يخلو غلاف "القارئ البغدادي" دار الآداب، 2003 للكاتب العراقي جبار ياسين من أي اشارة الى نوعه الأدبي وما اذا كان يندرج في باب الرواية أو السيرة أو القصة القصيرة. وهكذا لا يتيسر للقارئ ان يعرف نوع الكتاب وطبيعته الا بعد أن ينتهي من القصة الأولى التي تحمل عنوان الكتاب نفسه أو اذا خطر له أن يراجع الفهرس الذي يتضمن عناوين القصص المنشورة. ولا أظن أن السبب في ذلك يعود الى دار الآداب التي صدر الكتاب عنها بل يعود على الأرجح الى رغبة المؤلف في ترك التعريف بكتابه معلَّقاً أو منوطاً بالقارئ الذي يعتبره ياسين المؤلف الحقيقي لما يقرأه من كتب. أعترف بدوري انني شرعت في قراءة الكتاب بصفته رواية لا مجموعة قصصية. ليس فقط بسبب افتتاني منذ أكثر من عقدين بقراءة الروايات بل لاعتقادي، وربما عن خطأ، بأن القصة القصيرة هي مخلوق أدبي حائر بين الرواية والشعر وأننا نستطيع الاستغناء عنه بردِّه الى أحد الأبوين اللذين أنجباه. ومع ذلك وعلى رغم تراجع هذا النوع الأدبي الملتبس أمام زحف الرواية المطرد، فإن أحداً مهما بلغ إجحافه لا يستطيع أن ينسى الانجازات القصصية الرائعة لكتاب كبار من أمثال بورخيس وماركيز ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وغيرهم. و"القارئ البغدادي" بدورها تضع اسم كاتبها جبار ياسين جنباً الى جنب الأسماء الكبيرة التي أعطت القصة القصيرة نكهتها ومذاقها ومبرر وجودها. ومع أنها تشتمل على ثماني قصص مختلفة المشاهد والأبعاد، فإن قارئها إذ يفرغ من القراءة يشعر انه ازاء رواية مضمرة بثمانية فصول وأن مهمته كقارئ أن يتابع ذلك الخيط الخفي الذي يجمع أجزاء القصص ويوحد مسارها الغامض. لم يكن من قبيل المصادفة تبعاً لذلك أن يعطي ياسين لقصته الأولى عنوان "القارئ البغدادي" وأن يسحب هذا العنوان على المجموعة برمتها. ولا من قبيل المصادفة أيضاً أن يستهل القصة بذلك المقطع المؤثر الذي أورده المؤرخون عن سقوط بغداد على يد المغول عام 1258 م وعن اصطباغ مياه دجلة بلون الحبر وتحويل أكوام الكتب التي أغرقت في النهر الى جسر يوصل بين ضفتيه. على أن المؤلف لا يتخذ من ذلك الحدث المروع منصة للتفجع أو الوعظ والتبشير بقدر ما يتخذ منه حيلة مناسبة للوقوف على التباس الكتابة وعلاقتها مع الحياة أو التاريخ. فالمؤلف الذي يلبس قناع الراوي يقوده ضوء القمر البغدادي الى مبنى غامض مملوء بالكتب التي لا تنتهي غرفها ورفوفها وأروقتها. وهو حين يقابل الشيخ الهرم ذا اللحية البيضاء لا يرى في الكتاب الضخم المفتوح أمامه سوى صفحات بيض خالية من الأسطر والكلمات. وحين يسأل الشيخ عن سر الكتاب الممحو او الناصع البياض يجيبه الأخير قائلاً: "انه فارغ تماماً من الكلمات. لكن هذا شيء غير مهم. وما هو مهم حقاً هو قراءته". هكذا تتحول القصة، كما الكتابة برمتها، عند جبار ياسين الى غابة من الرموز والاشارات المتصلة بالحضارة كما بالكتابة والقراءة وحياة الانسان. كل كتابة بهذا المعنى هي نوع من المحو وكل قراءة هي نوع من إعادة التأليف. وما فعله المغول قبل سبعة قرون ونصف القرن لم يكن سوى تسييل مجازي للكلمات التي ينبغي أن نعيد تأليفها في داخلنا الى ما لا نهاية في ما يشبه الطلاسم المتناسل بعضها من بعض. قال الشيخ للراوي الشاب إنه ينتظره منذ زمن بعيد لا ليشيخ مثله تحت وطأة القراءة العقيمة والمملوءة بالكذب والتعسف، بل لكي يعيد رسم الكلمات وفقاً لمنظوره ورؤاه، بما يذكرنا بنظرة بورخيس الى الكتابة التي تراوح بين المتاهة والتكرار. يشكل العبث بالزمن أساساً في لعبة الكتابة عند جبار ياسين. فالحياة عنده مبنى بلا أبواب أو بأبواب مفتوحة تتيح للريح التي تهب أن تشرع الماضي على الحاضر والحاضر على المستقبل أو العكس. فالشيخ في "القارئ البغدادي" هو ماضي الراوي ومستقبله في آن. وهو في القصة الثانية "كشكانو" ينتظره في شقة منفاه، في بواتييه