التحالف الدفاعي الإستراتيجي السعودي الباكستاني    ترمب يطلب من إسرائيل التوقف «فورا» عن قصف غزة    ملتقى الصم الصحي": مشاركة واسعة وجهود تكاملية لخدمة فئة الصم    معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025 يقدّم "السفاري"    ضبط (3) إثيوبيين في جازان لتهريبهم (84) كجم "حشيش"    الرِّياض تقرأ والكتاب يَطرق أبواب العالم    أمير جازان ونائبه يطمئنان على صحة الشيخ العامري    مستحقو الضمان الاجتماعي ما بين الحاجة والبيروقراطية    الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بنجران تحصد المركز الأول على مستوى الجمعيات الأهليه    سفاري جديد معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025    طرح الدفعة الثانية من تذاكر مباراتي الأخضر في الملحق الآسيوي    رئيس وزراء لبنان: درء الفتنة لا يمكن أن يتم على حساب تطبيق القانون    اليونيسف: لا توجد أي مناطق آمنة للفلسطينيين في جنوب غزة    تكريم طلاب الصف الرابع (ج) المشاركين في الإذاعة المدرسية بمدرسة ابتدائية مصعب بن عمير    6 أكتوبر: انطلاق أسلوب الحياة السعودي بالرياض    اللائحة التنفيذية لتنظيم الدعم السكني تدخل حيز التنفيذ    الأمن العام يشارك في معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025    الأسهم الآسيوية والأوروبية تسجل مكاسب قوية وسط توقعات بخفض الفائدة الأمريكية    الشؤون الإسلامية في جازان تنفّذ أكثر من 81 ألف جولة رقابية على المساجد والجوامع خلال الربع الأول من عام 1447ه    وزير الداخلية: معرض الصقور منصة عالمية لصون الموروث الثقافي السعودي    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تطلق خطتها الاستراتيجية الثالثة (2025–2030) الاحد المقبل    «زاتكا» تُحبط تهريب 19.2 كجم من "الشبو المخدر"    إمام المسجد الحرام: تزكية النفوس سبيل السعادة والعيش الطيب    إمام المسجد النبوي: التباهي والتفاخر مظهر كبر وجهل وزيف دنيا    القيادة تهنئ رئيس ألمانيا بذكرى يوم الوحدة لبلاده    رئيس إنتر ميلان يكشف حقيقة رحيل أوسيليو لنادي الهلال    أكثر من 23 ألف منشط دعوي ينفذه فرع "الشؤون الإسلامية" بالمدينة خلال الربع الأول من 1447ه    القهوة.. رمز عالمي للتواصل ومورد اقتصادي يفوق 100 مليار دولار سنويًا    أمين الطائف يدشن مبادرة "تحسين وتطوير مداخل المويه"    شراكة استراتيجية بين "إكرام الجود" والهيئة الملكية لدعم مستهدفات رؤية 2030 في خدمة ضيوف الرحمن    97 ألف زائر يتعرفون على تقنيات طباعة المصحف في مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة    قنديل في مهب العاصفة    ترامب يحذر من تسريح موظفين وإلغاء مشاريع    انطلاق بطولة آسيا للياقة البدنية الوظيفية 2025    وكالة شؤون الأفواج الأمنية تشارك في معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2025    الأخضر السعودي في مجموعة قوية بكأس آسيا تحت 23 عامًا 2026    ديشان يدعم قاعدة (البطاقة الخضراء) ويدعو لاستغلالها بشكل إيجابي    الرخص الرياضية استثمار منظم يفتح أبواب الاقتصاد الجديد    هيئة المساحة الجيولوجية: رصد زلزال بقوة 5.1 درجات في وسط إيران    "الهجن السعودية" تتصدر قوائم كأس الاتحاد السعودي ب 4 كؤوس و45 شوطاً    قراءة في مجد الطبيعة وصغارة الإنسان    الإعلاميان الكبيران : محمد عابس وعبدالعزيز خزام في مهرجان القصيدة الوطنية    نحترق لتنضج الطبخة    الشيخ والغوغاء 2/2    مواقف المملكة العربية السعودية «الأفعال تصنع الفرق قبل الأقوال»    التكيُّف مع الواقع ليس ضعفًا بل وعي وذكاء وقوة    "التخصصي" في المدينة ينجح في إجراء زراعة رائدة للخلايا الجذعية    تصاعد العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين.. اقتحام الأقصى وتصاعد حصيلة الشهداء في غزة    هجوم حوثي صاروخي يستهدف سفينة هولندية في خليج عدن    أمراء ومسؤولون يقدمون التعازي والمواساة في وفاة الأميرة عبطا بنت عبدالعزيز    إرث متوارث.. من قائد (موحد) إلى قائد (ملهم)    باحثون يطورون علاجاً يدعم فعالية «المضادات»    شيءٌ من الوعي خيرٌ من قنطار علاج    تقليص ساعات العزاء والضيافة عن نساء صامطة    معتمرة تعود من بلدها لاستلام طفلها الخديج    نائب أمير تبوك يستقبل مدير عام الأحوال المدنية بالمنطقة    أمير جازان يستقبل وكيل وزارة الداخلية لشؤون الأفواج الأمنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألليندي وأحلام فاشلة
