ثمة امر مثير للاهتمام في ثورة الكومبيوتر والمعلوماتية، يتمثل في شدة ارتباطها بالمؤسسة العسكرية في الولاياتالمتحدة. ألم يبتدئ الكومبيوتر كمشروع عسكري سري؟ ألم تولد الانترنت في رحم البنتاغون كشبكة للاتصالات العسكرية؟ اذن، ليس من المبالغة القول ان رواية تاريخ التكنولوجيا الرقمية، تحكي الكثير عن المؤسسات العسكرية في العالم، وخصوصاً سعي الجيوش للاستفادة من التكنولوجيا الالكترونية المتطورة. حروب بسلاح الموسيقى! يبدو انه لا سلام قابلاً للتحقق على الأرض، ولو بعد قرون: تلك هي الخلاصة التي تبقى في ذهن المتابع لندوة "الحرب الإلكترونية الثانية"، التي عقدت أخيراً في الرياض، والتي صاحبها معرض عن الموضوع نفسه. والمعلوم ان حرب تحريرالكويت، التي سميت "عاصفة الصحراء" من الأميركيين، توصف على نطاق واسع باعتبارها "الحرب الالكترونية الاولى" في التاريخ. وعرضت شركات متخصصة أنظمة لأجهزة إلكترونية تمكن من تطوير الوسائل الدفاعية والهجومية في المؤسسات العسكرية. أتت تلك الشركات من أميركا وبريطانيا والسويد وفرنسا والمانيا والسعودية وسواها. ولا يملك المتجول في ارجاء المعرض، سوى التساؤل عن امكان وجود شركة هدفها "صناعة السلام"، حتى وإن كان سلاماً محدوداً ورمزياً. وفي ظل الحضور القوي للانظمة العسكرية المتقدمة، بدا وكأن القوى الكبرى في العالم، تتجاهل وضع مفردة "سلام" في أجندتها الصناعية. كأن لسان حال هذه الشركات ينطق بعبارات من نوع "لو لم تكن هناك حرب لاخترعناها" و"كلما انتهت حرب تزداد رغبتنا في أن تشعل حرباً أخرى". ذلك أيضاً ما يمكن قراءته على وجوه مديري شركات التكنولوجيا العسكرية ومستشاري التسويق فيها. وعلى هامش الندوة وخلال الاستراحة سمع ضباط وباحثون يتحدثون عن مستقبل تدار فيه الحروب بسلاح من الموسيقى! فبدلاً من إلقاء قنبلة أو إطلاق الرصاص، يمكن إرسال أنغام موسيقية، تدفع العدو إلى التقيؤ حتى الإغماء. حرب يعالج جرحاها مهندسون وليس أطباء، و يمكن إدارتها بسهولة من داخل غرف النوم أو من خلف موائد الطعام، وبحضور الأصدقاء وحتى الأطفال. لعل في هذه الاحاديث شيئاً يشبه مشاهدة فيلم أو المشاركة في لعبة "بلاستاشين". الكلام هنا على حرب نظيفة وناعمة، لا جثث فيها ولا دماء ولا دمار في المدن. وعلى ارض الواقع، يتعاظم خطر الحروب من كل نوع، خصوصاً انها لم تعد تندلع لأسباب دفاعية راهناً، بل صارت تبرر بغايات وقائية أو استباقية، فكأنها قتال على النيات وعلى ما تهجس به دولة مغلوب على أمرها، تجاه دولة أخرى مستبدة. عقدت تلك الندوة، التي نظمتها القوات المسلحة السعودية، بين 18و21 نيسان إبريل الجاري في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات، تحت رعاية وزير الدفاع والمفتش العام السعودي الأمير سلطان بن عبدالعزيزآل سعود. وافتتحها مساعد وزير الدفاع والمفتش العام للشؤون العسكرية الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز. وحملت عنوان "أهمية الحرب الإلكترونية في العمليات العسكرية واتجاهات تطورها". وقد توزعت أبحاث المحاضرين، الذين جاؤوا من السعودية والولاياتالمتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا والسويد وباكستان وجنوب أفريقيا، على ثلاثة محاور هي "أنشطة الحرب الالكترونية منذ حرب تحرير الكويت"، و"التغيرات المتوقعة في أساليب الحرب الالكترونية"، و"عمليات المعلومة". مناظير حرارية للمعارك الليلية وفي المعرض الذي أقيم على هامش الندوة، لفت حضور عدد من الشركات العالمية والسعودية مثل "الشركة الدولية لهندسة النظم"، و"شركة الإلكترونيات المتقدمة"، وشركة "بي ايه اي سيستمز" البريطانية، وشركة "تاليس" الفرنسية وشركة "اريكسون ساب" السويدية، وشركة "لوكهيد بارنت" الأميركية وغيرها. وشكَّل اجتماع كل هذه الشركات المتخصصة في مكان واحد، فرصة لتبادل المعلومات وعقد الاتفاقات، كما ذكر خالد الدامر ومايك قلوفر وسلطان السور، وهم من مديري أو مستشاري التسويق في