أمير تبوك يستقبل رئيس جامعة فهد بن سلطان    1.8% نسبة الإعاقة بين سكان المملكة    مركز"كفاء الطاقة" يعقد "اسكو السعودية 2024    "الأرصاد": مولدات أرضية للاستمطار بدل الطائرات    "الموارد" تطلق جائزة المسؤولية الاجتماعية    الشلهوب: مبادرة "طريق مكة" تعنى بإنهاء إجراءات الحجاج إلكترونيا    اتحاد كرة القدم يحدد روزنامة بطولاته    وزير "البيئة" يعقد اجتماعات ثنائية على هامش المنتدى العالمي العاشر للمياه في إندونيسيا    نائب وزير الخارجية يشارك في اجتماع رفيع المستوى بين مركز الملك الفيصل للبحوث والدراسات الإسلامية وتحالف الحضارات للأمم المتحدة ومركز نظامي جانجوي الدولي    غرفة أبها تدشن معرض الصناعة في عسير    يايسله يوضح حقيقة رحيله عن الأهلي    ملتقى النص المعاصر: احتفالية شعرية وفنية تُضيء سماء نابل    الجمعية العليمة السعودية للصحة العامة ساف تشارك في مؤتمر يوم الابحاث    علامة HONOR تعلن عن رعايتها لمسابقة إجادة اللغة الصينية بعنوان "جسر اللغة الصينية" في المملكة العربية السعودية    سفير إندونيسيا لدى المملكة: "مبادرة طريق مكة" نموذج من عناية المملكة بضيوف الرحمن    وزير الصحة الماليزي: نراقب عن كثب وضع جائحة كورونا في سنغافورة    مستشفى دله النخيل ينهي معاناة عشريني يعاني من خلع متكرر للكتف وكسر معقد في المفصل الأخرمي الترقوي    الديوان الملكي: تقرر أن يجري خادم الحرمين فحوصات طبية في العيادات الملكية في قصر السلام بجدة    رياح مثيرة للأتربة والغبار على أجزاء من الشرقية والرياض    بيريرا: التعاون فريق منظم ويملك لاعبين لديهم جودة    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    الأوكراني أوزيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع في الرياض    شهداء ومصابون في قصف لقوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    صقور السلة الزرقاء يتوجون بالذهب    مقتل 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    السفارة السعودية في تشيلي تنظم حلقات نقاش بعنوان "تمكين المرأة السعودية في ظل رؤية المملكة 2030"    لقب الدوري الإنجليزي بين أفضلية السيتي وحلم أرسنال    خادم الحرمين يأمر بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    الماء (2)    جدول الضرب    «التعليم»: حسم 15 درجة من «المتحرشين» و«المبتزين» وإحالتهم للجهات الأمنية    قرى «حجن» تعيش العزلة وتعاني ضعف الخدمات    طبخ ومسرح    اطلع على مشاريع التطوير لراحة الحجاج.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يتفقد المشاعر المقدسة    «تيك توك» تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    330 شاحنة إغاثية إلى اليمن وبيوت متنقلة للاجئين السوريين    المقبل رفع الشكر للقيادة.. المملكة رئيساً للمجلس التنفيذي ل "الألكسو"    27 جائزة للمنتخب السعودي للعلوم والهندسة في آيسف    انطلاق المؤتمر الأول للتميز في التمريض الثلاثاء    سمو ولي العهد يستقبل الأمراء والمواطنين    اشتباك بالأيدي يُفشل انتخاب رئيس البرلمان العراقي    زيارات الخير    عبر التكنولوجيا المعززة بالذكاء الاصطناعي.. نقل إجراءات مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    للسنة الثانية.. "مبادرة طريق مكة" في مطار إسطنبول الدولي تواصل تقديم الخدمات بتقنيات حديثة    محتالة تحصل على إعانات بآلاف الدولارات    البرق يضيء سماء الباحة ويرسم لوحات بديعة    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    مختصون ينصحون الحجاج.. الكمامة حماية من الأمراض وحفاظ على الصحة    الهلال يحبط النصر..    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    قائد فذٌ و وطن عظيم    بتوجيه الملك.. ولي العهد يزور «الشرقية».. قوة وتلاحم وحرص على التطوير والتنمية    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علاقة ثقافية ام تواطؤ مضمر بين صاحب "الاستشراق" وكاتب "في قلب الظلام". فضاء جوزف كونراد الخيالي ... ارض ثابتة لادوارد سعيد ووطن رمزي للعالم
نشر في الحياة يوم 24 - 10 - 2004


لا تدعوا هذه الجملة تخيفكم، فهي ليست سوى استشهاد:
"أنتم وأفكاركم عن الصدق والشجاعة والحقيقة، انكم خارج المكان في هذا العصر الذي تطغى عليه الاهتمامات المادية. ماذا يجلب لنا كلّ هذا؟ ما هي الفائدة؟... في أنبل القضايا، يتدبّر الرجال أمرهم في ادخال جزء من صغارتهم فيها: وأحياناً، حين أفكّر فيكم بهدوء، تبدون لي مأسويين بشجاعتكم وآمالكم ومعتقداتكم. كل قضّية ملوّثة... انتم الذين تدعون رغبتكم في المستحيل تستغلّكم... وأحسدكم. ما تريدون اصلاحه ليس المؤسسات بل الطبيعة الانسانية".
