والابتذال    بدء أعمال إنشاء مساحات مكتبية في "ميدان الدرعية"    إخلاص وتميز    سلمان بن سلطان: خدمة الحرمين ورعاية قاصديهما من أهم أولويات الدولة    كيف تصف سلوك الآخرين بشكل صحيح؟    أمير المدينة يستقبل الشيخ السديس ويطلع على خطة الرئاسة التشغيلية لموسم الحج    سكري الحمل    دراسة تكشف أسرار حياة الغربان    نصائح للمرضى خلال رحلة العمر.. إستشاري: خذوا أدوية السكري في مواعيدها وتجنّبوا الإجهاد    10 آلاف زائر للمعرض الوطني بالقصيم    الشورى يدعو لضبط أسعار العقارات السكنية وتنظيم الإيجار    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقاء الأسبوعي    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي.. غداً    «جامعة نايف» تفتتح فعاليات الندوة العلمية «إدارة وتأمين الأحداث الرياضية الكبرى»    الخارجية السعودية: «الوزاري المشترك» شدد على ضرورة وقف فوري لإطلاق النار في رفح    قافلة التجمع الأول الطبية تحط رحالها في الدلم.. السبت    فيصل بن بندر يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    سلمان الدوسري يهنئ جيل الرؤية على التفوق والتميز    إنطلاق أعمال ملتقى تجربة المريض "بين التحديات والفرص في المنشآت الصحية    نائب أمير مكة يطّلع على استعدادات وخطط وزارة الحج والعمرة    تعليم الطائف يدعو للتسجيل في خدمة النقل المدرسي للعام    جوازات ميناء جدة الإسلامي تستقبل أولى رحلات ضيوف الرحمن القادمين من السودان    وصول طلائع الحجاج السودانيين إلى ميناء جدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحساسية الإنسانية مطلوبة إلى جانب الثقافة السياسية . مستقبل الشرق الأوسط الموسع بين صوتين ... مصري وأميركي
نشر في الحياة يوم 19 - 07 - 2005

صدرت في كل من واشنطن والقاهرة على التوالي تصريحات من رئيس الوزراء المصري احمد نظيف ووزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، وبفارق زمني قصير نسبياً لا يزيد على شهر، وفي ظل علاقة ثنائية اتسمت منذ بداية حكم الرئيس بوش الابن بالتذبذب، ما بين التأزم الطفيف والتأزم الحاد، وكشف تبادل التصريحات الكثير من الدلالات والتناقضات في العلاقات الثنائية والسياسات المتعلقة بخطة الشرق الأوسط الموسع.
وخلال زيارته الى واشنطن في 15 ايار مايو الماضي قال نظيف:"ان المجتمع المصري لم ينضج بعد بالدرجة التي تؤهله للديموقراطية الكاملة..."، وإثر مقابلته الرئيس بوش وأمام باب البيت الأبيض قال:"... ان مسألة المراقبة الدولية للانتخابات في مصر لم تثر خلال المقابلة..."، فكان ان خرج المتحدث باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان بعد دقائق لينفي ما قال نظيف.
خلال زيارتها القصيرة للقاهرة في 20 حزيران يونيو الماضي قالت رايس:"... اخطأت الولايات المتحدة على مدى 60 عاماً بدعمها الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديموقراطية فلم يتحقق أي منهما..."، ثم اضافت:"... إن الخوف من الخيارات الحرة لم يعد يبرر حجب الحريات العامة..."، وكانت تقصد وصول الإسلام السياسي الى الحكم عبر الانتخابات الحرة، ثم اكدت ضرورة اجراء الانتخابات طبقاً للمواصفات المعروفة وتحت المراقبة الدولية.