نشر في الحياة يوم 14 - 09 - 2003

حتى قبل سنتين، كان عندما يُذكر تاريخ 11 سبتمبر، يتذكر المرء مشهد نار قيامة اخرى، تسقط من السماء، غير حمى النار التي تركها طيارو الموت في حادث الهجوم الارهابي على برجي التجارة العالمي في نيويورك. ثلاثون سنة مرت على تلك النار، وصور الطائرات العسكرية، وهي تقصف قصر "المونيدا" في العاصمة الشيلية، سانتياغو، خلال الانقلاب العسكري في 1973، ما تزال محفورة في ذاكرة ووعي الملايين. بنفس تلك القوة، ظلت ايضاً صور الرئيس الشيلي سلفادور الليندي اول رئيس ماركسي اشتراكي في التاريخ، جاء للسلطة عن طريق الانتخابات الذي اصبح رمزاً ايضاً، دفع حياته ثمناً، عندما اراد الدفاع عن نموذج التقليد الديموقراطي ذلك الذي سارت عليه بلاده ما يقرب من ثلاثة قرون.
اليوم، بعد ثلاثين عاماً نعرف ايضاً، ان الليندي لم يقتله اعداؤه، انما مات منتحراً برصاصه، بالكلاشنكوف ذاته الذي ظل محتفظاً به على مدى اربع ساعات يقاوم في قصر الرئاسة، بانتظار نجدة الجماهير والجيش له كما كان يعتقد. فعل يحوي الكثير من الرمز، جعله الى جانب خطبته المشهورة الاخيرة التي وجهها إلى مواطنيه، يدخل التاريخ بصورة اسطورية، ليس لشيلي وحسب، انما للملايين من الناس في العالم.
"كلماتي لا تعبر عن المرارة، انما عن الخيبة. سينال الخونة عقوبتهم. لن أستقيل. لن يستطيعوا اذلالنا، ولن يستطيعوا ايقاف عجلة التقدم. اشكركم، اشكر أنكم وثقتم برجل منح صوتاً للرغبة بالعدالة". تلك هي الكلمات الاخيرة لسلفادور الليندي، قبل ان يصمت صوته إلى الأبد.
عن الاماني والاحلام التي نذر سلفادور الليندي نفسه لها، نبعد في يومنا هذا آلاف السنوات الضوئية. اذ لم يعد هناك في وقتنا الحاضر من يطرح السؤال "المحرج" القديم، الذي كان يُطرح دائماً: ما اذا كانت الطريق لتحقيق "الاشتراكية" ولسلطة العمل والشعب، يمكن بلوغها من دون عنف؟ اولاً، لأن الاستثناء الذي شكلته شيلي، اثبت القاعدة التي تقدم استحالة تحقيق ذلك جواباً. وثانياً، لأن اليسار وابطاله، ابناء الطبقة الوسطى "الحالمين" والعاطلين عن العمل، تحولوا الى خبراء في اقتصاد السوق، بينما تحولت الاحزاب الشيوعية برمتها إما الى احزاب قومية وعصابات للمافيا، او الى احزاب اشتراكية "انتهازية" تبحث عن مكان لها في السلطة، تتنافس مع الاحزاب اليمينية في الدفاع عن الاقتصاد الحر والعلاقة بالولايات المتحدة الاميركية، والثورة "الدائمة" التي تحدث عنها تروتسكي، اصبحت اكثر ذكورية، وتحولت الى "الارهاب الدائم"، يرفع لواءه متعصبون ملتحون، ليست للحاهم ناقة او جمل بلحية تشي غيفارا ورفاقه. اما غيفارا ذاته فتحول بقوة "الماركتينغ" الرأسمالي الى ايقونة تباع وتشترى حتى في كوبا الثورة نفسها. ولكن من الجانب الآخر، حوت الأماني والأحلام التي جعلت سلفادور الليندي ينتحر، على الكثير من الرومنطيقية التي ربطتها علاقة بتلك السنوات، رومنطيقية التحولات "الدائمة" الضرورية، التي تستدعي التضحية والمقاومة، والتي لم تخل من نزعة دينية وحدها ما يستطيع تفسير الجاذبية القوية التي يحوي عليها بالوقوع تحت اغراء سطوة الافكار الدموية، التي تجبر الناس على تغيير انفسهم. من "ديكتاتورية البروليتاريا" للينين، ومن "الثورة الدائمة لتروتسكي حتى "الثورة الثقافية" لماوتسي تونغ، التي حثّت النخبة على ضرورة "اشعال نار الثورة من جديد". وكان على شيلي ممثلة بحكومة الليندي، ان تعطي مثالاً عن ذلك: اذ يكفي ان تهب رياح تغيير بسيطة فقط، حتى تتسلم "الطباخة" التي تحدث عنها لينين، شؤون امور ادارة الدولة! اية سذاجة واية احلام وردية ستطرز هناك، قبل ان تتحول إلى لون أحمر!.