لا تتوجّه هذه الكلمات الى ادوارد سعيد، بل كُتبت بريشة جوزف كونراد الذي كان يقارب الثلاثين عندما بعث بهذه الرسالة الى صديقه روبرت كانينغهام غراهام. وكان سعيد يبلغ الثلاثين أيضاً عندما استعاد هذه الكلمات في الصفحات الاولى من كتابه الاول: "جوزف كونراد ورواية السيرة الذاتية". ما دفعني الى الاستشهاد بهذه الكلمات في المقدّمة ليس لأنّها تعبّر خير تعبير عن الايمان القليل الذي كان لكونراد في الطبيعة الانسانية والمثالية فحسب، بل لأنها تعطي صورة عن حجم التحدّي الذي اندفع فيه سعيد عبر تحويل هذا العبقري أول رفيق لدربه. وليس لأنّ واحدهما كان أقلّ تشاؤماً من الآخر - اذ لم يكن لسعيد اي أوهام ايضاً - بل لان كونراد كان لا يؤمن الا في الانبعاث المحتمل للاخلاق الفردية بينما كان سعيد يستثمر الاخلاق الفردية لواجب التزام سياسي. سنعود الى هذا الاختلاف لانني اعتقد بأنّ جزءاً منه يعزى الى الفضاءات المتناقضة التي تميّزت بها طفولتاهما" أفكّر في شكل خاص بالعواقب المهلكة للاول كونراد التي أفضت اليها التزامات أبيه السياسية دفعت بالعائلة للهجرة الى سيبيريا. وعلى العكس، أفكّر في الحاجة الى الالتزام الاصلاحي الذي عنى لكاتب الاستشراق الطابع اللاسياسي لتربيته كتب "سنوات تربيتي اللاسياسية" في "خارج المكان" . لكن الشيء الاكيد كان الوعي الاخلاقي الذي كان معطى اساسياً لفكريهما وعمليهما. انهما منحا هذا الوعي الاخلاقي مهمّة هدم عبثية وفساد عالم من دون اله، ومنح الحياة معنى لا يمكن ان يكون الا من خلالها. ان قوة الاستقطاب التي كان عالم كونراد يمارسها على ادوارد سعيد تمرّ بلا ريب في مسؤولية الرجل المتوافقة مع قوة تقدير قصوى للفكر والطبع اللذين يخضعان دوماً لتجارب الوقوع، والفساد وخيانة المثال.
