كان هذا الاسبوع حافلاً بالمفاجآت التي وضعت لبنان في صلب أحداث تاريخية لم تشهد لها مثيلاً منذ اكثر من نصف قرن تقريباً. اي منذ إرغام الرئيس بشارة الخوري على الاستقالة سنة 1952، علماً أنه كان يتمتع بتأييد غالبية اعضاء مجلس النواب. ولكنه تراجع عن تعنته امام الشارع الساخط، تماماً مثلما فعل عمر كرامي الذي آثر الرجوع الى المرتكزات الوطنية التي صنعت شهرة والده عبدالحميد كرامي وشقيقه رشيد كرامي. ولقد نبهت ظاهرة الانقلاب المخملي الذي نفذه آلاف الشبان ممن ينتمون الى مختلف الطوائف والمناطق، الى تأثير غضب الشارع اللبناني وما يمكن ان يحدثه من تغيير على المستوى السياسي. والمؤكد ان نواب المعارضة من امثال ميخائيل الضاهر ومروان حمادة وغازي العريضي، عرفوا كيف يوظفون هياج الجمهور لترجمة خطب الاحتجاج الى لغة نارية ذكرت الناس بخطب"ميرابو". ويرى المراسلون ان تحلق المفجوعين حول قبر رفيق الحريري في باحة مسجد محمد الأمين، يمثل حالة احتجاج فوق ضريح يعتبر نزيله شهيداً لكل متظاهر. وهذا ما يفسر توقيت الانفجار الشعبي الذي تزامن مع اعلان معركة الحريات كأن النفوس المقهورة كانت تنتظر الفرصة المواتية للتعبير عن رفضها للواقع المؤلم. ولقد ساعد الخطاب الذي ألقاه النائب مروان حمادة، في كشف الكثير من الخفايا المتعلقة بالضغوط التي مورست على الحريري من أجل تناسي التزامات اتفاق الطائف. وكان بهذا الاعتراف ينبه الى قصور الدولة الذي استمر مدة خمس عشرة سنة، الأمر الذي حمل المعارضة على تبني شعارات الشارع الغاضب. كما حمل"اللقاء النيابي الديموقراطي"في بلدة"المختارة"على مطالبة سورية بإعلان جدول زمني للانسحاب يثبت للمجتمع الدولي التزامها النهائي التقيد بنصوص اتفاق الطائف. وينص الاتفاق في البند المتعلق بسيادة الدولة اللبنانية على الآتي:" تقوم القوات السورية مشكورة بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية لبسط سلطة الدولة اللبنانية في فترة زمنية محددة أقصاها سنتان بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وإقرار الاصلاحات السياسية بصورة دستورية. وفي نهاية هذه الفترة تقرر الحكومتان اعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي في ضهر البيدر حتى خط حمانا المديرج عين دارة. واذا دعت الضرورة في نقاط اخرى يتم تحديدها بواسطة لجنة عسكرية مشتركة". ولقد مرت هذه الصياغة بمراحل تجاذب قبل التوصل الى الاتفاق النهائي الذي وضع حسب تصور دمشق. والسبب ان اعضاء اللجنة العربية العليا المؤلفة من وزراء خارجية السعودية والجزائر والمغرب، اضافة الى الأخضر الابراهيمي، سجلوا تحفظهم على مشروع الحل بشقيه السياسي والأمني. لذلك اصدروا بياناً في 26 ايار مايو 1989 قالوا فيه انهم وصلوا الى طريق مسدود. وجاء في البيان ما يأتي:"طبقاً لمنظور سورية، فإن مسألة بسط السيادة اللبنانية يجب الا تحسم مسبقاً وفق فترة زمنية محددة، وانما يجب ان يترك هذا الامر الى ما بعد قيام حكومة الوفاق الوطني. ومن الواضح ان التوجه السوري في هذه المسألة لا يتفق مع المفهوم الذي طرحته اللجنة والذي يقوم على انه اذا ما أريد لموضوع الاصلاحات السياسية الذي تدعو اليه اطراف متعددة في لبنان أن يسير قدماً، فلا بد ايضاً من استجابة لمطالب اطراف لبنانية اخرى من معالجة مسألة بسط سيادة الدولة اللبنانية على النحو الصريح والواضح الذي اعتمدته اللجنة في وثيقتها