الفرنسية، كما انتظره في القصة الأولى داخل المبنى البغدادي المكتظ بالكتب. هنا أيضاً تختلط الملامح بين بواتييه وبغداد وبين الشيخ والراوي وبين الذاكرة والنسيان بما تختزله اللوحة الوحيدة المعلقة في منزل الراوي والتي تصور رجلاً واقفاً على شرفة مبهمة فيما النور الغامر المسلط عليه يحجب كل ملامح وجهه. فالنور الذي يبعث على الجريمة في "غريب" ألبير كامو هو الذي يجعل بطل جبار ياسين واقفاً على شفير العمى الكامل واختلاط الهوية: "لقد اختلط الأمر على الرسام بسبب النور. ماضي هذا الرجل في ذاكرته، ومستقبله في خوفه مما يرى. لديه كل شيء في لحظة مثل هذه، لكنه بلا قسمات. لم يستطع الشيخ هذه المرة أيضاً أن يقود الراوي الى الجسر الأخير الموصل الى غايته. لكنه تلفظ قبل أن يموت بكلمة "كشكانو" التي تعني عند البابليين القدماء "شجرة الحياة المزروعة عند التقاء النهرين" والتي ليست سوى المعادل الرمزي لعودته المتعذرة الى بغداد. تتعقب القصة الثالثة "على آثار الذئاب" خطى القصة التي سبقتها من حيث اعتمادها على المشاكلة بين الأزمنة والأماكن والحيوات. فالشاب الذي يلتقي به الراوي في عزلته لم يكن سوى الراوي نفسه وهو يرى عمره وملامحه المنشطرين بين نهر بواتييه ونهر دجلة. ففي المدن كافة التي سكنها الراوي "كان ثمة نهر دائماً وآثار ذئاب". وإذا كان الطغاة هم الذئاب الذين يحولون الأوطان الى منافٍ والحياة الى أطلال والهوية الى شظايا، فإن الأنهار من جانبها تعرف كيف تُري الناس صورة أنفسهم وتعصمهم من التشتت والضياع. وفي القصة الرابعة "خرافة" تلعب الأحجار دور الأنهار وتحل المادة الصلبة محل الماء حيث يستهل المؤلف قصته برواية القزويني عن "جبل في ديار كرمان. من أخذ منه حجراً وشقَّه نصفين يرى في داخله صورة آدمي جالساً أو قائماً". ثمة نوع من الحلولية الكاملة بين البشر والأحجار الكريمة في هذه القصة حيث تعيش روحا الأختان الفقيرتان كل في حجر، وحيث يتحول الموت حين يجيء الى ثلم عميق في كلا الحجرين. وعلى غرار "اسم الوردة" لأمبرتو ايكو تنبني القصة الخامسة "آخر ملوك اليهود" على الحروف الملغزة لكتاب قديم يعثر عليه الراوي في أحد الأديرة ويعثر من خلاله على روايات ثلاث لمصير السيد المسيح قبل أن يقع الكتاب برمته فريسة للنيران. يعمل جبار ياسين في قصته السادسة "حامل الهوى" على إماطة اللثام عن لغز الشعر العظيم والمتفرد لأبي نواس الذي يطلب اليه استاذه خلف الأحمر أن يحفظ ألف بيت من الشعر قبل أن يعود ويطلب اليه نسيانها بالكامل. وعلى مدار القصة بأكملها يحاول الحسن بن هانئ عبثاً ان يتخلص من ثقل محفوظاته الشعرية الى أن تغيم ذاكرته في النهاية ويتحول العالم عنده الى هيولى أولية من رفيف أجنحة وخرير ماء. وهو لا يعود الى الشعر الا من ذلك الابهام المضفور بالنسيان والسديم وقصاصات الكلمات. وفي القصتين الأخيرتين نقف بذهول أمام ذلك الشخص الذي يتعرف الى نفسه عبر شاهدة قبره أمام اختلاط العمى بالبصيرة في مدينة الحلم التي تدفع ابن رشد الى استشعار بورخيس في لحظة من لحظات التجلي. لقد استطاع جبار ياسين عبر مجموعته "القارئ البغدادي" أن يعيد للقصة العربية القصيرة الكثير من ألقها وزخمها المفقودين. ليس غريباً بعد ذلك ان تترجم مجموعته تلك الى لغات عالمية عدة، بينها الفرنسية والايطالية، بل هو يستحق ذلك بامتياز لما يتوافر في كتابته من قدرة مدهشة على مزج الحقيقي والمتخيل والواقعي بالخرافي والمباغت. وبقدر ما تخرج هذه الكتابة من كنف الشرق وكنوزه التخييلية المتمثلة في كتب السير والتاريخ وأساطير الأقدمين، فإنها تفيد الى أبعد الحدود من المخزون الثقافي الغربي والعالمي من دون أن تكرره أو تحاكيه. انها صورة العراقي الحقيقي وهو يحول اللغة الى منازلة ضارية بين التذكر والنسيان متسلحاً ضد الطغاة بكل ما اختزنه تراب العراق من ملاحم ورؤى وأساطير.