دقّة الكاتب وظلمة العالم: تنطبق هذه الصيغة على الروائي البولوني والمفكّر الفلسطيني على السواء. ها هما على الموجة ذاتها أمام الحاجة عينها: الكتابة والتفكير بطريقة فاعلة أكثر من الحقيقة لانّ الحقيقة غير فاعلة. كتب كونراد لغارنيت "كل حقيقة تحتاج الى ارادة لاحيائها". كرّر سعيد هذه الجملة مرّتين في الكتاب نفسه وفي كتاب آخر، ما يعني انه يتمسك بهذا الواقع. أضف الى جملة النقاط المشتركة هذه، السخرية، حسّ التفصيل الحاد، الاقتصاد والعصبية في الكتابة، الغياب الكثيف للعواطف. كم هو كثير هذا التجانس العميق، وكم هي كثيرة اشارات الاعتراف بالجميل التي دفعت سعيد الى وضع كونراد في قلب كتابه، جاعلاً منه الربّان المثالي لعالم الافكار نحو التمثيل والعكس بالعكس. اوّد الاشارة الى أنّ الربّان المثالي بالنسبة الى سعيد هو معارض أيضاً، آخر يكتنف الفرد ويفكر في شكل مغاير، نوع من الازدواج المتعارض.
بالنسبة الى الوضع المشترك بين كونراد وسعيد والذي يتمثّل - كما كان يقول هذا الاخير - في "خلق علاقة ذات معنى بين قطبين متناقضين"، كيف يمكن اغفال الفارق الكبير بين البلد الام والبلد المختار او بلد المنفى بالنسبة الى المشرد؟ ولكن أيضاً، في حالتهما، بين الملاحة والكتابة للاول والاعمال الجامعية والالتزامات السياسية للآخر. وكانت الرواية الكونرادية دوماً - التي ترتكز الى النسخ المتناقضة لواقع واحد عبر تكاثر القصص - تقدّم لسعيد حريّة وهامشاً من المناورة كان يحتاج اليهما للانتشار والاستطراد من دون أن يضيع. باختصار، اصبح الفضاء الخيالي للاول الارض الثابتة للثاني ووطناً رمزياً للعالم أي كوستاغوانا الكوستاغوانا هو البلد الذي خلقه كونراد في نوسترومو. لهذا السبب، تتجلّى بالنسبة الي محدودية بل نقصان المقاربة الادبية او السياسية البحت للموقع الذي شغله كونراد في اعمال ادوارد سعيد. فلا شيء يجعلنا نفترض في كتاباته انه كان يولي لكونراد اعجاباً يفوق اعجابه بفلوبير، سويفت، ديكنز وجويس او غيرهم. كلا، ان فرادة علاقته بكاتب "لورد جيم" و"نوسترومو"، كما رأينا، تمرّ بشبكة من الصلات والعقد البالغة، التي قد تتماثل بالعقد التي كان يقيمها كونراد مع شخصياته. بالتالي، حين يذُكر مثلاً الاسقاط المزدوج لكونراد في شخصيات دوكو ونوسترومو، نحار، بمقدار ان المضمون البيوغرافي لكتابات سعيد يتيح لنا الاعتقاد بانّ هذا التماثل ينطبق ايضاً عليه. مهما يكن من أمر، ليس الابطال الكونراديون أقل تقمّصاً او أقرب اليه من أي شخصية من طفولته، التي تحرّك صورتها آخر أكبر مؤلفاته: "خارج المكان". في ما يخصّ هذا الكتاب، أودّ أن أعقّب على ما قاله تزفيتان تودوروف، وان أتحدّث قليلاً عن الكتابة وبنيتها، أي الاسلوب المتأخّر لسعيد. اذا كنّا نجمع على واقع أنّ فكره النقدي هو فكر دائري، حيث الحركة تتمثّل في اعادة اطلاق الكلمة بدلاً من ايصالها، أستطيع القول ان في "خارج المكان" حيث الفرد والمادة ليسا سوى وجه امام الفراغ، تمر الحركة في تجربة معزولة عنه. بالتالي، وبينما يجند اللولب الزينة والتجريد، الرتابة والجمود، التفصيل الدقيق، الحدث التاريخي، الحبّ والكراهية، الازدواجية، الافراط، النقص، لا نعود نعرف ما اذا كانت ذاكرته هي التي تلعب وتفسّر القطعة، او كان سعيد هو الذي يلعب بها نظير البيانو، وهو الذي ينفذها ويرتجلها، الى درجة تجعلنا نفكر - عبر اتباع حركته - في هذه الوحدة الكاملة التي يذكرها عندما يتحدث عن غلين غولد. "هذه الوحدة بين الاصابع، البيانو والموسيقى، الواحدة تتسع داخل الآخر، ويصبح الثلاثة غير واضحين من البداية الى النهاية".
