تمارس أميركا تهجيةً عسكرية ميدانية في الفلوجة لدروس اسرائيلية طاعنةً في الخبرة والدربة والمِراس منذ مقتلة "دير ياسين" و"كفر قاسم" الى مذابح "مخيم جنين" وغزة مروراً بمجازر "صبرا وشاتيلا" و"جبشيت" و"قانا". المفردات نفسها تتردد، وأدوات القتل عينها تستخدم. أما الشعب الذي قاوم هناك وقضى شهيداً قسمٌ من أبنائه - ولا يزال - فكالشعب هنا يقاوم ويقضي قسم منه نَحْبَه، وآخر ينتظر "وما بدلوا تبديلا". الفلوجة بلدة صغيرة يقطنها بضع عشرات آلافٍ من الناس لا يزيدون عدداً عن قوات الاحتلال إلا قليلاً. تهجع الى نفسها والقيم التي عليها شبت. ومثل مخيم جنين، الذي دهمه جيش عرمرم من قوات الاحتلال الصهيوني قبل عامين - بالتمام - وقيل إن تعداده ثمانمئة قاتل مسلح، لم تكن الفلوجة المحاصرة بآلاف جنود الاحتلال الأميركي في حاجةٍ الى آلاف المقاتلين حتى تدافع. كان يكفيها بضع مئاتٍ من رجال المقاومة كي ترد كيْد العدوّ كما كان يكفي جنين أقل من أربعين مقاتلاً حتى تصنع الملحمة. لم يكن جيش الاحتلال الأميركي - وخدامه البريطانيون والاستراليون والإسبان والإيطاليون وسائر من كانوا مثلهم في جملة مرتزقته - ليقبل أن يعلن وقف إطلاق النار مع الجيش النظامي العراقي قبل عام من اليوم. كان يحسب نفسه الأقوى في المعركة، وأن تفوقه الكاسح على جيش ضعيف العدّة يعفيه من قبول هدية من هذا النوع تكون إهانةً له. وحتى حينما اضطرته العاصفة الرملية لتعليق عملياته الحربية - في عزِّ تقدم وحداته العسكرية البطيء على مشارف الناصرية - فعل ذلك منفرداً وبغير اتفاق. أما اليوم، فها هي الفلوجة تحمله - بما أبدته من بسالة واقتدار في مقاومة طائراته ودباباته على أن يوقّع معها اتفاقاً للهدنة ووقف اطلاق النار. وهذا - ثانياً - يكفيها شرفاً وفخاراً واعتزاراً. فلقد كَبَا العدوان على مشارفها وامتنع كما كَبَا وامتنع في لبنان العام 1996 حين قادت "عناقيد الغضب" الصهيونية دولة "اسرائيل" الى البصم الرمزي صاغرةً على "تفاهم نيسان". لقد مر عام من الزمن على احتلال الأميركيين ومرتزقتهم من جيوش "الحلفاء" للعراق وعاصمته، ومر عام - إلا أسبوعين - على إعلان جورج بوش عن انتهاء الحرب: منتشياً على ظهر بارجة حربية. وبعد هذا العام، ها هو جيش بوش ورامسفيلد ووولفوفيتز يحاصر بلدةً صغيرةً بجوار بغداد - اسمها الفلوجة - لا يتجاوز عدد سكانها سكان حي "هارلم" الأميركي، ويعجز عن اقتحامها والسيطرة عليها، ويضطر - أمام مقاومة أهلها العظام - لاستعمال طائرات الF16 والF18 والأباتشي والقصف المدفعي والصاروخي! هل تحقق الاحتلال حقاً؟ ما همّ الجواب عن السؤال: بالسلب أو بالايجاب" المهم ان فعل المقاومة أتى ثماره وبات قادراً على ارهاق احتلالٍ خالَ ان العراق كعكة سياسية جاهزة، وأن دخوله نزهةٌ سياسية بغير أكلاف! وهذا - ثالثاً - يكفي الفلوجة شرفاً وفخاراً واعتزازاً. ولقد قيل عن الفلوجة - منذ احتلت بغداد - انها معقل المقاومة ومهدها. وكان ذلك صحيحاً بكل المعاني على ما تشهد بذلك وقائع الصدام بين الاحتلال وشعب العراق. لكن الفلوجة المقيمة بجوار بغداد، والمتحولة الى خندقٍ دفاعيٍ من فنادق عاصمة الرشيد، لم تلبث أن فاضت عن حدود جغرافيتها الصغيرة، فصارت حالةً وطنية عامةً وعارمة. لقد استلهمت بعقوبة وديالى والموصل وتكريت وسامراء وأعظمية بغداد دروسها طوال الشهور العشرة الماضية، فدانت بما تدين به تلك الفلوجة. ثم لم تنتظر كاظمية بغداد ومدينة الثورة فيها = مدينة الصدر، والكوفة والنجف وكربلاء والكوت والعمارة والناصرية، حتى التحقت بموكب الفلوجة وجوارها المقاوم. قيل انها تأخرت كثيراً في الالتحاق بالفلوجة وخيارها الوطني. لكن ذلك ليس مما به تؤاخذ مدائن آل البيت الناهلة من مناهل الشهادة وعزة النفس. إذ سرعان ما اكتشفت هذه أصالة خيار الفلوجة وسيرورتها مفتاحاً للعمل الوطني كي تنضم الى السيرورة الكفاحية التي أطلقتها. وكان ذلك - رابعاً - مما يكفي الفلوجة كي تكون عنوان شرفٍ واعتزازٍ للعراقيين جميعاً من أي مشرب ومنبت. و"أخيراً"، كانت الفلوجة عنواناً عريضاً للوحدة الوطنية منذ بدايات صدامها الوطني مع الغزاة الكولونيالية وقواها. قاومت - ببسالةِ وإباء - باسم العراقيين جميعاً ودفاعاً عن وطن، ولم تقاوم باسم فريق اجتماعي أو ديني منه حصراً أو دفاعاً عن حوزة منطقة بعينها. ولم يلبث سائر العراق وأهله أن اكتشف هذه الحقيقة: حقيقة أصالة الفلوجة الوطنية، فانضم الى خيارها الوطني بغير تردد. وهكذا هاجمت الفلوجة سياسة التقسيم الطائفي الكولونيالية وردت عليها الرد المبرح متقدمة نحو استيلاد وحدةٍ وطنية - في الميدان - لا أشباه لها ولا نظائر منذ سقوط البلد. وهذا - خامساً - ما يعلق قلادة الشرف الوطني على أعناق أهل الفلوجة الكبار. ستنضم الفلوجة، الى تاريخ الأمكنة العصية على استباحة العدو لها أسوةً بستالينغراد الحرب العالمية الثانية، وبيروت العام 1982، وجنين العام 2002. وستزيد علواً على أي مكانٍ في العالم امتنع على العدو بكونها لم تستسلم أو تساوم، وبأنها واجهت أضخم جيش في تاريخ البشرية، وبأن عدوها المحاصر لها وقَّع معها اتفاقاً لم تتنازل فيه عن شرفها الوطني ولم يستطع فيه ذلك العدو أن يفرض عليها كامل شروطه. الفلوجة شرفنا بعد إذ لم يبق لدينا من شرفٍ لم يسلم من الأذى، لم يُرَقْ على جوانبه الدم: على قول أبي الطيب المتنبي. والفلوجة سترةٌ تغطي عار عورةٍ أبيحت واستُبيحت بغير حدود في زمن الجبناء - والعملاء وأقلام السوء من المرتزقة. لكن الفلوجة نبهتنا الى أن بقيةً من روح ما زالت فينا على موتٍ نشهده بالتقسيط، والى أن نزراً من القوة فينا ما زال يملك أن يدفعنا الى ابداء بعض الممانعة دفاعاً عن بقاءٍ كريم ضدّ من يفنينا بالسلاح أو بالترويع والترهيب. الفلوجة أصغر ما في مدائننا وأكبرُ ما في عزائمنا. وذلك ما يكفيها كي تستوطن التاريخ. * أستاذ الفلسفة - جامعة الحسن الثاني - الدار البيضاء.