المقترحة. اما في ما يخص مستقبل العلاقات السورية اللبنانية، فقد اعتبرت سورية ان اقتراح اللجنة لا ينسجم مع منظورها الى ما يجب ان تكون عليه هذه العلاقات من النواحي الاستراتيجية والامنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها". عقب صدور البيان أعلنت سورية ان اللجنة تجاوزت مهمتها الأساسية، وراحت تهتم بالقضايا الامنية التي لا تدخل في صلب اختصاصها. وفي 31 تموز يوليو أصدر وزراء خارجية الدول الثلاث بياناً حول عمل اللجنة باسم رؤساء دولهم، اعتبروا فيه ان اللجنة وصلت الى طريق مسدود في المجالين الأمني والسياسي. وفي 4 آب اغسطس 1989 أصدر وزير خارجية سورية فاروق الشرع، مذكرة رد فيها على بيان اللجنة الثلاثية، مؤكداً ان غياب تقويم موضوعي ونزيه لمواقف الأطراف المعنية بحل الأزمة لا يساعد على ايجاد المخارج والحلول لها. وهكذا تجمعت امام اللبنانيين ثلاثة نصوص يعبر اولها عن الاجماع العربي داخل مؤتمر القمة، وثانيها عن رأي اللجنة المكلفة تنفيذ قرارات القمة، وثالثها عن رأي سورية. وكان من الطبيعي ان تتجدد مخاوف الأسرة الدولية التي رأت في فشل اللجنة العربية، مدخلاً لاستئناف الاقتتال، خصوصاً ان كل المحاولات السابقة لم يكتب لها النجاح، فلا الوثيقة الدستورية التي وافق عليها الرئيس سليمان فرنجية في دمشق مطلع سنة 1976 رأت النور، ولا بيان حكومة رشيد كرامي الصادر في أيار 1984... ولا الاتفاق الثلاثي الذي وقعه قادة ثلاث ميليشيات لبنانية في دمشق آخر سنة 1987... ولا المفاوضات بواسطة سفيرة اميركا ابريل غلاسبي في ربيع 1988، ولا محاولة الاتفاق على انتخاب ميخائيل الضاهر في صيف 1988. كل هذه المحاولات باءت بالفشل لأن سورية أصرت على ربط توقيت الانسحاب بالوضع الامني الاقليمي وما يمكن ان يؤثر عليها تهديد الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان. وتحت تأثير ضغوطها السياسية على الدول العربية، استطاعت ان تبدل موقف الاجماع العربي والدولي، وتفرض شروطها على النواب اللبنانيين في الطائف. وعلق العماد ميشال عون في حينه على الاتفاق بالقول:"انه حل سوري بغطاء عربي". ووصفته الصحف الفرنسية بأنه اتفاق إذعان بين غالب ومغلوب يشبه اتفاق هتلر مع تشيكوسلوفاكيا. وتحت عنوان:"الطائف: فضيحة لبنان"كتب البرتو مارينتوني في صحيفة قريبة من الفاتيكان يقول ان اثنين فقط من اصل 73 نائباً رفضا الرشوة التي قدمت لزملائهما. واضطر عدد كبير من النواب الى تكذيب الاتهامات من دون ان يكذبوا اخبار التهديدات والضغوط المعنوية التي مورست عليهم. ومنذ اعلان اتفاق الطائف 24 تشرين الاول / اكتوبر 1989 بصيغته النهائية كما أملتها سورية، ظلت الدولة اللبنانية تتعامل مع الشقيقة الكبرى بوحي من سياسة وحدة المسارين والمصيرين. ويبدو ان الدول المعنية حاولت مراراً فك هذه العلاقة على أمل بأن يحظى القرار اللبناني بهامش من السيادة والاستقلالية. ولكن محاولاتها باءت بالفشل لأسباب تتعلق بحماية خاصرة سورية من اعتداء اسرائيلي محتمل. وعرض الرئيس بيل كلينتون مرة اقتراحاً على اسرائيل يقضي بانسحاب تدريجي للقوات الاسرائيلية من الجنوب، مقابل انسحاب القوات السورية، على ان يستتبع هذه الخطوة اتفاق بين الدول الثلاث يؤدي الى الانسحاب من مرتفعات الجولان. وفوجئ كلينتون برفض سورية هذا الاقتراح الذي يحرر الجنوب والجولان، وبأن دمشق تعترض على مساواة شرعية وجودها في لبنان