أكاديمية الإعلام السعودية تقيم اللقاء الافتتاحي لمسار "قادة الإعلام"    سفير المملكة في تونس يسلم 129 وحدة سكنية بتمويل سعودي    انخفاض إيرادات روسيا من مبيعات النفط والوقود 14 % في يونيو    دول «الخليجي» تدعو المجتمع الدولي للتحرك لفك الحصار عن غزة    "حقوق الإنسان" تحتفي بتخريج "خبير"    عبدالعزيز بن سعود يبحث مع وزيرة الداخلية البريطانية سُبل تعزيز التعاون    الهلال يضع النقاط على الحروف في اعتذاره: نظام الاحتراف لا يجيز تقليص إجازة اللاعبين    ناشئو أخضر اليد يبدأون معسكرهم في سلوفينيا استعداداً لمونديال مصر 2025    "عسير الصحي" يقدم خدماته التطوعية لمليون ونصف المليون مستفيد    "السينما.. فن المكان" شعار مؤتمر النقد السينمائي الثالث..    كايروكي و«Ghostly» حفلة الضوء في موسم جدة    هند البحرينية.. سنقل «عشقك زود» على الأبواب    1.9 مليون مصلٍ في روضة المسجد النبوي    «تطوير المدينة» تُنفّذ 16 مبادرة لخدمة ضيوف الرحمن    استقرار حالة التوءم الملتصق السعودي يارا ولارا    سورية: المساعدات تدخل السويداء بعد وقف إطلاق النار    القيادة تهنئ ملك بلجيكا بذكرى بلاده    نائب أمير الرياض يستقبل سفير الإمارات    أمير نجران يسلّم شاباً وسام الملك عبدالعزيز لتبرعه بإحدى كليتيه لشقيقه    المفتي يستقبل رئيس جمعية البر بحقال    تقرير المجاهدين على طاولة أمير جازان    بتوجيه آل الشيخ: خطبة الجمعة تحذر من إساءة استغلال الذكاء الاصطناعي    السيارات الكلاسيكية تستعرض "زينتها" في محافظة سراة عبيدة    6 جوائز للسعودية في أولمبياد الرياضيات الدولي    المملكة مجددا رئيسا لمعهد المواصفات الإسلامي    "البلديات" ترصد مخالفات تقسيم السكن للاستثمار وتفرض غرامات مشددة    بارتفاع طفيف.. قطاع البنوك يدعم تعاملات سوق الأسهم السعودية    القبض على (12) مخالفًا لنظام الحدود لتهريبهم (216) كيلوجرامًا من "القات"    مقتل 27 فلسطينيا في قصف الاحتلال الإسرائيلي على غزة    نائب أمير جازان يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    الحكومة الرقمية تدمج وتغلق 267 منصة ضمن برنامج ⁧‫الحكومة الشاملة        مركز التنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "تعرف علينا"    جمعية نجوم السياحة وفريق "صواب التطوعي" يوقعان اتفاقية تعاون    جمعية عين لطب العيون تطلق مشروع "اعتلال الشبكية    أنهار قديمة تحت الجليد    طريقتان سريعتان لتخفيف التوتر    الثقافة العلاجية: بين التمكين والمبالغة    تأثير القهوة على نشاط الدماغ    رصد 18 مكتب استقدام مخالفاً في الربع الثاني    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من ملك مملكة إسواتيني    انطلاق منافسات بطولة العالم للبلياردو 2025 في جدة    في كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025.. فريق سبريت يتوج ببطولة"Dota 2″ ومليون دولار    ناشئو أخضر اليد يواصلون معسكرهم الإعدادي استعداداً لمونديال 2025    " الثقافة" تطلق منحة الأبحاث المرتبطة بالحرف اليدوية    «الدارة» تدرج «صوت الحجاز» ضمن «بوابتها».. ذاكرة «البلاد».. تاريخ يُروى رقمياً    تفقد مشروع صفوى- رأس تنورة.. وزير النقل يقف على مستوى تقدم المشاريع بالشرقية    روسيا تعلن استعدادها لتسوية النزاع الأوكراني    واشنطن تترقب الرد اللبناني على «الورقة الأمريكية»    اتفاق إيراني – أوروبي على استئناف المحادثات النووية    جمعية "واعي جازان " ومركز مسارات يسلطان الضوء على ظاهرة الطلاق العاطفي    