الشركات. وفي لقاءات منفصلة مع "الحياة"، اوضحوا ايضاً ان المعرض يمثل مناسبة للتعرف الى زبائن جدد، وكذلك لعرض احدث ما تنتجه الصناعة العسكرية من أجهزة ومعدات متطورة. من الامثلة على ذلك، مناظير "رؤية حرارية ليلية ترصد المشاة والآليات والطائرات من مسافة بعيدة"، التي عرضتها شركة الإلكترونيات المتقدمة، معلنة انها صدرت نحو 300 من هذه المناظير الى الجيش الفرنسي، وانها تدرس "إمكان تسويقه إلى المؤسسات العسكرية السعودية". قمر عسكري سعودي لعل من البديهي القول ان الندوة اتخذت طابعاً عسكرياً صرفاً، وتميزت بكثافة الحضور من كبار الضباط، على اختلاف رتبهم. كما لم تشهد قاعات الندوات، على تعددها، جمهوراً يمكن وصفه بالمدني، مع أن بعض أبحاثها تضمنت معلومات تهم العسكريين والمدنيين. واعتبر الرائد عبدالمحسن الصرامي، المشرف على المركز الإعلامي للندوة، ان القوات المسلحة "كسبت بعداً تقنياً وتكنولوجياً لتستمر في سباق مع الزمن، لمواكبة السرعة الهائلة في التطور والتجدد"، من خلال استضافة هذه الندوة. ولفت الى أن برنامج "التوازن الاقتصادي" التابع لوزارة الدفاع والطيران، "مَكَّنَ القوات المسلحة من الأخذ بأسباب التطور والتحديث التقني والتكنولوجي". تناول أول بحث في الندوة موضوع "دور المعلومات الجغرافية في الحرب الألكترونية"، واعده العميد الركن عبدالعزيز العبيداء، قائد معهد الدراسات المساحية والجغرافية العسكري. وناقش ثلاثة مقترحات "لمستقبل أفضل في المعلومة الجغرافية الرقمية وأعمال الخرائط في المملكة لخدمة القطاعات العسكرية والأمنية والمدنية على حد سواء". تضمن الاقتراح الأول "تطوير مركز وطني للاستشعار عن بعد"، وشمل الاقتراح الثاني "إقامة قاعدة معلومات وطنية للمعلومات الجغرافية الرقمية". وتركز الثالث عن "إطلاق أو المشاركة في إطلاق قمر اصطناعي سعودي لأغراض أعمال الخرائط في المملكة". وأوضح العميد العبيداء في بحثه ان "حجم المملكة الطبيعي والسياسي وطبيعة أراضيها وكذلك تركيبتها السكانية واقتصادها، اضافة إلى التطور في البنية التحتية والخدمات العامة واعتماد قواتها المسلحة على أحدث التقنيات الدفاعية والهجومية والأمنية، من أهم الاسباب التي تبرر هذه الاقتراحات". وألقى المقدم الفرنسي أزارد لويس، محاضرة مهمة خلص فيها إلى أن "المعلومات في الحرب الإلكترونية تعتبر من المواضيع الحساسة عند الدول وخصوصاً المتقدمة منها، لا حتوائها على إمكانات وأوصاف معداتها وأنظمتها الصديقة والعدوة... وفي حال تعاون دولتين لغرض الدفاع المشترك، يجب تحديد متى وماذا يتم تبادله من معلومات، اضافة الى تحديث نظم تبادل المعلومات في صورة مستمرة". وذكر أن التحديث يتطلب "إنشاء خلية حرب إلكترونية متعددة الجنسيات ووضع آليات معينة". وتناول الدكتور سامي الحميدي، من السعودية، "القلب النابض لأنظمة الحرب الإلكترونية الحديثة"، مركزاً على التطور السريع خلال العقد الأخير في الحرب الإلكترونية، وما أدى إليه من "تنامي استخدام وتطويرالأنظمة الرقمية في الحرب الألكترونية". وتطرق إلى أهم عناصر هذه الأنظمة الرقمية، متوقفاً عند "ذاكرة التردد الراديوي الرقمية التي أصبحت القلب النابض لهذه الأنظمة"، كما ناقش تطبيقات هذه الذاكرة والتطورات المستقبلية. وخلص الدكتور خالد بياري، في محاضرته حول "الأهمية الاستراتيجية لتنمية القدرات الوطنية في مجال الحرب الالكترونية"، إلى أن مجال الالكترونيات يعد من أهم المجالات المؤثرة في "فاعلية الأجهزة والأنظمة العسكرية ودورها الحاسم في كسب المعارك". ولاحظ أن التطورات العالمية التي تلت أحداث 11 ايلول سبتمبر "تؤكد أهمية الاعتماد على المقدرات الوطنية في ما يتعلق بالحرب الإلكترونية وغيرها من المجالات الاستراتيجة". كما أكد أن القوات المسلحة تعتمد على المصادر الخارجية في شكل كبير، ما يبرز الحاجة إلى توسيع مقدرات الشركات السعودية لتعزيز استقلاليتها، وكذلك تقليص الحاجة الى شراء مختلف المنظومات وإسنادها".