المقصود بالتراث العلمي العربي الرسائل والمؤلفات في موضوعات العلوم البحتة والتطبيقية في ما بين القرنين الثامن والثامن عشر للميلاد. ومعنى انه "عربي" انه مكتوب بالعربية، بغض النظر عن أصول أولئك الذين كتبوه أو ترجموه في نطاق الحضارة الإسلامية. وهناك نظرة سائدة مفادها ان الترجمات الأولى الى العربية عن الاغريقية في الدرجة الأولى، واللغات الهندية واللاتينية والسريانية، انما جرت في نطاق العلوم البحتة والتطبيقية هذه، بما في ذلك كتب الطب والبيطرة والكيمياء والسيمياء والفلاحة والفلك والرياضيات والجغرافيا، وذلك لفوائدها العملية الكثيرة، وقد تلت ذلك الترجمات في المنطق والفلسفة والاخلاق والسياسة والآداب السلطانية. ويقال ان خالد بن يزيد بن معاوية كان اول من بادر لذلك، مستعيناً بالعارفين باليونانية من الارثوذكس والسريان. وهناك روايات في المصادر عن "كُنّاشات" في الطب، وأخرى في الصيد وفن الحرب والفلك والحساب، اهتم بترجمتها عمر بن عبدالعزيز أو هشام بن عبدالملك، والمنصور العباسي. لكننا نعلم منذ عقود ان رسائل أرسطو المنحولة الى الاسكندر، بل ومجموعة ارسطو في المنطق، ترجمت في هذه الفترة ايضاً. وقام ديمتري غوتاس بدراسة الاصول والخلفيات الاجتماعية والثقافية والسياسية لاهتمام النخب بالترجمة والتواصل، فأوضح انها ما كانت من صناعة البلاط الخليفي، بل شكلت حاجة للنخب الثقافية والسياسية. فإلى جانب الحاجة الى مسائل الحساب والارقام في ثقافة مدن امبراطورية تسودها التجارة المتوسطة والبعيدة المدى، كانت هناك الحاجة لتطوير كثير من ادوات الحياة اليومية، اضافة الى تثبيت تصور عن العالم ضروري للدولة الكبرى، من خلال الفلك والجغرافيا. وكما كان التنجيم والمنجمون في بلاط الخلفاء جانب الصورة الآخر للفلك، كانت السيمياء إكسير الحياة، وتحويل المعادن الى ذهب، الجانب الآخر للصورة في مجال الكيمياء. ثم ان كتاب يوسف فان أس الضخم عن علم الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة أوضح بما لا يدع مجالاً لشك عن حاجة "المنظومات اللاهوتية" وفي وقت مبكر للمنطق والفيزياء صورة الكون وتركيبه ومنهج اكتشافه وقراءته. وليس من حاجة للتدليل على معنى الاهتمام بالطب وفروعه المختلفة، والمعالجات الدوائية وغير الدوائية. ومن هنا تأتي الترجمة لكل شيء في هذا المجال، لكن ايضاً التأليف المطوّر والمبدع او المهم في عمليات التقدم العربي الاسلامي، والانساني. وهنا يعرض من جديد الحديث عن العلاقة العربية الإسلامة بالمواريث العلمية للعالم الكلاسيكي والقديم، ودور العرب والمسلمين في الأصول العلمية والثقافية للعالم الحديث. والمعروف ان هذه الاشكالية المخطئة في الطرح والمعالجة سادت لأكثر من مئة عام في المجال الفلسفي والثقافي العام. فقد قام مستشرقون وعلماء ساميات استناداً الى دراسات تاريخية وانثروبولوجية وثقافية عامة، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بالربط بين اللغة والعقلية والتاريخ، في مجال تحديد "طبائع" الحضارات، والعلائق في ما بينها. وتأسيساً على ذلك الطرح إشكال ماهية الحضارة العربية الاسلامية، وإفادتها فلسفياً وثقافياً الدين والاخلاق وفن الحكم، ومعنى الحياة وعلمياً العلوم البحتة والتطبيقية من الحضارات الاخرى القديمة والمعاصرة. وقال البعض انطلاقاً من سؤال الاصالة ان العرب لم يكونوا مبدعين، وإنما كانوا مجرد نقلة لم يفهموا احياناً ما كانوا ينقلونه. وقال آخرون: حتى لو كانوا قادرين على الابداع، فإن