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الوليد بن خالد    فهد بن سلطان يشيد بأعمال "الأمر بالمعروف"    المرور: 300 ريال غرامة قيادة الدراجة الآلية بدون رخصة    "قبول" تكشف مزايا الفرص الإضافية ل"تسكين الطلاب"    بعد غيبوبة طويلة مؤثرة في المشاعر.. الأمير الوليد بن خالد بن طلال إلى رحمة الله    أمير تبوك يواسي الدكتور عبدالله الشريف في وفاة والدته    أمير منطقة جازان يستقبل رئيس مجلس إدارة كلية "منار الجنوب" للعلوم والتقنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل هناك صفقة بين حاقد ومرتعب خلف التوزيع الاستثنائي لجوائز "كان"؟. لقطات طويلة وأجيال خائبة ومسافات بين ما نفكر به وما نفعله
نشر في الحياة يوم 30 - 05 - 2003

لنتخيل ما حدث على هذا النحو، من دون ان يكون قد حدث كذلك حقاً، طالما ان النتيجة التي أسفر عنها توزيع الجوائز في الحفلة الختامية لدورة هذا العام لمهرجان "كان" توحي به، وطالما ان المشكلة هذه المرة ليست في الأفلام التي فازت، بل في فيلمين على الأقل حرما من فوز كان يستحقه كل منهما، على طريقته. إذاً، انطلاقاً من هنا لنتخيل ما حدث: من بين الكثير من الأفلام التي عرضت في "المسابقة الرسمية" للمهرجان، كان هناك خمسة او ستة أفلام فقط تستحق، ليس الفوز وحده، بل أن تكون اصلاً في مسابقة رسمية لمهرجان من وزن هذا المهرجان، وهذه الافلام هي: "دوغفيل" و"الفيل" و"مستيك ريغر" و"ادزاك" و"الغزوات الهمجية" وربما "الفراشة الارجوانية".
في نهاية الأمر، أعلن عن فوز ثلاثة من هذه الأفلام بالجوائز الست الرئيسة، اضافة الى فوز فيلم الايرانية سميرة مخملباف غير المنطقي، الا في اطار منطق مهرجان "كان" بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. ولكي يعطى كل فيلم من الأفلام الثلاثة الفائزة جائزتين، "اضطر" رئيس المهرجان جيل جاكوب الى اصدار قرار استثنائي "شكره" عليه رئيس لجنة التحكيم. وذهل الحضور: لماذا هذا الاستثناء؟ وأتى الجواب سريعاً: لكي يمكن استبعاد فيلمين من فوز كان متوقعاً ومؤكداً. والفيلمان هما "دوغفيل" للارس فون تراير و"مستيك ريغر" لكلينت ايستوود. ونبادر منذ الآن للقول ان الأول كان يستحق السعفة الذهبية ومن بعيد، والثاني كان يستحق جائزة افضل تمثيل ذكوري لواحد من ابطاله الثلاثة، شين بن وتيم روبنز وكيفن بيكون، او للثلاثة معاً. فما الذي يمكن أن يكون قد حدث؟
ونعود الى تخيلنا: باتريس شيرو، رئيس لجنة التحكيم لهذا العام، وهو رجل مسرح كبير انما من دون ان يؤخذ سينمائياً بعين الجدية ابداً، له ثأر قديم على كلينت ايستوود.
إذ حين كان هذا الأخير رئيساً للجنة التحكيم في دورة سابقة ل"كان"، عارض منح فيلم شيرو "الملكة مارغو" السعفة الذهبية، كما عارض منح ايزابيل ادجاني بطلة الفيلم جائزة أفضل ممثلة. حقد شيرو على ايستوود، وقرر ان يحرمه هذه المرة من أية جائزة. في المقابل كان جيل جاكوب، رئيس المهرجان، ارتعب منذ شن الاميركيون هجوماً كاسحاً على فيلم "دوغفيل" للارس فون تراير، ولا سيما منهم مجلة "فارايتي" المرتبطة بالمؤسسة السينمائية الاميركية وبزعيمها جاك فالانتي شخصياً. كانت خشية جاكوب من أن تعطى الجائزة الكبرى، أو اية جائزة ل"دوغفيل"، ما كان من شأنه في رأيه ان يزيد من حدة الاميركيين الذين كان لمقاطعتهم، غير المعلنة، هذا العام أثر سيئ جداً في المهرجان. حسبها جاكوب في رأسه: إن فاز "دوغفيل" قد يقاطع الاميركيون دورة العام المقبل.
وهكذا، كما نتخيل، التقى حقد شيرو مع رعب جاكوب، فحرم "مستيك ريغر" و"دوغفيل" من الفوز، عبر صفقة متبادلة.