باحتلال المغتصب الاسرائيلي. وقالت ان الخيار الوحيد المقبول هو استمرار النزف الاسرائيلي الى ان تنصاع حكومة نتانياهو لمطلب الانسحاب من الجولان. ولما أجبرت عمليات المقاومة اللبنانية اسرائيل على الانسحاب من الجنوب سنة 1998 بررت الدولة اللبنانية ضرورة استمرار الوجود العسكري السوري بالقول ان القرار 425 لم ينفذ بالكامل بسبب استثناء مزارع شبعا. وطلب في حينه وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي سحب قوات بلاده في ظل اتفاق أمني مع لبنان، مشيراً الى ان مفتاح الموقف يبقى في يد دمشق. بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد تبنى نجله الرئيس بشار هذه السياسة ثم أدخل عليها بعض التعديلات بواسطة المجلس الأعلى اللبناني السوري و"معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق"ولما زار لبنان تلبية لدعوة الرئيس لحود في الثالث من آذار مارس 2002، حرص في البيان المشترك على اعلان دعمه للانتفاضة الفلسطينية، وعلى تفعيل الاجهزة المشتركة. وبسبب هذا الالتزام المعلن دأبت الولاياتالمتحدة واسرائيل على اتهام سورية برعاية"الارهاب"الفلسطيني. ومع ان حركة" الجهاد الاسلامي"اعلنت من بيروت، مسؤوليتها عن العملية الاخيرة في تل أبيب، إلا ان شارون يزعم ان نقل مكاتب" الجهاد الاسلامي"و"حماس"من سورية الى لبنان، لم يكن اكثر من تمويه يراد به إحراج الدولة اللبنانية وتعريضها لخطر الانتقام. وفي رأيه ان الدعم السياسي الذي منحته دمشق لمحمود عباس لم يلغ موقفها المؤيد للانتفاضة. في سياق هذه السياسة المحافظة على رباط المسارين، ظهرت دوافع التمديد للرئيس لحود باعتباره الشخص الأكثر وثوقاً والأكثر قدرة على تنفيذ وحدة المسارين. ولكنه اليوم يواجه دعوة الى الاستقالة من قبل زعماء المعارضة الذين يطالبون بإنشاء علاقات متوازنة مع سورية لا تجعل من لبنان وطناً غير نهائي، وطناً متحرراً من التبعية كما يقول جنبلاط. الجديد في هذه المعركة التي تذكر اللبنانيين بمعركة اسقاط بشارة الخوري سنة 1952، ان سورية جعلت من وجودها العسكري في لبنان 28 سنة طرفاً اساسياً في الخلاف الناشب بين أنصارها والمعارضة. خصوصاً عندما ربط الرئيس الأسد عملية انسحاب قواته الى ما وراء الحدود بموعد استرجاع هضبة الجولان واحلال السلام في الشرق الاوسط. ولاقى هذا الموقف حملة اعتراض من زعماء المعارضة الذين أقلقهم ان تنظر دمشق الى شقيقتها كرهينة لا يمكن إطلاق سراحها قبل استرجاع الجولان. وانتقد النائب بطرس حرب مبدأ الترابط لأن اتفاق الطائف لم يلحظ هذا الأمر، بل نص على تحديد فترة زمنية للوجود العسكري السوري. تقول الصحف العربية ان الحرسين القديم والجديد في سورية، مصران على الاحتفاظ بسياسة الترابط مع لبنان، في حين يسعى الرئيس بشار الى بناء مظلة عربية تقيه الضربة العسكرية التي يلوح بها جورج بوش، اي الضربة التي جرى الاتفاق عليها مع دول الاتحاد الاوروبي بحجة رفض دمشق الانصياع للقرار 1566. وتنبئ حدة النشاط السياسي في القاهرة والرياض ان الدول العربية حريصة ألا يحدث لسورية ما حدث للعراق. ولقد استنتجت من الصورة القاتمة التي قدمتها كوندوليزا رايس حول خلاف سورية مع كل جاراتها، بأن أفق الحوار مع الولاياتالمتحدة قد سدته الاحداث الاخيرة في لبنان والعراق وفلسطين. وهذا يعني ان الأزمة اللبنانية مرشحة لأن تدخل في صراع المنطقة من جديد! * كاتب وصحافي لبناني.