لا أقول عن هشام شرابي سوى انه كان صديقي. علّمني في الجامعة الأميركية في بيروت، وفي جامعة جورجتاون، الا انه كان صديقاً قبل ان يكون استاذاً. الزملاء في"الحياة"وأصدقاء هشام الآخرون تحدثوا عن البروفسور المفكّر الذي أثر في جيل كامل من المثقفين العرب. أنا أتحدث عن هشام شرابي الانسان الصديق. عرفت هشام شرابي في الجامعة الأميركية في بيروت في أوائل السبعينات، وكان أتى اليها أستاذاً زائراً لسنة، ورأيت ان أدرس مادة في العلوم السياسية معه، فقد سبقته الى بيروت شهرته. وتوطدت الصداقة بسرعة، فكنتُ أراه خارج الجامعة أكثر مما أراه في داخلها. وسعيت منذ ذلك الحين الى تشجيعه على الكتابة في كل جريدة ترأست تحريرها، فكان يستجيب مرّة ويعتذر مرّات. كان اسمه بين اصدقائه"البشوش"لما عُرف من عبوسه، ولا أدري من أطلق هذه التسمية عليه، فربما كان الدكتور وليد الخالدي أو الدكتور كلوفيس مقصود. وكان عبوسه سياسياً، الا انه كما سيشهد معي كل صديق ظريف في مجالسه الخاصة، يستطيع ان"يستلم"اي انسان، ومع ذلك فهو لم يكن من النوع الألوف الودود، ويكفي ان يجد في الجلسة انساناً واحداً لا يعرفه لينغلق على نفسه وتصبح كل تعليقاته من نوع غير ملزم بالمرّة هو"هل هذا هو؟"أو"هل هو هكذا؟"Is that so وأذكر انه كان مرة في بيتي في لندن، ومعنا على العشاء ضيوف بينهم السفير السعودي في حينه الأخ فيصل الحجيلان، والصحافي المصري الراحل مصطفى أمين. ولم يشارك الدكتور شرابي في ذلك العشاء بأكثر من"هل هو هكذا؟"، الا انني عندما رأيته على غداء في اليوم التالي مع زملاء يعرفهم فتح جبهة عريضة على أبو عمار. هكذا عرفت هشام شرابي، صامتاً حذراً مع من لا يعرف، ومحدثاً هاذراً مع أصدقائه. وكنا مجموعة كبيرة من الاصدقاء في واشنطن، تجتمع صباح كل يوم أحد حول"فطور فول"في بيت واحد من المجموعة. وكانت الجلسات تستحق ان تسجّل وأن تجمع في كتاب، فقد تميزت بجدل سياسي حاد ومفتوح، مع لسعات متبادلة نافس فيها هشام شرابي أمثال كلوفيس مقصود والظرفاء المعروفين. كنا نتحدث براحة مع غياب العنصر النسائي، فقد كانت المشاركات قلة، وأحياناً يقتصر تمثيلهن على صاحبة البيت المشغولة بالضيافة. اذا كان لي صفة لهشام شرابي أزيدها على الثقافة الواسعة و"البشاشة"، فهي الحساسية المفرطة، وقد لاحظت ان هذه أيضاً احدى صفات الصديق الراحل ادوارد سعيد، فقد كان لا يتحمّل اي نقد، ويستطيع ان يعلّق على من ينتقده في شكل غير اكاديمي وغير منتظر من رجل له تلك الثقافة العالمية المعروفة. هشام شرابي تأثّر كثيراً عندما اتهم أبو عمار المفكرين الفلسطينيين في أميركا بأنهم عملاء لوكالة الاستخبارات المركزية. وفي حين ان ياسر عرفات اعتاد إلقاء الكلام جزافاً، وفي حين انه لم يقصد مفكراً بالذات، فقد جرحت التهمة هشام شرابي، وتركته في موقع المعارضة، على رغم استمرار اهتمامه بقضيته الوطنية الى حد الاغراق فيها. كنتُ مع هشام شرابي في واشنطن عندما انتشر خبر سقوط طائرة أبو عمار في الصحراء الليبية سنة 1992 . ونمنا تلك الليلة، ونحن نعتقد بأن قائد الثورة توفي في الحادث، الا اننا، مع فارق الوقت، لم نستيقظ في الصباح التالي حتى كنا نسمع أخبار العثور على أبو عمار سليماً، على رغم مقتل الطيارين الاثنين ومهندس الرحلة. واتصل بي هشام شرابي في بيتي في واشنطن، وسألني بعصبية: هل سمعت الأخبار؟ وقلت نعم، فطلب مني ان أقابله في جامعة جورجتاون. هناك وجدته بانتظاري فخرجنا نمشي في حرم الجامعة، والدنيا ربيع، وقد جلس طلاب وطالبات على الحشيش. وكان هشام"يحكش"غليونه وينفث الدخان، ثم يهمّ بالكلام ولا يتكلم. وأخيراً وبعد ان مشينا في الساحة الجميلة أمام مبنى هيلي ذهاباً وإياباً مرات عدة، التفت هشام اليّ وقال بالانكليزية:"تعرف يا جهاد، نحن الفلسطينيين قليلو الحظ جداً". أنا لم أطالب باستقالة أبو عمار إلا بعد سنوات، ولأسباب تختلف عن أسباب هشام شرابي. ولكن ما جمعنا هو الاشفاق على قائد الثورة، خصوصاً وهو محاصر في المقاطعة، فالموقف منه كان أولاً وأخيراً اجتهاد وطني لا أكثر ولا أقل. وقد أخفى هشام شرابي بنجاح وراء قناع الثقافة والاكاديمية جانباً عاطفياً رومانسياً سقط القناع عنه عندما زار يافا سنة 1993، وتجوّل فيها مع الروائي الاسرائىلي المبدع اموس اوز. ورأيته على التلفزيون مع اوز في شكل، ثم حدثته عن الموضوع بعد نحو شهر، وفوجئت بصوته يتهدج وهو يغالب الدموع في حديثه عن يافا التي تركها مراهقاً. ولعله أدرك في قرارة نفسه، على رغم كل حديث السلام في حينه انه لن يعود اليها أو تعود اليه. هكذا كان هشام شرابي، ثلاثون سنة من الصداقة المتصلة، وأعتقد بأنني أعرف عنه كل شيء ثم يفاجئني. في جورجتاون درست معه مادة سياسية، الا انه دعاني الى مكتبه يوماً وطلب مني ورقة طويلة عن مريم العذراء في المسيحية والإسلام. ولم أفهم سر الطلب، وحاولت جهدي على رغم عدم خبرتي في الموضوع، واستعنت بباحثين من شركتي الخاصة. وما أذكر من تلك الدراسة انني فوجئت باستنتاجها، ففي العهد الجديد من التوراة يكاد دور مريم العذراء ينتهي بولادة السيد المسيح. أما في القرآن الكريم، فلها دور أكبر، وسورة باسمها، وجبريل يحدثها، حتى ان فقهاء الأندلس، مثل ابن حزم، اعتبروها من الأنبياء. لماذا طلب هشام شرابي تلك الدراسة، مع خلفيته القومية السورية، ومع علمانيته المعروفة؟ لا أعرف جواباً، وكل ما عندي انه كان متعدد الأبعاد، ككل الأذكياء.