التعالي واحتقار الشعب تكمن دوافعهما على المستوى الشخصي في نقص الحساسية الإنسانية والافتقار الى الثقافة السياسية وتواضع المعارف العامة، وهذه المواصفات ليست، كما يبدو، من شروط الفئة الحاكمة في بعض البلاد. وخلال زيارة نظيف لواشنطن اكدت لجنة مكافحة التعذيب في الأمم المتحدة ما ذهب إليه تقرير هيومن رايتس ووتش تحت عنوان"ثغرة سوداء"وورد فيه ان دول عدة من بينها الولايات المتحدة والسويد، ارسلت مشتبهاً بهم في قضايا الإرهاب حيث تم تعذيبهم، وذكرت ان من بين 295 حالة توفي 120، كما ذكرت أن التعذيب في مصر يتم في شكل منهجي، أي ان حكومة السيد نظيف تقوم بالتعذيب لحساب الغير. وخلال الفترة نفسها احتلت مصر الرقم 9 في قائمة الفساد التي تصدرها هيئة الشفافية، وتصل البطالة المباشرة والمقنعة الى 40 في المئة، وتعتبر مصر من الدول الأولى في تصدير الجياع والإرهابيين، حيث خرج منها ثلث تنظيمات التطرف على مستوى العالم، وفي منتصف نيسان ابريل الماضي اعلن نادي القضاة في الاسكندرية ان احكام القضاء تخضع للأهواء وتدخلات السلطة التنفيذية، وطالب النادي باستقلال القضاء والإشراف الكامل على الانتخابات حتى لا يتم تزوير ارادة الشعب، وقرر ان كل الانتخابات والاستفتاءات مزورة منذ نصف قرن.
بعد خمسة ايام من انتهاء زيارة السيد نظيف لواشنطن وفي يوم 25 ايار، وخلال ما سمي بالاستفتاء على تعديل المادة 76 قامت شراذم من الخارجين على القانون بهتك عرض فتيات شاركن في تظاهرات سلمية ضد السلطة، تحت حماية وبمشاركة رجال الأمن. اما قضية رفض المراقبة الدولية والتعلل بالسيادة الوطنية ورفض المصريين لها فهو تعليل ساذج وبدائي، ذلك ان السبب الأصلي واضح، فإذا كانت خبرة التزوير لنسبة الموافقة وتعدد مساربها لا تشكل صعوبة في كل الظروف، فإن الصعوبة تكمن في تزوير نسبة الإقبال على التصويت في ظل ما يشبه عصياناً وطنياً طوال ثلاثة عقود تقريباً جعل نسبة الإقبال تراوح بين 2 في المئة و7 في المئة، والنسبة القصوى تتحقق عند مشاركة الإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب. وإذا حدث ذلك تحت مراقبة دولية فإن ذلك يجعل شرعية النظام محل جدل محرج. وما يمكن ذكره في مجال تدهور مرتبة مصر في التنمية البشرية وحيل توريث السلطة فحدث ولا حرج ما يجعلها اشبه بديناصور من العصور السحيقة اخذ يتجول في شوارع المدن.
وإذا كان كل ما سبق معروف ومتكرر فإن الجدير بالتحليل هو تصريحات رايس وعلاقتها بخطة الشرق الأوسط الموسع، وفي اعتقادي ان الديموقراطية وحقوق الإنسان ليسا سوى مظهر رسالي اخلاقي يخاطب المؤسسات الشعبية القوية في الولايات المتحدة، تكتسي به الاستراتيجية الأميركية بعد الحرب الباردة، كما ان الاستقرار ليس التسمية الدقيقة للسياسات خلال الحرب الباردة، وأنه مجرد اعادة صوغ لأهداف هذه السياسات.
