هل يمكن ان نحاول الذهاب ولو خطوة صغيرة، بعيداً من النواح الذي تحمله ارقام السنة الثانية والعشرين من جائحة الايدز العالمية. انظر المربع ارقام الايدز. واول ما يلفت في الارقام الواقع المرعب الذي يقول بتحول آسيا وشرق اوروبا بؤرة جديدة لمرض الايدز وفيروسه. وفي مقال سابق في هذه الصفحة، ذُكر ان هذا الانتقال ربما يقود الى ازمة عالمية، لان الفيروس سيخرج من دول يعاملها العالم باهمال إلى مناطق هي في القلب من العالم انظر "الحياة" بتاريخ 11 آب اغسطس 2003، صفحة علوم وتكنولوجيا. "لعبة" الايدز والمصالح الدولية ومن وقائع الايدز القاسية اثباته ان الانسانية باتت لا تتأثر الا بالمصالح. وقبل اشهر قليلة، تحدث مقال في مجلة "فورين افيرز"، وهي من مجلات النخبة الأميركية، عن هذه القسوة المفرطة. وأورد المقال بطريقة صريحة ان الاهتمام العالمي بالايدز انحسر لأن الوباء تركز في دول ما تحت الصحراء الافريقية. واستطرد ليقول ان تلك الدول لا تسهم في الميزان الدولي عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، الا بمقدار ضئيل. ولاحظ ان انتقال الايدز إلى شرق اوروبا وآسيا، وخصوصاً الصينوالهند واندونيسيا وروسيا، سيفرض تعاملاً عالمياً مختلفاً معه. وبرَّر ذلك بالاهمية الاستراتيجية التي تملكها دول بؤرة الايدز الجديدة. ومثلاً، فان دول شرق اوروبا هي من دول النمو المهمة للاقتصاد العالمي كله. ومن الواضح انها موضع تنازع قوي بين اميركا والسوق الاوروبية المشتركة. وتشمل قائمتها بلداً مثل روسيا التي تمتلك اسلحة ذرية ونفوذاً عالمياً، وتُمسك بجزء كبير من طاقة العالم في النفط والغاز. ولعل متابعة التغيير السياسي الاخير في جيورجيا تعطي فكرة عن الرهانات العميقة عالمياً على تلك الدول. وفي آسيا، تمسك دول مثل الهندوالصين وأندونيسيا بجزء اساسي من اقتصاد العالم. ومن البديهي القول ان اضافة الصين الهائلة في عدد السكان والاقتصاد والعسكر والقوة النووية الى قائمة الايدز، يعطي مؤشراً عن الخطر المحدق الذي يمثله الانتشار المتزايد للفيروس في آسيا وشرق اوروبا. وتردد رأي مشابه في منتدى اكاديمي عقد في جامعة كولومبيا قبل اسابيع، عن الاعلام الاميركي في افريقيا. ولفت بعض المتحدثين فيه الانظار الى الفارق بين تغطية وبائي الايدز والملاريا. وأشير الى حقيقة ان الايدز يصيب الجميع، بيضاً وسوداً. أما الملاريا فإنها تقتل مليون شخص سنوياً في دول جنوب الصحراء الكبرى في افريقيا، وهي شبه محصورة في العالم الثالث وفقرائه. وفي العام الماضي قدمت صحيفتا "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" ملفاً مشتركاً عن أفريقيا، احتوى 89 مقالاً، خُصص 12 منها للايدز و63 للصراعات المسلحة. ولم يتحدث أي مقال عن الملاريا!. ومن اللافت ان الصحف الاميركية الكبرى لا تملك عدداً كافياً من المراسلين في افريقيا. ومثلاً تمتلك "واشنطن بوست" مكتبين في افريقيا كلها، في حين تملك "نيويورك تايمز" ثلاثة مكاتب! وفسر المنتدى الامر على انه تعبير عن وقائع السياسة بل عن العنصرية. ومجدداً، لا تبدو أحداث القارة السمراء مهمة في أعين صناع السياسة الذين يعطون أهمية اكبر بكثير لمجريات الأحداث في افغانستان والعراق والشرق الاوسط وغيرها. وخلص المنتدى الى