من يستحق ومن لا يستحق
من هنا، نعود ونكرر، لم تكن المشكلة في عدم أحقية من فازوا، بل في أحقية فيلمين كان ثمة إجماع كبير لدى محبي السينما والفن على الأقل حولهما منذ عرضا. ويقيناً ان اختيار ثلاثة أفلام لقيت اجماعاً هي الأخرى للفوز، انقذ الوضع كله من السقوط في أدنى درجات السخف، حتى وإن كان هذا السقوط تحقق مع منح جائزة النقاد الخاصة لذلك الفيلم الهلامي "عند العصر" لتلك الفتاة الايرانية التي باتت تتقن فن الوقوف أمام الكاميرات بعينيها الجاحظتين، بقدر ما يتقن أبوها، المخرج محسن مخملباف فن اقتناص الفرص وتحويل الاحداث الى صفقات عائلية تتم مع الفرنسيين ويخرج منها الكل رابحاً، باستثناء السينما الايرانية نفسها. ف"عند العصر" فيلم لا معنى له، وما فوزه سوى انعكاس لتلك الأبوية التي يحاولها الفرنسيون من دون هوادة من حول كل ما يتعلق بالمرأة العربية او المسلمة، في ايران او في افغانستان. لذلك نغض الطرف عن هذا الفوز وننتقل الى الأفلام الثلاثة التي فازت بجدارة.
على الفور، لا بد من ان نقول ان "الفيل" تحفة سينمائية متميزة، ونشدد على كلمة "سينمائية" لأن الفيلم قطعة فنية، وليس منشوراً سياسياً كما حاول البعض ان يراه. انه فيلم ينطلق، من ناحية موضوعه من مجزرة تشبه مجزرة كلية كولومباين التي شكلت خلفية الفيلم الوثائقي الرائع الذي قدمه مايكل مور في العام الماضي. ولكن في مقابل يقين مور السياسي الاتهامي، يبدو غاس فان سانت، كاتب "الفيل" ومخرجه، من دون أي يقين. وهذا ما يحمله مغزى عنوان فيلمه المستند الى حكاية العميان والفيل الشهيرة. بالنسبة الى غاس فان سانت، في حال مثل حال مجزرة الكلية، لا يمكن أحداً ان يتوصل حقاً الى تحديد الدوافع واطلاق اصابع الاتهام. لذلك، بدلاً من تسييس الموضوع والخروج برسالة وموعظة، نراه يفضل ان ينكبّ على موضوعه محاولاً ان يجرب في الشكل من خلال وضع متفرجه في صورة الحدث، من دون أن يفرض عليه تفسيراً له.
بيتهوفن والعنف
ومن هنا، فإن الفيلم يتناول الحياة في الكلية، وحياة أهل الكلية، خلال زمن سابق مباشرة للمجزرة: ان كاميراه تتابع الطلاب وغيرهم في حياتهم اليومية ومشكلات عيشهم. واحد يصور عاشقين في بارك، ثان يحاول ان يضبط أباه الثمل، ثالثة تتجه الى عملها داخل المكتبة، رابع يصطحب صديقته الى المطعم. وفي خضم هذه الملاحقة، دقيقة بدقيقة لهؤلاء الاشخاص، يقدم لنا المخرج المراهقين اللذين سيرتكبان المجزرة. انهما شابان عاديان، لكن افتتانهما بهتلر واضح، ومثليتهما الجنسية فصيحة، ورغبتهما في القتل المجاني معلن عنها منذ البداية. ولا نحاولن أن نخدع أنفسنا هنا اذا ما رأينا واحداً من الشابين يعزف على البيانو قبل توجهه لارتكاب المجزرة مباشرة، واحدة من اكثر مقطوعات بيتهوفن رومنطيقية، أي "الى إليز". فمن سبق له ان شاهد الكسّ دو لارج يَقْتُل على وقع السيمفونية التاسعة لبيتهوفن نفسه في فيلم ستانلي كوبريك "البرتقال الآلي"، يعرف منذ زمن بعيد ان الولع بالموسيقى العاطفية ليس ضمانة ضد العنف والقتل.