ومما لا شك فيه ان ليس مصادفة ان تذكر بداية كتابه بآخر كتاباته، ذلك ان تقليص الزمان هذا في الزمان، هذه الحركة من اللقاء ثم الانفصال الباطل، هي حركته. وكتب: "يرغب الفكر ان يرى، في المكان والزمان، نقطة تدلّ على بداية كل شيء - اذا لم يكن لكل شيء، فاقله لسلسلة من الاشياء المركزية - ولكن مثل اوديب، قد يكتشف الفكر أن هذه النقطة هي أيضاً حيث تنتهي الاشياء". في الواقع، جعل كاتب "البدايات" من بدايته الخاصة - كتابه عن كونراد - المثال المنذر لنظريته حول الخلق بالتكرار، نظرية طوّرها بقوّة مطردة، من كتاب الى آخر، في العقود التي تلت. "كتب: "كلّ بداية هي انتهاك... اعادة بناء، تكرار، ترميم، اعادة انتشار". هذا بالفعل ما حدث معه. دخل كونراد في قصّته ليبقى، او أكثر تحديداً، ليحتل من جديد مكانة متجدّدة وفريدة دوماً. هل علينا الاستخلاص أن سعيد كان يفكّر في ما سيحدث له، او أنه حدث له ما كان يفكّر به؟ من البديهي أن نقول الاثنين معاً.
ولكن ماذا عن رؤيته النقدية العميقة لعلاقات جوزف كونراد مع الامبراطورية الكولونيالية والشعوب الاصلية؟ لقد كتب سعيد هذا الفصل الذي هو أيضاً احد الجوانب المعروفة لكونراد - سعيد، بطريقة رائعة خصوصاً في "الثقافة والامبريالية" الى درجة أصبح من المستحيل أن نعيد كل الغموض في هذا الوقت القصير. ولكن لنحاول أن نرى لماذا لم يألُ هذا النقد الراديكالي - وارتفاع اللهجة الذي صاحبه - الى الانشقاق بين سعيد وكونراد بل حركة اعادة مختصرة وتسريع حيث - دليل مطلق للحرية والذكاء - النقد والاعجاب لم يخشَ بعضهما بعضاً.
ماذا يقول سعيد في الجوهر؟ يقول ان جوزف كونراد كان كاتباً امبريالياً ومناهضاً للامبريالية على السواء، كان تارة تقدّمياً عندما يتعلق الامر "باستعادة متشائمة وشجاعة للفساد الاعمى والحاسمة للسيطرة الكولونيالية. وطوراً رجعياً عندما يتعلُّق الامر بالاعتراف بأن افريقيا واميركا الجنوبية قد يتمتّعان بتاريخ او ثقافة مستقلّة". في الواقع، سواء تعلق الامر بأفريقيا في "قلب الظلام" وبحور آسيا الجنوبية في "لورد جيم" او اميركا اللاتينية في "نوسترومو"، ظهر كونراد واضحاً في ما يخص مساوئ النظام الكولونيالي بقدر شكّه البارد في قدرة الشعوب الاصلية في تسلم زمام امورها. وردت جملة لمارلو في "قلب الظلام" تلخّص تقريباً كل هذا وذكرها سعيد باستمرار الا وهي: "ان غزو الارض الذي يتمثّل اساساً في سلبها من يد هؤلاء ذوي لون السحنة المختلف عن بشرتنا والانف الافطس قليلاً، ليست جميلة ان القينا نظرة عن كثب. يجب ان يكون هناك فكرة رئيسة" وليس حجّة عاطفية، لكن فكرة أو ايماناً مترفعاً عن هذه الفكرة - شيء يمكننا أن نسجد امامه، ونقدم التضحيات...". نعم، "لكن هذه الفكرة، أو هذا الايمان المنزّه عن الفكرة: أي مستقبل لهما في فكر مارلو؟ لا شيء. لانه ما ان وضعها حتى طافت عليها رائحة الجثث. ليست هي اليوطوبيا التي تقود كونردا، بل هو الذي يقودها ويجرها الى خسارته، خصوصاً في "قلب الظلام" الذي ينتهي بالنهاية المأسوية لكورتز، المغامر الاسطوري من ام نصف انكليزية واب نصف فرنسي، حيث كونراد يذكر الحاجة للتحديد عبر مارلو أن "كل اوروبا ساهمت في صنعه". هو، الذي رحل لغزو بلاد العاج، والغابة على السواء رأى - مثل القارئ - غرق مبادئه المثالية وروحه وراح ينازع مطلقاً هذا الصراخ المشهور الذي ليس سوى الرمق الاخير: "الرعب، الرعب". من البديهي أن ذلك لا يغيّر شيئاً في الضلال السياسي لكونراد، كما يحلّله سعيد ويعيده، لكنّه يقودنا الى عدم الاستهانة بمزيج الرؤية الكونرادية التي يشير اليها كاتب "الثقافة والامبريالية" عندما يكتب: "ما يجعل كونراد كاتباً كولونيالياً مختلفاً ايما اختلاف عن معاصريه، انه لاسباب تعود في شكل جزئي الى الكولونيالية التي جعلت منه المنفي البولوني، الموظف في النظام الامبريالي، كان واعياً لما يفعله". أما في ما يخص الذين يتوجه اليهم سرد مارلو في روايته، يحدّد سعيد: "اذا كانت غالبية هذه الجماعة من العالم تنتمي الى عالم الاعمال، فذلك لان جوزف كونراد حرص على تعظيم واقع أنّه خلال العام 1890، تحوّلت اعمال الامبراطورية - مؤسسة مغامرة قبل كل شيء وفردية في الغالب - امبراطورية الاعمال". أودّ اضافة نقطة أخيرة انطلاقاً من رسالة كونراد لغارنيت التي تعود الى العام 1907: "تتذكّرون دوماً أنني من أصل سلافي - تلك هي فكرتكم الثابتة عني - ولكن يبدو انكم نسيتم انني بولوني ايضاً. نسيتم اننا اعتدنا التقاتل من دون اوهام. انتم وحدكم أيها الانكليز، تذهبون الى المعركة للفوز بها. اما نحن، فكم مرّة كنا في ساحة القتال خلال القرن الاخير، وكانت النتيجة الخسارة دوماً". "انتم ايها الانكليز"... بريشة كونراد، ليست هذه الجملة سوى اعتراف كبير، جملة تغطّي مدى الخيبة ووحدة البولوني المعتدّة الذي لا نخبره بأي قصة من دون التشكيك بشعور الانتماء لديه، وربّما الوفاء الذي توحيه له الامبراطورية البريطانية التي منحته مهنة، موطناً بديلاً وفوق كل شيء لغة. "انها اللغة الانكليزية التي تبنّتني"، اجاب هؤلاء الذين سألوه لماذا لم يختر الفرنسية التي يجيدها منذ زمن. ها نحن نعود الى طفولته وتاريخه العائلي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى - التبنّي - حين نذكّر انه فقد والدته في الثامنة وأباه بعد ثلاث سنوات. اصبح يتيماً في الحادية عشرة ودخل المراهقة المسكونة بذكرى الغرق: التزامات والده الوطنية المناهضة للروس، المنفى السياسي الذي نتج عنها، مناخ فولوغدا الجليدي، مرض السل الذي اصاب امه... كم هي بعيدة طفولته الى درجة النقيض عن طفولة ادوارد سعيد التي يصفها لنا في "خارج المكان" بحس فكاهي ويصف اجواء المنزل والطابع الهجين لثقافته. وكتب: "مزيج غريب، العادات الفلسطينية قبل الحرب، اعادات مقتبسة عن اميركا ومكتسبة من الكتب والمجلات او من العقد الذي عاش فيه والدي، تأثيرات المبشّرين، المعرفة المدرسية غير الكاملة والغريبة في الوقت عينه، المواقف الكولونيالية البريطانية التي كانت ترتكز الى طبقة اللوردات كما ارتكازها الى عامة الشعب التي كانت تحكمها، وأخيراً، اسلوب الحياة الذي كان سائداً في مصر والذي حاول اهلي جهدهم لتكييفه مع وضعهم الخاص".
