بدء البيع في مدينة "بنان" بفرسان الرياض    تعاون سعودي – بريطاني لتعزيز الاقتصاد الرقمي    الهلال يحسم لقب دوري روشن بفوز عريض على الحزم    الأهلي يعيد الشباب للخسائر    "الأمن العام" يحذر من إعلانات الحج الوهمية    تحذيرات أوروبية.. مصر ترفض التنسيق مع إسرائيل لدخول المساعدات من رفح    الاحتجاجات تتصاعد في الجامعات الغربية.. الشرطة الأمريكية تعتقل 2400 طالب    اجتماع تحضيري للقمة العربية.. 12 بنداً في الملف الاقتصادي والاجتماعي    المناطق اللوجستية لسلاسل إمداد مواد البناء تدعم طلب تطور التقنيات    الرائد يتعادل إيجابياً مع الطائي في دوري روشن    الذهب يحقق مكاسب أسبوعية وسط آمال خفض أسعار الفائدة    معاملة مركبات النقل البري الخليجي كالوطنية و10 آلاف ريال للمخالفة    السعادة والمتعة.. بين الفضيلة واللذة    300 قتيل في فيضانات أفغانستان    دفعة جديدة ثالثة من الأسلحة الأمريكية لأوكرانيا    أمير الرياض يتفقد المجمعة ويدشّن مشروعات تنموية    ضبط 19710 مخالفين للإقامة والعمل وأمن الحدود    القيادة تعزي ملك مملكة البحرين    وصول المنتخب السعودي للعلوم إلى الولايات المتحدة للمشاركة في آيسف 2024    لولوة الفيصل ترعى حفل جائزة الشيخ محمد بن صالح بأربعين فائزاً وفائزةً في دورتها ال18    المدينة أول صديقة للتوحد بالشرق الأوسط    إسرائيل تجبر عشرات الآلاف على النزوح في رفح    طلاب وطالبات تعليم الطائف يؤدون غدًا اختبارات "نافس"    الأفكار المولدة للسلوك أصلها ديني    علاج جيني يعيد لطفلة صماء السمع    الهاجري يتوج «الرياض» بكأس كرة الطائرة من الجلوس    الجوف: القبض على شخص لترويجه أقراصاً خاضعة لتنظيم التداول الطبي    رابطة العالم الإسلامي تدشّن «مجلس علماء آسْيان»    محامي: في هذه الحالة يمكن لمطعم همبرقيني مقاضاة الشركة المصنعة للمايونيز المتسمم    «سدايا».. تقدم خدمات تقنية وممكنات رقمية ضمن مبادرة طريق مكة لعام 1445ه    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على الحزم وتحقيق لقب دوري روشن    دعم وتطوير العلاقات بين المملكة وغانا    إختتام مهرجان المنتجات الزراعية الثآلث في ضباء بعد 4 أيام    كريسبو مدرب العين واثق من الفوز بدوري أبطال آسيا رغم الخسارة باليابان    ارتفاع عدد قتلى الفيضانات في جنوب البرازيل إلى 136    الأمير سعود بن نهار يدشن أكبر مجمع "قرآني تعليمي نسائي "على مستوى المملكة    محافظ جدة يشرف أفراح الغامدي    تعليم عسير يُعرّف ب«نافس» تعليمياً ومحلياً.. و8 ميداليات ومركزان في الأولمبياد الوطني للتاريخ    أروقة الشعر بين علم الاجتماع والنفس    الأرض تشهد أقوى عاصفة مغناطسية منذ 21 سنة    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في غزة إلى 34971    المياه الوطنية تُكمل الاختبارات التشغيلية لمخطط درب الحرمين بجدة    "رئاسة الشوون الدينية" تستقبل طلائع الحجاج بالهدايا    جازان تسجّل أعلى كمية أمطار ب 55.1 ملم في سد بيش    99% من مسكنات الألم بها مواد مخدرة    التدريب التقني والمهني" ينظم معرض "مبتكرون 2024" بالشرقية غداً    وزارة الحج تدعو لاستكمال التطعيمات المخصصة لحجاج الداخل    تدشين خدمة الرعاية الطبية المنزلية بمدينة الجبيل الصناعية    خمسة نجوم مُرشحون للانضمام إلى رونالدو في النصر الصيف المقبل    الفياض: نستثمر في التكنولوجيا لمعالجة التحديات الصحية العالمية    "الصحة" توضح الوقت المسموح للجلوس أمام الشاشات    جمعية الرواد الشبابية تنظم دورة "فن التصوير" في جازان    رومارينهو: الخسارة بهذه النتيجة شيء ⁠محزن .. و⁠⁠سعيد بالفترة التي قضيتها في الاتحاد    مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج الدفعة السادسة لطلاب جامعة الأمير مقرن    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    تدشين مشروعات تنموية بالمجمعة    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    القيادة تعزي رئيس البرازيل إثر الفيضانات وما نتج عنها من وفيات وإصابات ومفقودين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاكمة صدام : الحقيقة والزيف !