انها تلك الدعوات "الثورية" التي ما زال البعض يحن اليها في منطقتنا بصورة خاصة، الدعوات "المريضة" التي لا تفهم احياناً ان المشكلة لا تكمن في "قوة" الطبقات المسيطرة، انما تكمن اكثر من اوساط الناس البسطاء.
ولو كان الأمر غير ذلك، لما وجدت الدعاية اليمينية ارضاً خصبة في شيلي، وفي اماكن اخرى من العالم. فالحاجة إلى الأمن والاستقرار حاجة قابلة للتغير تاريخياً واجتماعياً، وفي الاوقات العصيبة وفي ازمان الازمات، تقود دائماً الى نتيجتين "مختلفتين" لكن سلبيتين: اما الى تقوية وتصلب المقاومة المضادة للمحافظين، او الى تشدد وتصلب ديكتاتوري للثورة. هذا ما حصل للرئيس الليندي في فترة حكمه القصيرة. اذ فشل بالذات في "ديناميك" الموديل الذي اطلقه، والذي فقد لاحقاً القدرة على التحكم به. فمن جهة لم يعد يصغي لتوجهاته، لا الجناح اليساري في جبهته التي اسسها، "الوحدة الشعبية"، بسبب "تباطئه في تحقيق التغييرات الثورية الجذرية"، ولا العمال والعمال الزراعيون الذين راحوا يطبقون على هواهم مصادرة الاراضي الزراعية والمصانع وإدارتها بأيديهم، وطرد ملاكي الاراضي من اراضيهم، والرأسماليين، من مصانعهم. وعندما اشتدت أزمة تموين المواد الغذائية، اخذت "اللجان الشعبية" تفتح بأنفسها المحلات التجارية الصغيرة، وتصادر حتى بضائع التجار الصغار، وتقوم ببيعها وتوزيعها على هواها.
وفي المحصلة، فإننا اذا نحّينا التدخل الاميركي على مدى الثلاث سنوات التي سبقت الانقلاب ثم دعم الولايات المتحدة الاميركية له وصمتها اللاحق عن الجرائم التي ارتكبها بينوشيه وطغمته، فسنكتشف ان الحركة التي اوقعت فيها البلاد نفسها جعلت البلاد منذ نجاح الليندي في الانتخابات تدخل في حرب اهلية صغيرة دارت رحاها عند حافات المجتمع، وساعدت على انتشار وتوسع تمرد غوغائي، اصبح مع الوقت من الصعب التحكم به، لأنه حمل بالذات تلك الطبقات، التي ادعى الليندي الدفاع عنها، وتحقيق أمانيها.
كان وضعاً نموذجياً تماماً ومهيئاً لليمين المحافظ، ان يقدم نفسه بصفته المنقذ من الفوضى التي تعم البلاد، بصفته يمثل الاغلبية المعارضة 56 فى المئة لسياسة "الحكومة الشعبية" المنتخبة بنسبة 44 في المئة.
وذلك ما يفسر نجاح الانقلاب العسكري، وليس كما يقال، التدخل الخارجي. صحيح ان تدخل الولايات المتحدة لعب دوراً، لكن المشهد الداخلي كان مهيئاً سلفاً. وعندما تسلم بينوشيه السلطة، لم يصطدم جيشه بأية مقاومة تذكر. كان الانهيار المعنوي حفر نفسه تدريجياً عند "الجماهير"، قبل ان يقرر الجنرالات القيام بالانقلاب. وكما يبدو، كان حلم الليندي، بحكم المجتمع لنفسه، المجتمع الذي يصحو من غفوته "الخاطئة"، "محملاً برغبته للاستقرار والسعادة"، قد مات سلفاً، وذلك قبل ان يتأهب الجنرال ذو النظارة السوداء، لقتل ذاك الحلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.