جلست سيدة شابة حديثة الزواج على "تابلوه" الباص العام بدعوة من السائق الذي أشفق عليها من مشقة الاندلاف بين أكوام البشر المتلاحمة في داخل الباص، المتجه من ضاحية شبرا الخيمة في شمال القاهرة إلى ضاحية مدينة نصر شرقها. كانت تحمل في كلتا يديها أكياساً منفوخة تبدو استدارة الأواني واضحة في داخلها. وما إن حشرت نفسها وجلست على أحد التقعرات على "تابلوه" الباص حتى بدأ الحديث الذي رفع إثر معاناة الطريق وازدحامه عن كاهل الركاب المخنوقين في داخل الباص. من المريخ و... من فينوس في شكل أو بآخر كانت السيدة بعد أقل من عشر دقائق تحكي للسائق على مسمع الركاب أدق تفاصيل حياتها، فهي متزوجة منذ شهرين، وتسكن في شقة في شبرا الخيمة فوق ورشة زوجها "الميكانيكي" وعليها بعد أن تنتهي في الصباح من إعداد طعام زوجها وترتيب البيت أن تتوجه بما لذ وطاب من أصناف الطعام إلى بيت حماتها التي تقطن في مجاهل حي مدينة نصر مع زوجة ابنها الأكبر. قد يهيأ للبعض أن ما فعلته الزوجة الشابة غريب بعض الشيء، لكن الاميركي جون غراي يعلم أن فعلة الزوجة الشابة طبيعي، وعلى رغم أن احتمالات معرفة غراي براكبة الباص المصري لا تتعدى الواحد في المليون، لكنه في كتابه العبقري: "الرجال من المريخ والنساء من فينوس"، تحدث عنها في شكل مستفيض. يقول غراي: "حينما تتأزم الأمور مع إحدى ساكنات كوكب "فينوس" النساء عموماً وتزيد الضغوط عليها تكون في حاجة إلى من تفرغ فيه شحنتها ويكون ذلك بالتحدث. ومن طبيعة "ساكنات فينوس" أنهن حين يفرغن ما لديهن يشعرن بتحسن فجائي، على عكس "سكان المريخ" الرجال عموماً الذين يدخلون كهوفهم لعلاج مشكلاتهم وحدهم ومن دون مساعدة". ويستطرد غراي في كتابه قائلاً إن "المرأة حينما تتعرض لضغوط نفسية لا تبحث عن حلول فورية لكنها تبدأ بالتنقيب عن راحة البال" من طريق التعبير عن نفسها، فالرجل يشعر بالرضا والارتياح حينما يدقق في التفاصيل الدقيقة لمشكلته، في حين يتحقق هذا الإحساس للمرأة حين تتحدث عن التفاصل الدقيقة لمشكلتها مع شخص ما، وكثيراً ما يتعذر وجود هذا الشخص، فالزوج يصاب بصداع مفاجئ ما إن تهم زوجته بفتح فمها، والأبناء يشعرون بصمم موقت حين تحاول والدتهم إشراكهم في مشكلتها، لكن سائق سيارة الأجرة يرحب بفتح الراكبات قلوبهن له، ومصفف الشعر يعرف أن قدرته على الاستماع والاستيعاب والادلاء بدلوه تعادل قدرته الفنية في تصفيف الشعر. مشكلات الركاب لا سيما النساء حسين عبدالكريم 42 سنة يعمل سائق سيارة أجرة في شوارع القاهرة منذ ما يزيد على 20 عاماً، يقول: "لو لم أكن ضعيفاً في اللغة العربية لكتبت مؤلفات ومعاجم عن مشكلات الركاب لا سيما النساء، ولن أبالغ إذا قلت إنني أعرف أضعاف ما يعرفه أساتذة الجامعات، وإن كان علمي أكثر واقعية من علمهم". يقول عبدالكريم إن الركاب من الرجال يتحدثون في العموم، أي أن "الحديث الرجالي منذ 20 عاماً