المهم ان الشابين، يجهزان نفسيهما تماماً ويشتريان السلاح بالبريد ثم يتوجهان الى الكلية بهدوء وتؤدة، ويبدآن بقتل كل من يريانه، بل إن احدهما يقتل الآخر في النهاية. من كل هذا، ليس ثمة ما هو غير متوقع. المفاجأة الوحيدة هي الأسلوب الذي اختاره فان سانت لعمله: كاميرا تتحرك وراء الشخصيات في حركة متواصلة. ثم تترك شخصية لتتبع أخرى كاشفة عن وجهات نظر عدة لما يحدث نظرية "الفيل" والعميان، تجريبية شكلية متميزة حتى وإن كان في امكاننا أن نحتج على السهولة التي يتم بها القتل نفسه ، تفاوت هائل بين الحدث ومعرفتنا بخلفياته، عشوائية في اختيار الضحايا... كل هذا أداه غاس فان سانت، اخراجاً وكتابة، في روعة استثنائية، ويزيد من استثنائيتها كونه لم يستعن، للأدوار، الا بطلاب ثانويين غير محترفين. "الفيل" فيلم متميز حقاً، كان يستحق جائزة كبيرة، للاخراج التي فاز بها على أي حال او للسيناريو، لكنه كان في امكانه منطقياً ان يترك "السعفة" ل"دوغفيل"، لأن هذا الأخير استثنائي، وليس متميزاً فقط، ولكن هذا حديث سنعود اليه في مقال لاحق. اما هنا فننتقل الى الفيلم الثاني الذي فاز، بدوره، بجائزتين: جائزة افضل سيناريو، وجائزة افضل ممثلة.
موت مرح لجيل فظيع
هذا الفيلم هو "الغزوات الهمجية" للكندي الناطق بالفرنسية ديني آركان. والحال ان "الغزوات الهمجية" منذ عرضه شكل منافساً جدياً على "السعفة" ل"دوغفيل" ول"الفيل" معاً. في هذا الفيلم، الذي فازت احدى بطلاته الشابة، ماري جوزيه كروز، بجائزة افضل ممثلة عن دورها كإبنة عشيقة سابقة لبطل الفيلم المكتهل والمحتضر والتي تتولى حقنه بالمخدرات لتخفيف آلام موته، في هذا الفيلم يتابع آركان، وهو كوبيكي مخضرم، ما كان بدأه في فيلم سابق له هو "سقوط الامبراطورية الاميركية" ومعظم الاحيان بالممثلين أنفسهم، سبر أغوار أفكار الستينات من القرن الماضي الثورية اليسارية. وإذ يفعل آركان هذا، فإنما لكي ينشر ما يمكننا ان نعتبره ورقة نعي جيل بأسره وأفكار كاملة، هي افكار شباب ثورات الستينات الراديكالية. والنعي هنا مزدوج، نعي واحد من ابناء الجيل، ونعي الجيل نفسه، اذ من خلال موت ريمي، الذي عاش حياته طولاً وعرضاً، رسم لنا آركان موت جيله كله، ولكن من دون حزن جدي ومن دون مرارة كبيرة. والحكاية تتمحور حول ريمي هذا الذي اذ يبدو واضحاً ان مرضه العضال سيقتله، يتولى ابنه، العامل في البورصة، وشبه الرأسمالي الذي لا تفارق الارقام او الهاتف المحمول حياته اليوم، يتولى دعوة زوجته السابقة وبعض عشيقاته اللواتي شخن تماماً، وعدد من اصدقائه للاحاطة به في ايامه الاخيرة. وهكذا يجتمع كل هذا العالم الجميل، ويبدأ بتذكر الماضي، بأفراحه وخيباته، بأفكاره الكبيرة وأيديولوجياته كما بدسائسه الصغيرة، وسط مناخ مرح طيب لا يكف فيه هذا الجيل، عن السخرية من ذاته، معلناً فشل كل ما فكر فيه وسعى اليه. وهكذا، بالتدرج، بعد انقضاء دقائق التعرف الاولى على الشخصيات، يبدأ الفيلم بالتسلل الينا، كما نحس اننا نحن ايضاً - ابناء الجيل والثقافة والخيبة نفسها - نبدأ بالتسلل الى داخل الفيلم، فيحدث انصهار مدهش بين المتفرَّج والمتفرَّج عليه، سهّله وأعطاه كل منطقية اخراج بسيط وحوار مرح وثاقب، ولكن ايضاً الاحساس، بأن معظم المتفرجين ينتمي الى الجيل نفسه. وفي هذا الاطار قد لا يكون خارجاً عن المنطق ذلك الشعور الذي خامر، مثلاً، صديقنا الناقد سمير فريد، بأن "الغزوات الهمجية" يشبه الى حد كبير مقالاً عنه وعن جيله، كان نشره قبل اسابيع قليلة في "الحياة"، او الشعور الذي خامر غيره من ابناء الجيل نفسه بأن ثمة في الحوارات جملاً وأفكاراً يقولها كل واحد منا في كل يوم ولحظة.