لجأ كل من طرفي الحرب الباردة ولأسباب عملية الى تنازلات ايديولوجية في المواجهات الإقليمية، وساند كل منهما انقلابات عسكرية وديكتاتوريات مختلفة جذرياً عن ايديولوجيتها المعلنة الى العالم الحر في الأدبيات السياسية الأميركية، وحقوق الطبقة العاملة في الأدبيات السوفياتية. وفي ظل اليمين المكارثي في الولايات المتحدة، وسياسة شغل الفراغ وسيطرة مبدأ هولشتين:"... من لم يكن معي فهو ضدي..."، وسياسات حافة الهاوية التي صممها وزير الخارجية جون فوستر دالاس خلال فترة الخمسينات، وتحت ضغط المؤسسات الرأسمالية، ابتدعت الولايات المتحدة فكرة ان النظم الديكتاتورية في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية يمكن ان تنجز التنمية الاقتصادية من دون شرط التعددية السياسية، ويمكن العثور على بقايا هذه الفكرة في كتاب شمعون بيريز"شرق اوسط جديد"وكتاب بنيامين نتنياهو"مكان بين الأمم"، وقد شاعت في دهاليز السياسة الأميركية عبارة"رجلنا القوي"في هذا البلد او ذاك، ونجحت هذه السياسة بنسبة كبيرة في آسيا وأميركا الجنوبية لسببين اساسيين، اولهما: ان الثقافة السائدة من تلك المناطق لا تعادي الحريات الاجتماعية الحاضن الاول للمبادرة الفردية والابداع، أهم اسس التنمية الرأسمالية، كما انها لم تمنع النساء بالتالي من المشاركة في التنمية، وخير دليل هو وصول النساء الى مناصب الرئاسة في العديد من الدول الآسيوية، بما فيها الدول الاسلامية، وثاني الاسباب: هو ان الدكتاتوريات في آسيا كانت تتمثل التجربة اليابانية، وفي اميركا اللاتينية كانت تتمثل التجربتين الاميركية والكندية، كما انها كانت تتمتع بمزاجيات وميول حضارية اوروبية في الحالتين.
كان الوضع في الشرق الاوسط مختلفاً تماماً، وجاءت النتائج عكسية، واذا اخذنا مصر كمثال، نجد ان الحريات الاجتماعية نمت وتطورت في ظل التجربة الليبرالية قبل انقلاب تموز يوليو، لأن الفتائل الاساسية للطبقة الوسطى كانت من الجاليات الاجنبية والمتمصرين ونشطاء العمل الاهلي وخريجي المدارس العليا والجامعات الغربية والاقباط من أهل المدن وموظفي الهيئات ومؤسسات الدولة، كما ان صعود الوطنية المصرية كان على انقاض الانتماء الى الخلافة العثمانية. وكانت جماعة الانقلاب"اولاد كافري"نسبة الى جيفرسون كافري سفير الولايات المتحدة في القاهرة ابان الانقلاب تنتمي في غالبيتها الى طبقات مرتبكة ومشوشة، وتنتمتي سياسياً الى الجماعات الفاشية ذات الجذور الريفية، ولم يكن في"مجلس الثورة"أو"تنظيم الضباط الاحرار"قبطي واحد أو متمصر، وهكذا صودرت الحريات الاجتماعية لحظة مصادرة الحريات السياسية. ومع رحيل رجال الاعمال والجاليات والمتمصرين والكوادر العلمية والفكرية والاقباط بدأت عجلات الجمهورية العسكرية الدينية في الدوران، وبعد الوحدة مع سورية اكتشفوا"كنز"الفاشية القومي العربي، وتحول الشرق الاوسط الى بؤرة توتر وبيئة سياسية تتناقض مع كل انواع التنمية والسلام، وهنا يحاول البعض، ضمن القراءة القومية، تقديم الصراع العربي - الاسرائيلي كسبب، ولكن ذلك لا يزيد عن كونه مراوغة، اذ ان الصراع نفسه لم يكن سوى اتجاه لترحيل الازمات الناتجة عن الفشل الداخلي، ومبرر لدعم الدولة المركزية المتسلطة، ودليل ذلك ان تكلفة ذلك الصراع هي الاقل بالمقارنة مع الصراعات العربية/العربية والعربية/الافريقية والعربية/الاسلامية، وتكلفة الصراع في السودان وحده من الضحايا تصل الى مليونين، وبين العراق وايران تصل الى مليون ونصف، ونصف هذا العدد من المذابح الداخلية ضد الاكراد والشيعة، وفي الجزائر 150 ألفاً تقريباً، و50 الفاً خلال حرب عبدالناصر في اليمن ومثلهم في الحروب الاهلية لتوحيد اليمن، والعديد من النزاعات في المغرب العربي مستمرة منذ ربع قرن الى الآن، واضافة الصومال تكاد تزيد الصورة وضوحاً، كما ان كل الدول العربية تقريباً بينها نزاعات حدودية، وتمتلئ السجون العربية بمساجين الرأي، ناهيك عن وضع الاقليات والنساء.