نشر في الحياة يوم 10 - 08 - 2006

21 شهراً تقريباً أمضاها صدام حسين فى محبسه منذ القبض عليه في حفرته. تابع خلالها، بالرغم من عزله عما يحدث حوله، تدهور الأوضاع في العراق يوما بعد يوم. هذا التدهور، الذي يزداد، أفقد محاكمته الوهج الذي كان مفترضاً أن يميزها في حال إجرائها في ظروف أفضل يعيشها العراقيون.
لقد تراكمت أخطاء الإدارة الأميركية وممثليها في العراق. وجاءت ممارسات الحكومة العراقية الموقتة الحالية فزادت الاختلالات التي نجمت عن تلك الأخطاء. فأُضيف إلى غياب الأمن تراجع الأمل في بناء نظام ديموقراطي يعوض العراقيين عذابات مرحلة صدام.
ويثير ذلك سؤالاً كبيراً عن أثر محاكمة الرئيس العراقي المخلوع في مثل هذه الظروف على صورته المرسومة لدى قطاع يعتد به من الرأي العام العربي. إنها صورة حاكم مستبد لكنه تصدى بشجاعة وثبات لعدوان شنته الولايات المتحدة المكروهة عربياً حتى النخاع على بلد عربي مسلم في إطار ما يظن قطاع واسع في الرأي العام العربي أنه هجمة منظمة ضد العرب والمسلمين والإسلام.
ويريد صدام بالفعل أن يجعل محاكمته تكريساً لهذه الصورة وتكثيفاً لها، كما يتضح خلال الجلسة التي عقدت في الأول من تموز يوليو 2004 لإعلامه بأسباب احتجازه، وتم بث مقاطع منها تلفزيونياً. والأرجح أن تدهور الأوضاع في العراق سيكون عوناً له في هذا المسعى. غير أن الأمر قد لا يقتصر على ذلك، إذ يبدو أن لائحة التهم الموجهة ضده، بالطريقة التي أُعدت بها، تسهل عليه تحقيق بغيته لأنها تخلو من التهمة الأهم والأكبر وهي ارتكابه جريمة الخيانة العظمى لبلده ووطنه. وهذه هي التهمة الوحيدة التي يمكن أن تجعل محاكمته صدمة، أو بداية صدمة، للوعي الزائف الذي يدفع مثقفين وساسة، وليس فقط بعض عوام العرب للاعتقاد في أن حكام العرب"خونة"لأنهم لم ينصروا صدام حسين باعتباره الوطني والقومي الوحيد بينهم!
فالمحاكمة وفق لائحة التهم التي تم إعدادها تكرس هذا الزيف ولا تصححه. فالتهم الواردة فيها تختص كلها بممارسات ضد قوى وأطراف محددة يطالب كل منها بإدانته، فيما خلت من أي تهمة عامة تتعلق بالعراق وطناً وشعباً ودوراً وانتماء واقتصادا. نجد في هذه اللائحة تهماً في شأن ممارسات ضد سياسيين معارضين ورجال دين وضحايا المقابر الجماعية وأهل حلبجة وعشيرة البارزاني، وكويتيين، ثم اضيف إيرانيون أيضاً. فهو متهم، في الأساس، بالقتل... قتل عشرات بل مئات الآلاف، بالإضافة إلى جرائم الإبادة في جنوب العراق وشماله والمقابر الجماعية.
ولذلك فإن أول ما يعيب لائحة اتهام ضد حاكم سابق من نوع صدام حسين هو التعامل معه كما لو انه مجرد مجرم احترف الجريمة والقتل. فهي تبدو أقرب الى لائحة تهم في قضية جنائية لا قضية سياسية. ويعني ذلك أن ثمة مشكلة في ذهنية محاكميه الذين لا يعون أنه خان البلد الذي انفرد بحكمه لمدة ربع قرن بالتمام 1978 - 2003 . فالتهمة الأولى التي ينبغي أن توجه ضده هي الخيانة العظمى بالمعنى القانوني الدقيق والمحدد وليس فقط بالمعنى السياسي العام والواسع.
فثمة أساس قانوني كاف لاتهامه بالخيانة العظمى، لأنه اتخذ مواقف تضعه تحت وطأة هذه التهمة عندما وافق على وجود فرق تفتيش على أرض العراق تتمتع بصلاحيات مطلقة لدخول كل مكان من دون إذن أو حتى تنسيق مع سلطة الدولة التي فقدت، والحال هكذا، صفتها كسلطة ذات سيادة.