كان هذا كله ما اعطى "الغزوات الهمجية" منطقه وجماله، خصوصاً ان الفيلم، في لفتات عدة رائعة منه، منحنا نحن العرب غمزات متميزة حين تحدث عن الحضارة العربية وتاريخها وما الى ذلك. فيلم "الغزوات الهمجية" فيلم حي وحيوي، على رغم ان الموت هو موضوعه الرئيس. ومنذ قدم في عرضه الأول في "كان" تمكن من إضفاء شيء من الحيوية على المهرجان نفسه، علماً أنه يحقق الآن، إذ يعرض في بلده كندا، نجاحاً جماهيرياً هائلاً لا يوازيه إلا نجاحه النقدي والفكري.
الإنسان امام عجزه
مثل هذا النجاح لا يبدو من المؤكد انه سيكون من نصيب الفيلم الثالث الفائز، بدوره، بجائزتين في دورة هذا العام لمهرجان "كان" وهو فيلم "من بعيد" اوزيك للتركي نوري بيلفي جيلان. فهذا الفيلم هامشي تماماً وذاتي تماماً، اي يسير عكس تيار ما اعتادته السينما التركية. وحتى لو كان مخرجه، بعد فوزه بجائزتي "لجنة التحكيم الكبرى" و"أفضل ممثل" مناصفة لبطليه، أعلن ان الفيلم لا يمثل سيرته الذاتية، لا بد لنا من ان نلاحظ نقاط تشابه كثيرة بين المخرج وواحد من البطلين: محمود الذي يعمل مصوراً لبلاط البورسلين ويحلم بأن يصبح سينمائياً، وهو مثقف ومصور هاو، ينتمي بدوره الى جيل ثورات الشباب الثقافية. كما ان الفيلم صوّر في شقة المخرج نفسه. والذي قام بدور محمود هو الممثل نفسه الذي سبق له ان قام بدور المخرج في فيلم سابق لجيلان. اما الممثل الثاني الذي قام بدور يوسف وقد اعلن خلال الحفلة الختامية انه قتل قبل اسابيع في حادث سيارة فهو ابن عم جيلان نفسه. ثم ان محمود ابن ريف جاء الى المدينة اسطنبول وسافر كثيراً مثل جيلان نفسه... الى آخر ما هنالك.
حسناً، قد لا يكون "من بعيد" سيرة ذاتية لجيلان، لكنه بالتأكيد فيلم ذاتي. وأيضاً عن جيل اخفق على رغم كل احلامه وإمكاناته الفكرية. ولئن كان إخفاق جيل ريمي بطل "الغزوات الهمجية" قد عُبّر عنه بموته والاحتفال الطقوسي بذلك الموت، فإن إخفاق جيل محمود عُبّر عنه بتلك السلبية التي تطبع شخصيته: إنه رجل اللافعل، العاجز عن الحب وعن الحركة، الضائع بين جذور لم تعد له، ومستقبل لا يعد بشيء وبينهما حاضر يدمره ارتباط بالمدينة وعجز تام عن التأقلم مع جمالها.
محمود هذا، بطل فيلم جيلان، يعيش في اسطنبول، وسط صقيعها وثلجها ومنظرها الرائع، حياة رتيبة انسته الى حد كبير جذوره، وأنسته، حتى أحلامه التي باتت مجرد لوحات فوتوغرافية معلقة على جدران شقة بسيطة تعيش هاجس فأرة تتحرك بحرية في مطبخها. ذات يوم يستقبل محمود على مضض، يوسف ابن عمه الشاب الآتي من الريف حيث البطالة والبؤس ليحاول ان يجد لنفسه عملاً في المدينة. محمود يضطر الى ايواء يوسف في شقته ريثما يعثر هذا على عمل لن يعثر عليه ابداً، وبالتدرج يتصاعد التوتر بين الاثنين، إذ تصبح حياة يوسف خواء وتنقلاً في اسطنبول بحثاً عن عمل او امرأة او عن اي شيء، بينما يعيش محمود ازمة علاقاته العاطفية وفشله المهني وخواء ارتباطاته بالمدينة.