القول ان افريقيا ليست جزءاً من النقاش السياسي اليومي في واشنطن. حملت ندوة جامعة كولومبيا عنواناً لا يخلو من طرافة مرة: "الاهمال غير المؤذي لافريقيا في الاعلام الاميركي"! ولا يبدو ان ارقام الايدز تؤيد مقولة غياب الاذى. الأدوية في مهب المفاوضات ويجدر تذكُّر الدرس الافريقي جيداً. فمع انتقال الايدز إلى بؤر جديدة، يجدر الحذر من بروز اشكال جديدة من الاهمال... غير المؤذي بالطبع! وراهناً، تلوح في الافق مقدمات الصراع المقبل. والحال ان موضوع ادوية الايدز يمكن ان يشكل نقطة متوترة. فقد استطاعت القوى المناهضة للعولمة، بالتعاون مع اصوات في الدول النامية خصوصاً الهند والبرازيل، فرض ما عرف باسم "المبدأ الانساني" على "منظمة التجارة العالمية". وبعد مناورات دامت سنوات، تخلت الشركات العملاقة عن ذريعة حقوق الملكية الفكرية بالنسبة إلى ادوية الايدز. وفي مؤتمر منظمة التجارة في الدوحة، اُقِرَّ حق الدول التي تواجه الايدز كخطر داهم، في انتاج ادوية رخيصة هي تقليد ونسخ للأدوية الأصلية التي تنتجها الشركات الغربية الكبرى. وفي مؤتمر المنظمة عينها في مدينة كانكون في المكسيك، خطت هذه المسألة خطوة اكبر إلى الامام. وتكرَّس هذا الحق. ولكن كانكون فشل. وتسير الامور نحو عقد لقاء جديد في جنيف منتصف الشهر الجاري. هل ستكرس جنيف حق انتاج ادوية الايدز الرخيصة ام تعود الشركات الى المطالبة بربطها بجدول زمني او بشروط اكثر تقييداً؟ وكيف سيكون الامر اذا انفجرت عدوى الايدز في آسيا وشرق اوروبا، كما يتوقع كثير من الخبراء؟ هل ستقبل الشركات بفقدان هذا السوق الاساسي بالنسبة لها؟ ليس من المبكر ابداً التفكير في هذه الامور. على الأقل هذا بعض ما تقوله الاثنتان وعشرون سنة من الوباء. العرب بين النواح ووصمة الجنس مع استفحال الايدز في افريقيا وشروعه في الانتقال إلى آسيا وشرق اوروبا، يبدو الوطن العربي محاصراً بالايدز. والحال ان ارقام الايدز المُسَجَّلة في الدول العربية ارتفعت خلال السنوات الخمس الماضية. وارجع تقرير صدر من "اقليم شرق المتوسط" في منظمة الصحة العالمية السنة الماضية الامر الى تحسُّن وسائل التقصي من جهة، وميل السلطات الرسمية إلى الحديث بصراحة اكبر عن المرض من جهة ثانية. ويصل بنا الامر فوراً إلى الحديث عن الوصمة التي تضعها الثقافة السائدة عربياً على الايدز والاصابة به. تقود الوصمة إلى تمييز قوي ضد المرضى. وتبدو عبارة مثل "حقوق المصاب بالايدز" وكأنها آتية من اعماق الفضاء. فالمصاب بالايدز مرفوض تماماً. وبدل رفض المرض، فان المصاب به هو الذي يُصاب بالنبذ. صحيح ان "منظمة الصحة العالمية" تجعل من "محاربة الوصمة والتمييز" شعار الحملة العالمية لهذه السنة. ولكن كيف يمكن التصدي لاشياء هي في القلب من الثقافة السائدة؟ ومثلاً، يسهل القول ان الايدز من الامراض المنتقلة من طريق الجنس، فهل الجنس هو مجرد كلمة في الثقافة العربية؟ الا تحمل هذه الكلمة معها محرمات ومكبوتات ونوازع يطول شرحها؟ هل ان المرض الذي يرتبط بالجنس يبقى مجرد شأن طبي ام انه يصبح جزءاً من مسألة القيم الاجتماعية السائدة؟ في العالم العربي ثمة امثلة كثيرة من هذا التعقيد. ويمكن الرجوع إلى نموذج السفلس في هذا المجال. لكنه أمر لا يتسع له هذا المقال.