استنتاج سمعته ألف مرة يتكرر سنة بعد الأخرى، قاله لي باحثون وأكاديميون، مدافعون عن حقوق الانسان وصحافيون: اذا أردت الدفاع عن القضية الفلسطينية، أو اية قضية عربية اخرى، امام حضور لم يكوّن بعد فكرته حول الموضوع، أو أمام عدسة تلفزيون، فمن الأفضل ان تدعو اسرائىلياً يسارياً، أو باحثاً عربياً عوضاً من ان تلجأ "للمثقف العربي" لكي يشرح القضية. غالباً هناك "كوكتيل" مدمر في خطابه: جرعة من "الأنا" المتغطرسة، وجرعة من تذنيب الآخر في شكل سمج، وجرعة من عنصرية الضحية واخرى من عداء لليهود بما فيه أحياناً من اعتماد على كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون". والنتيجة لا تفاجئ: نفور الحضور وحيرتهم أمام ضحية تتكلم كسفّاح... عُقدت في بداية هذا الاسبوع، ندوة في باريس حول حرب العراق والتغطية الاعلامية لها. مراسلة Chanel4 خصصت مداخلتها للتساؤلات عن مهنة الصحافة زمن الحرب. هل استطاعت تفادي الرقابة والرقابة الذاتية؟ ما هي التنازلات التي أُجبرت على تقديمها، تارة أمام نظام صدام حسين وأعوانه، وطوراً أمام الجيش الأميركي، لكي تبقى في بغداد تقوم بعملها الصحافي، وهل هذه التنازلات أعاقت مهمتها؟ هل إخفاء بعض الحقائق، كجزء من التنازلات، ساهم في تضليل الرأي العام الغربي؟ وما العمل أمام سلطات، عراقية كانت أم أميركية، تريد تقييد حرية الاعلام؟ تساؤلات طرحتها ايضاً كل من مراسلة محطة التلفزيون الفرنسي FR3، ومسؤولون عن تنظيمات لحقوق الانسان عايشوا هذه الحرب في العراق. وبعد هذه التساؤلات المهنية، جاءنا مراسل قناة "الجزيرة" القطرية. مداخلة من عالم آخر. فهو يجهل كلمة النقد الذاتي ومفهوم المهنية. العالم مقسوم بالنسبة له الى قسمين: العرب المسلمون أبناء العالم الثالث من جهة، وذوو الأعين الزرقاء من جهة أخرى. عبارة عنصرية رددها من يدعي انه ضحية العنصرية ثلاث مرات في مداخلة لم تتجاوز العشرين دقيقة. ممثل المحطة "العالم ثالثية"، التي ميزانيتها لا تحلم بها أكبر الشركات الاعلامية الأوروبية، كرّس وقته لتذنيب الغرب. فرّق بين الملايين التي كانت تحتج في شوارع المدن الغربية ضد الحرب، وسياسة جورج دبليو بوش ثم "فضح" لنا شخصية بوش الأصولية والحمقاء. وأمام جمهور غالبيته الساحقة معادية للادارة الأميركية، أوصلنا الى الاستنتاج الرحيب: أنه بين بوش وبن لادن، وجدانه يحثه على اختيار الثاني. لم يفكر لحظة قبل اختياره المصيري ان هناك رأياً عاماً أميركياً وانتخابات تجري كل اربع سنوات تمكّن من خلع الرئيس الأميركي، بينما لا يرد كل هذا مع بن لادن أو صدام حسين، ولا ترد الا الحروب المدمرة التي لا حد لها. كان من الأفضل لو تكلم الصحافي العربي عن النقاشات والتساؤلات التي كانت تطرح داخل المحطة. لماذا "ألصقت ب"الجزيرة" تهمة الانحياز الى النظام العراقي البائد؟ لماذا اعتبرها عدد كبير من العراقيين "صوت صدام"؟ كيف تمكنت محطة تمولها دولة قطر من ممارسة معاداة الولاياتالمتحدة في العراق، والتغاضي عن تواجد آلاف المارينز على الأراضي القطرية؟. أيام قليلة قبل انعقاد هذه الندوة، ظهر الاستقصاء الأوروبي الذي وضع اسرائىل على رأس قائمة الدول التي تشكل خطراً عالمياً على السلام. لماذا ينفر اليوم الأوروبيون من اسرائيل؟ لماذا غدا اليسار الأوروبي يعادي اسرائيل فيما اليمين المتطرف والأصولية المسيحية حليفاها؟ اسباب عدة ولكن من أهمها استراتيجية تذنيب الناس وتخوينهم. المزج بين معاداة الصهيونية والعداء العنصري للسامية. محاولة "استخلاص" ما هو وراء الكلام لاتهام الناقد السياسي بالعنصرية. هذا مع العلم ان عدداً من منتقدي اسرائىل أضحى فعلاً عنصرياً، والأمثلة التي ظهرت في الأسابيع الأخيرة في بعض التصاريح الألمانية تغذي البارانويا الاسرائىلية. لكن استراتيجية اسرائيل ومؤيديها في تذنيب الناس تأتي سلسة ذكية مشبعة بالنتائج المشرفة لدولة ما زالت فتية، أكان ذلك في المجال العلمي أو الصناعي أو الثقافي. ومع ذلك كله لم تعد تجدي هذه الاستراتيجية. فكيف بالعالم العربي وجلافته في تذنيب الآخر وصوره التي تنهل كلها من بؤر العنف والأصولية وعدم احترام حقوق المرأة والتخلف الثقافي والفشل الاقتصادي. نتيجة الاستقصاء الاسرائىلي التي أظهرت خطورة اسرائيل على السلام العالمي، قبل كوريا الشمالية، حجبت في شكل غير متوقع النتائج الاخرى، التي تشير الى أنه من بين الأربع عشرة دولة التي يعتبر الأوروبيون أنها تشكل خطراً على السلام، ثمانٍ عربية أو إسلامية... نتائج يصعب على "المثقف العربي" تفسيرها فقط بمنطق "الغرب العنصري"...