في العقد الاخير من الحرب الباردة تحدث بريجنسكي مستشار الرئيس كارتر للامن القومي عن قوسين للازمات، قوس شمالي هو الاتحاد السوفياتي واوروبا الشرقية، وقوس جنوبي هو الشرق الاوسط"الكبير". بعد انهيار سور برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي مع بعض العمليات المحدودة في يوغوسلافيا يمكن القول ان قوس الازمات الشمالي وجد الحل مع نهاية الحرب الباردة التي انقشعت عن حقائق، اولها: ان اقتصاد الولايات المتحدة يشكل اكثر من ثلث اقتصاد العالم، كما حدثت به قفزات نوعية اقرب الى الثورة النوعية، اذ اصبح يعتمد وللمرة الاولى في تاريخ الرأسمالية على سلع خدمية هي المعلومات والاتصالات والبحوث العلمية والتكنولوجية الفائقة، إضافة الى تنامي نشاط السياحة والنقل، والأهم من ذلك ان خريطة ذلك الاقتصاد تغطي العالم كله تقريباً، إضافة الى الفضاء، وذلك يحتاج الى السلم العالمي والأمان في ممرات الجو والبر والبحر اكثر من أي وقت مضى. نتج عن هذه الحقائق مفهوم العولمة ذات المركز الاميركي، وازدادت الحاجة الى تطابق خريطة الاقتصاد والقدرات العسكرية الخارقة مع الخريطة السياسية، في مقابل تناقص الحاجة الى مساندة كيانات اقليمية غير منتجة وغير مشاركة في الاقتصاد العالمي بنسبة ذات بال، تصدر الجياع والارهابيين وتنتج ثقافات عنفية وايديولوجيات الخصوصية العنصرية المهددة للدورة الحيوية للاقتصاد، وتحجيم قوس الازمات الجنوبي ومن ثم تفكيكه لاحقاً.
ولم يكن غزو افغانستان والعراق سوى جزء من المرحلة الاولى - في اعتقادي - وما يجري حالياً هو اعادة تأهيل لدول التسلط، بمعنى تغيير السياسات الداخلية والخارجية من دون تغيير الانظمة، مثلما يحدث مع الجزائر وليبيا وتونس والسودان والسلطة الفلسطينية، بما يضمن توقف انتاج الثقافات العنفية وربط الاقتصاد بالاسواق العالمية وزيادة المشاركة الشعبية تدريجاً، والحل طويل الامد للصراع الفلسطيني الاسرائيلي، مع ملاحظة انه طبقاً للقاعدة السياسية التي تقرر ان تدخل قوة خارجية ما في اقليم ما يدفع النظام الاقليمي الى مقاومة هذا التدخل، وهذه القاعدة هي العنوان السياسي لما يحدث الآن في العراق، حتى لو تحالف هذا النظام الاقليمي العربي مع الارهاب الاصولي.
ولكن العودة الى التباين بين تصريحات احمد نظيف وكوندوليزا رايس تطرح - في اعتقادي - سؤالاً عن مدى نجاح المحاولة مع ديناصورات دول التسلط العائلية، كي تتعلم آداب وقوانين المرور، وتخضع لقواعد السير وتمييز علامات الطرق في العالم المعاصر. ويذكرني ذلك بعبارة ونستون تشرشل:"... الاميركيون يؤدون العمل الصحيح بعد ان يفعلوا كل ما هو خطأ".
الاسكندرية في 29 حزيران - يونيو 2005
كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.