فقد أدت سياسات صدام حسين الى فرض عقوبات هائلة على العراق وإلزامه بقبول وجود مفتشين يتمتعون بسلطة تتجاوز السلطة الوطنية وعلى نحو لا سابق له في غير حالة الاحتلال العسكري.
فلم يكن أمام صدام خيار آخر، إن في العام 1991 أو في العام 2002، إلا التنحي أو الاستسلام. ولكنه قرر أن يضحي بالعراق كي يحافظ على حكمه. فضل أن يكون حاكماً خائناً حتى لا يترك السلطة لحاكم وطني. فقد قبل فتح أرض الوطن لمفتشين أجانب ووضع أسرار أمنه القومي بين أيديهم كاملة غير منقوصة. وهذا موقف يستحق توجيه تهمة الخيانة العظمى ضده. فأي مواطن بسيط يقع تحت طائلة هذه التهمة إذا قدم إلى أجنبي معلومة واحدة عن الأمن القومي لبلده. ولكن صدام وافق على تقديم كل المعلومات الخاصة بهذا الأمن بما فيها من أسرار عسكرية ومدنية وبشكل منتظم من أجل البقاء في السلطة. وهذه تهمة وثائقها موجودة وشهودها جاهزون حتى إذا لم يرغبوا في الشهادة ضده، لأن أي استجواب لأحدهم سيكون بمثابة شهادة دامغة. ومن بين أحدث وثائقها القرارات الرئاسية المتعلقة بموضوع التفتيش على أسلحة الدمار الشامل العراقية منذ تشرين الثاني نوفمبر 2002 وحتى آذار مارس 2003. ومن بين أهم الشهود بعض رجال صدام ومعاونيه الأحد عشر الذين قُدموا الى المحاكمة معه. فكان على بعضهم عبء تنفيذ القرارات الرئاسية التي جعلت أمن العراق القومي مستباحا.
وما دام الأمر يتعلق بمحاكمة قضائية، فالأساس القانوني للتهم هو ما ينبغي أن يعنينا. ومع ذلك فعندما يتعلق الأمر بمحاكمة رئيس دولة سابق، لا يمكن إغفال الأساس السياسي الذي يتوفر بدوره في تهمة الخيانة العظمى. فقد خان صدام حسين العراق والأمة كلها بالمعنى السياسي عندما دمر في مغامرات متوالية مقومات كبرى لنهضة كانت ممكنة.
ويدخل في هذا الإطار أيضا إثارة الضغائن والبغضاء بين فئات الشعب الطائفية والعرقية، إلى حد أنه ترك البلد في حال حرب أهلية كامنة.
وإذا كانت هذه ممارسات سياسية، فهي ليست منبتة الصلة بالقانون في العراق تحديدا، إذ يجوز الاستناد عليها قضائياً بموجب قانون محاكمة المتآمرين ومفسدي النظام الصادر في العام 1958، والذي لا يزال نافذاً. فهذا القانون يتيح توجيه تهمة الخيانة العظمى بسبب ممارسات سياسية مثلما حدث في محاكمة رجال العهد الملكي بعد ثورة 1958.
فهناك أساس قانوني قوي، إذاً، لمحاكمة صدام بتهمة الخيانة العظمى. ولكن المحكمة الجنائية الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية، التي تتولى محاكمته، لجأت إلى الأسهل وبددت فرصة نادرة لإثباب أن الحاكم الأكثر تشدداً وممانعة في خطابه ليس هو الأكثر وطنية في سلوكه بالضرورة. كانت هذه فرصة لوضع نمط سائد في التفكير العربي أمام حقيقة تنقضه. أما ذلك النمط فهو الذي يمجد الخطاب الحماسي المتشدد الأكثر حدة في هجاء أعداء الأمة والأوفر حديثاً عن الممانعة والصمود والتصدي. وأما هذه الحقيقة فهي أن الحاكم العربي الذي صال وجال في اتهام المعتدلين بالخيانة هو تحديدا الذي خان في وضح النهار وفتح أبواب العراق أمام مفتشين وافق على إعطائهم الحق في كشف معطيات وأسرار أمن العراق كاملة غير منقوصة.
فما أشد الحاجة الآن إلى وضع العقل العربي أمام هذه المفارقة، التي تنطوي على أهمية أكبر من المفارقة المتضمنة في إجراء محاكمة عادلة لحاكم كان هو مثال الظلم في عصره. إن محاكمة صدام على خيانته العظمى، في الوقت الذي مازال أنصاره يتغنون بوطنيته وقوميته، لا يقل أهمية عن توفير أقصى مستويات العدالة في محاكمته.
فلماذا لا تكون محاكمة صدام حسين، صدمة للوعي السياسي الزائف عبر اثبات أن الحاكم الأكثر تشدقا بالوطنية والقومية قد يكون هو الأشد خيانة لوطنه وأمته؟
كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.