يدور حول ثلاثة مواضيع لا رابع لها غلاء الأسعار وازدحام الشوارع وظلم الحكومة. اما الإناث، لا سيما المتزوجات، فإنني في كل مرة أسمع قصة مختلفة ولا تقل إثارة عن الأخرى". وإذا كانت النساء اللواتي لا يمانعن في أن يعرف سائق السيارة الأجرة أدق تفاصيل حياتهن ينتمين عادة إلى خلفيات اجتماعية شعبية، فإن فئة مصففي الشعر لا سيما في المناطق الراقية ترفع شعار "ما خفي كان أعظم". يقول مجدي أحمد 45 عاماً وهو صاحب أحد أهم محلات التجميل وتصفيف الشعر في ضاحية مصر الجديدة في القاهرة: "مهمتي هي أن أريح الزبونة، فإذا كانت لديها الرغبة في الحديث أشجعها، وإن كانت تميل إلى الصمت أحترم صمتها، لكنني أستطيع أن أجزم بأن نسبة كبيرة من السيدات يتحدثن معي عن مشكلاتهن العائلية، وأبرزها تجاهل الأزواج لهن، وانصراف الأبناء بعيداً منهن، وعدم تفهم أهلهن لنوعية مشكلاتهن". أما الفتيات - كما يشير أحمد - فتدور معظم أحاديثهن حول قصص الحب الجامعي أو مشكلات فترة الخطوبة وتجهيز بيت الزوجية". هل تتذكر حكايتي مع فيفي؟ وتترك "الحياة" المصفف مجدي أحمد بعد ما جلست بين يديه سيدة في العقد الخامس من العمر، وبادرته بالقول: "هل تتذكر حكايتي مع فيفي زوجة ابني الذي حدثتك عنه في الاسبوع الماضي؟ لقد حدث بالضبط ما قلته لي". ومن سائق السيارة ومصفف الشعر إلى البيت حيث تنبع غالبية مشكلات المرأة التي تدفعها دفعاً إلى الثرثرة مع الغرباء، وهناك في معقلها قد تجد المرأة آذاناً صاغية في رأس خادمتها التي تسمع وترى جبالاً من التفاصيل في كل بيت تعمل فيه. ونعود مرة أخرى إلى محاولة تبرئة النساء من تهمة التسرع في الحديث عن مشكلاتهن مع أول غريب يصادفنه على عكس الرجال، يطرح المؤلفان آلان وباربارة بياز في كتابهما "لماذا لا يستمع الرجال ولا تستطيع النساء قراءة الخرائط؟"، تساؤلات مفيدة عدة على الزوجات أن يجبن عليها. لماذا ينظر إليك زوجك وعلى وجهه علامات البلاهة وعدم الفهم حينما تسردين عليه أسرار الجيران المثيرة؟ ولماذا تبدو عليه علامات النعاس والصرع والدوخة حينما تكون هناك مشكلة بينكما لا تحل إلا بالحديث عنها؟ يؤكد المؤلفان أن هذه هي الطبيعة، فالنساء يتفوهن بين 20 إلى 25 ألف كلمة يومياً في حين لا يتعد الرجال رقم العشرة آلاف بأي حال من الأحوال. ويؤكد المؤلفان أن المخ الرجالي قادر على تخزين المعلومات ومن ثم فصلها في آخر اليوم ثم تصنيفها وإذا أنهى اليوم من الكلمات السبعة آلاف، سيكون سعيداً لتمضية بقية اليوم صامتاً. أما المخ النسائي فلا يختزن المعلومات بهذه الطريقة. المشكلات تظل تصول وتجول في دماغها وتتخلص حاجتها في إخراجها في هيئة كلام حتى لو استنفدت مقننها من ال25 ألف كلمة، فيمكنها دائماً استخدام المزيد. الرجال يحددون المشكلة ثم يبحثون لها عن حل، أما النساء فيحددون المشكلة ثم يبحثون عمن يستمع إليهن وهن يتحدثن عنها، إنها الطبيعة.