وهذا كله يصوره لنا نوري جيلان، بأسلوب هادئ وكاميرا تعرف كيف تلتقط جمال المدينة، في الوقت الذي تلتقط ايضاً عجز الشخصيتين الرئيستين عن تلمس هذا الجمال حقاً وتحويله الى بعد انساني حقيقي، ذلك ان الظروف سلبت من هذين حتى الرغبة في البحث عن مصير. صحيح ان يوسف يحاول جهده للعثور على عمل، ويحزن امام وعود تخيب دائماً وسط بطالة عامة وأزمة اقتصادية، لكنه لا يبدو في حقيقة الأمر على عجلة من امره. بل إنه خلال الجزء الأول من الفيلم لا يدرك ابداً استياء محمود من وجوده. لا يدرك ان محمود صار ابن مدينة، خائباً محبطاً، وأنه بالنسبة إليه مجرد قريب آت "من بعيد" ومن هنا عنوان الفيلم. لقد صارت هناك مسافة كبيرة بين محمود ويوسف. وهذه المسافة اذ يشعر بها محمود، لأنه الأكثر وعياً والأكثر لؤماً - ابن مدينة أليس كذلك؟ - تغيب عن يوسف الأكثر براءة. ولكن بمقدار ما يتعمق يوسف في علاقته بالمدينة وفي خيبة أمله أمام عمل لا يصل اليه أبداً، تزداد مدينيته وبالتالي ادراكه أزمة علاقته مع ابن عمه. أما هذا الأخير فإنه يواصل عيش احباطاته وعجزه: انه عاجز عن أن يحب المرأة التي يحبها زوجته السابقة والتي تسافر أمام تلصصه عليها في المطار. انه يريدها لكنه عاجز عن ذلك. يحب يوسف لكنه عاجز عن ذلك. لا يريده لكنه أيضاً عاجز عن التصريح بذلك. يذهب الى الريف ليصور، ولكن ما ان يكتشف مشهداً جديراً بالتصوير ويبدأ، بمساعدة يوسف الذي يعاونه في لحظة أمل، بالاستعداد للنزول لتصويره، حتى يقلع عن ذلك، من دون سبب أو مبرر. والحال ان جزءاً كبيراً من قوة هذا الفيلم الساحر، يكمن في ذلك التصوير الجواني الذي قدم لنا به المخرج شخصية محمود، تلك الشخصية الإشكالية الفاتنة، ولكن المحبَطة المحبِطة في الآن عينه.
ولكن لماذا لا نحب؟
إن مشاهد اليوم قد يرى في هذه الشخصية صدى لبعض شخصيات انطونيوني اوفسيكونتي في "الغريب"، بمعنى انه قد يراها منتمية الى غير هذا الزمان، ولا سيما في علاقة محمود الكأداء مع المدينة، ولكن جيلان ينبهنا منذ البداية: محمود لا ينتمي الى عالم اليوم. انه ينتمي الى عالم ماضيه وهواجسه. صحيح انه يحاول أن يتأقلم، لكن الصراع في داخله عنيف. ومن هنا نراه يقترب ويبتعد في علاقته مع يوسف، يبتعد ويقترب في علاقته مع اسطنبول. يقترب ويبتعد في علاقته مع امرأته القديمة أو عشيقته الجديدة. وفي هذا الاطار لم يكن زائداً أو للتسلية، ذلك الجانب من الفيلم الذي يطاول قضية الفأر في المطبخ. فمحمود وضع للفأر فخاً من مواد لاصقة، راح الفأر يقترب منه ويبتعد، حتى علق في نهاية الأمر. والمشهد الأخير في الفيلم، إذ يصوّر لنا محمود عند ضفة البوسفور متأملاً، بصفاء سلبي تام، يبديه لنا، على أية حال، أشبه بفأر التصق بفخه ولم يعد له منه فكاكاً: أشبه بشخص يتساءل فقط لماذا أصبح عاجزاً عن ان يحب.
وفي يقيننا ان هذا هو الموضوع الأساس لهذا الفيلم الساحر والبسيط، والذي من المؤكد ان فوزه المزدوج في "كان" سيعطيه بعض مكانة في بلاده تركيا وفرصة ليوزع في الخارج، ما يمكن مخرجه من أن يحقق فيلمه التالي، هو الذي قال ان المنتجين في بلاده التي ما عادت تنتج أكثر من 15 فيلماً في السنة، يستنكفون عن إنفاق أي قرش على أي فيلم يحمل موضوعاً. والحل الوحيد أمامه هو أن يربح بعض المال في كل فيلم يحققه حتى يتمكن من تحقيق الفيلم التالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.