تساعدنا هذه الرحلة الى الطفولة، في معرفة ان بالنسبة الى البولوني، كان الهرب، المحيط، الهوية الجديدة، تجربة النسيان، الاجابة الوحيدة المحتملة. أما بالنسبة الى الفلسطيني، فالعكس كان الصحيح: كانت الحاجة الى استعادة، من اميركا، هذا العالم الذي كان عالمه، والذي لم يحصل الا على نصفه. كانت اذاً الذاكرة، الترميم، النقد الطارئ، فلسطين والمعركة...
من هنا، اذا أقرينا ان الثنائي ليس نسخة بل آخر ضمن الفرد، ارى في قصة كونراد: "الرفيق السري" الطريق الاقصر والفضل لترويض معنى مكانة كونراد في كتاب سعيد ومساره. في هذه القصة، يسمح جوزف كونراد او القبطان تحديداً، لرجل هارب بالصعود الى متن القارب. هذا الرجل الذي يدعى ليغات هو ايضاً بحّار قام "بخطأ جسيم" وسرعان ما اعترف. قال قتلت رجلاً. وبينما كان يروي تفاصيل جريمته، يكتشف القبطان ان البحّار ليس سوى الثنائي الخاص به. فيخفيه في حجرته، خفية عن طاقم العمل، شاعراً كما كتب كونراد "بأنّه غريب عن المركب مثله تماماً". هذا المشهد الذي يظهر "الرجل المزدوج" الذي تكلّم عنه سعيد في ما يخصّ كونراد، ينتهي بتحرير الثنائي المخبأ من القبطان او الكاتب، لنقل ما اردنا. ماذا لو استمتعنا بتغيير الادوار، او مقايضة رجل بآخر؟ ماذا لو كان جوزف كونراد بدوره ليغات ادوارد سعيد، هذا المشرّد المزدوج الذي كانت جريمته انه اعتقد بأن رجال الامبراطورية البيض أعلى مقاماً من الشعوب الاصلية؟ وماذا لو في هذا السيناريو الخيالي كرّر صاحب "الاستشراق" سيناريو طفولته التي جعلته يقول بالانكليزية "أنت" بدلاً من "أنا" حين يتكلّم مع امه عنه وذلك في هذا السيناريو الخيالي؟ قد نوشك على اعطاء قيمة متعددة المعاني لاولية ابيه: تصبح ال"واو" التي توضع بين ادوارد وسعيد ال"انت" المزدوجة، ثنائي "ادوارد الاسم الانكليزي الذي هو بلا معنى والذي ألصق بقوة الى عائلة سعيد العربية حتماً". اذاً، عبر "الانا" السرية التي صعدت الى متن القارب، الم يقدر ادوارد و/ أو سعيد ان يقول ما قاله كونراد عن "أناه": "كان ذلك كأنني ضبطت في نصف الليل بانعكاسي أنا الآتي من اعماق المرآة الواسعة والمظلمة".
واذا كان لا بد من جملة اخيرة لتحريرهما بعضهما من بعض واعادة ربط اختلافهما، اقول ان جوزف كونراد - في القطب الاقصى المناقض لكولونياليي عصرنا- لم يكن رسول خير ولا قاصد شرّ، بل فناناً مناصراً للاخلاقية الفردية. عن سعيد، اقول ما كان هو يقوله، انه "ليس مناضلاً ولكن رجل ملتزم" وانه التزم بطريقة جعلت فكره موطناً يعيش فيه اليوم جميع الذين اختاروا مزج ديانتهم، اعراقهم والوانهم، جميع الذين رفضوا الاختيار بين البربرية والبربرية.
ترجمة أمل الأندري
* هذا النصّ، لعلّه الأول يتناول العلاقة بين ادوارد سعيد وجوزف كونراد من خلال الكتاب الذي وضعه سعيد عن الروائي الكبير. وقد ألقت الكاتبة اللبنانية بالفرنسية دومنيك إدّه هذا النص في اللقاء الذي عقدته جامعة السوربون الفرنسية إحياء للذكرى الأولى لغياب ادوارد سعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.