الترجمات الكثيرة تدل على انهم لم يحاولوا ذلك في غالب الاحيان! وبقيت هذه الاشكالية التي يسودها الخطل مجال أخذ ورد، وبالذات بعد ان بدأ العرب والمسلمون يشاركون في التأليف والرأي. وصمدت في مجال الفلسفة والعلوم الانسانية، اكثر مما صمدت في مجال التأريخ للترجمة في مجالات العلوم البحتة والتطبيقية. ففي القرن العشرين بالذات، اتضح بما لا يدع مجالاً للشك هول حجم التأليف العربي الاسلامي في العلوم البحتة والتطبيقية، كما اتضح في النصف الثاني منه التأثير التكويني لتلك العلوم في الحضارة الحديثة. اذ كما جرى تجاهل الاسهام العربي الكبير في سائر العلوم، جرى ايضاً وفي القرن التاسع عشر بالذات تجاهل الدور العربي الاسلامي في بناء الحضارة الأوروبية، بالالتفات الى الاصول اليونانية المزعومة، في تجاوز كامل للحضارة الاسلامية حتى باعتبارها حاملة وناقلة ومنظمة. وكما قيل سابقاً في الحضارة الغربية يونان - رومان - أوروبيون محدثون، يقال الآن من جانب اليمين الديني والثقافي بالحضارة اليهودية - المسيحية في مواجهة اطروحة الديانات الابراهيمية التي من ضمنها الاسلام. الترجمة عمل حضاري كبير، وفي المجال الفلسفي والثقافي والسياسي بالذات، لأنها تعني قدرة على التواصل والتناص والتأويل على مديات زمنية وحضارية شاسعة من مثل ما بين نصوص أفلاطون وأرسطو وترجمات وشروح المسلمين عليها. ونعرف الآن ان "النقل" يتضمن فهماً معيناً، ويتم لهدف معين منذ البداية. ولهذا فإن سؤال الاصالة والاتباع لا يصح طرحه حتى في مجال الترجمة، فكيف بالوقوع في اسره في المدى الحضاري الشامل لثقافة عالمية معينة. والعلاقات بين الحضارات ليست كالعلاقات بين الافراد او الدول، حسبما يريد هنتينغتون ومشايعوه اقناعنا، يُعينهم في ذلك اصوليونا القوميون والاسلاميون المؤمنون بإلهية الحضارة ودائريتها وانطوائها على ذاتها. ليس المقصود من وراء التاريخ الموضوعي للحركة العلمية في المجال العربي الاسلامي الوسيط، اثبات الاصالة او الاقتدار على المعاصرة، بل المقصود قراءة هذا التاريخ الشاسع والمتعدد الابعاد بالوثائق والاسهامات لايضاح الصورة ونظمها في تاريخ الحضارة العربيبة الاسلامية، والتاريخ الانساني العام. والمعرفة محررة. فكما أفاد التاريخ العلمي ويفيد في التحرير من أوهام التفوق والاستتباع، يفيد من الجهة الاخرى في التحرير من اوهام التميز والتمايز، والانتماء الى حركة التقدم الانساني عبر العصور. واذا كان العلماء والدارسون للتاريخ الحضاري، كما الدارسون لتاريخنا العلمي في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وروسيا، قد قدموا خدمات جلى في النشر والتأليف والتحقيق والنظم في تاريخ العلم والعالم، فإن علماء العرب والمسلمين المقتدرين، نهضوا بمهام كبرى في العقود الاخيرة لجهات النشر والتحقيق، ولجهات العلوم وفلسفتها، ولجهة تغيير الصورة عن مواقع العلوم البحتة والتطبيقية في حضارتنا وتاريخنا وحياتنا الباقية في العالم ومعه. قرأت قبل اسبوعين كتابين عن العلاقات الحضارية بين الاسلام وأوروبا: الأول لريتشارد بوليت، استاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كولومبيا، يدافع فيه عن الأطروحة القائلة بحضارة إسلامية - مسيحية، أما الآخر واسمه الإسلام في أوروبا فهو لجاك غودي، استاذ الانثروبولوجيا في جامعة كيمبردج، وهو يتحدث فيه عن الحضور البشري والثقافي للمسلمين في أوروبا عبر العصور، مما لا يسوّغ اعتبارهم اليوم جاليات "غريبة" تقتضي الدمج او الاستبعاد.