مرت خيارات المجتمع لأزياء النساء في الكويت ومنطقة الخليج بتقلبات خلال الخمسين سنة الأخيرة عكست تأثير التقلبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة. ففي الفترة التي سبقت رفاهية الريع النفطي، كانت العباءة التي تغطي الرأس الى القدمين، اضافة الى تغطية الوجه بالملاءة أو "البوشية" لباس النساء الشائع أو المقبول اجتماعياً لدى خروجهن من البيت. ومع نهاية الخمسينات احتفظت النساء الشابات بالعباءة وتخلت عن "البوشية" أي أنهن بدأن يكشفن وجوههن، وعند مدخل الستينات، والى منتصف السبعينات تخلت النساء الشابات عن العباءة وأصبحن يخرجن سافرات. وتميزت هذه الفترة بقبول اجتماعي عام لهذا السلوك. ويلاحظ انها نفس الفترة التي انتشر التعليم بها بين الفتيات والتي لم يقتصر فيها بتعلمهن على القراءة والكتابة بل امتد ليشمل التعليم العالي. والتحقت كثير من الفتيات في هذه الفترة بالجامعات في مصر والعراق وسورية وأوروبا. وبالتوازي مع التقلبات السياسية ومع بزوغ الصحوة الإسلامية في منتصف السبعينات التي وصلت الى أوجها في عقد الثمانينات انتشر الحجاب بشكل كبير بين الفتيات اللواتي هن في مقتبل العمر، وقد وجد الحجاب بيئة الجامعات المشبعة بفكر الصحوة الإسلامية أرضاً خصبة للانتشار. ومع تمايز التوجهات السياسية لتيارات الصحوة الإسلامية نتج عنه كذلك تمايز ملابس النساء. فبدا ان تيار الاخوان المسلمين اكتفى بالحجاب للمرأة لكن التيار السلفي رأى ان الحجاب لا يتماشى بالقدر الكافي مع رؤيته أو فهمه لحكم الدين في ملابس الناس، فاختار النقاب غطاء لوجه المرأة اضافة الى العباءة من الرأس الى أسفل القدمين. وتغلغل تيار الصحوة الإسلامية بين الفتيات أكثر منه عند النساء المتقدمات في السن، بحيث أصبح من الشائع أن تشاهد الفتاة المحجبة أو المنقبة مع والدتها السافرة. وهي حالة معكوسة لفترة الستينات عندما كانت تشاهد الأم التي تلبس العباءة وتغطي وجهها بالبوشية أو الملاءة برفقة ابنتها السافرة. ان موضوع ملابس المرأة وحشمتها موضوع تهتم فيه جميع الأديان ويشكل بعداً مهماً في القيم الاجتماعية، لكنه لدى العرب والمسلمين يشكل بعداً أكبر يتحول أحياناً الى ثقل والى عذابات نفسية أحياناً أخرى. وقد تطرق مفتي الديار المصرية الجديد، الدكتور علي جمعة في لقاء مع "الحياة" المنشور بتاريخ 31/10/2003 الى موضوع ملابس النساء عندما سئل عن النقاب. فذكر ان الزي الشرعي "هو أي زي لا يصف مفاتن الجسد ولا يشف ويستر الجسد كله ما عدا الوجه والكفين". وحول النقاب ذكر ان بعض الفقهاء يرى أن تستر المرأة وجهها لحديث عائشة رضي الله عنها التي تذكر فيه أنهن كن يسدلن على وجوههن إذا قابلن الرجال، ويختلف مفتي الديار المصرية مع هؤلاء الفقهاء ويتساءل كيف يتصور ان يعتبر الوجه والكفان من المرأة عورة مع الاتفاق على كشفهما في الصلاة ووجوب كشفهما في الاحرام. لكنه يتراجع في نفس جوابه ويقول: "غير انه يجب للمرأة الفاتنة ستر وجهها إذا تحققت الفتنة من كشفه فقد لا يمتثل البعض قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم". ولا شك في أن رأي المفتي هذا حول ستر الوجه عندما تتحقق الفتنة، يشكل فوضى ذهنية وربما عدم استقرار نفسي لكثير من النساء المسلمات خاصة اللواتي يعتمدن في تحديد ملبسهن وسلوكهن على أجوبة رجال لا دين. كما ان القارئ في شكل عام والمتمعن في شكل خاص لا بد أن تدور في ذهنه التساؤلات الآتية: 1 - كيف تتعرف المرأة ان كانت هي فاتنة أم لا؟ وهل مصدر الفتنة هو الجمال فقط أم عوامل أخرى؟ وهل يمكن أن تكون المرأة جميلة غير فاتنة؟ 2 - بافتراض تطابق أسباب الجمال بأسباب الفتنة، والتزام النساء الفاتنات بالنقاب، ألن يكون ذلك عزلاً وتحديداً لهن يضاعف في ايقاع الفتنة. فالفتنة في العقل، وتأكيد وجود امرأة متميزة الجمال تحت غطاء أسود قد يكون مثيراً لدى بعض الرجال. 3 - الفتنة كفعل تحدث في عقل الرجال، ولن تتطابق آراؤهم لما يسبب الفتنة. لذا فإن الرجال سيختلفون حول أي نوع من النساء يكون سبباً للفتنة. 4 - هل تمتع المرأة بجمال مميز أمر مكروه أو جرم يتوجب عليها أن تعذب نفسها عليها أو أن تخفيه لأن بعض الرجال لا يستطيعون ان يغضوا النظر التزاماً بالآية الكريمة. والفتنة وفقاً "لمختار الصحاح" هي الاختبار والامتحان. فعندما يفتن الذهب يدخل النار لينظر في جودته. وفي قوله تعالى: "ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات" أي حرقوهم. إلا أن الأقرب لمعنى الفتنة لموضوعنا بأنه عندما يفتتن الرجل، يصاب بفتنة فيذهب ماله أو عقله أو كلاهما. لذا فإنه مع ان المرأة أو جمالها قد تكون عاملاً مساعداً، إلا ان مصدر الفتنة هو الرجل عندما يفشل عقله بالتحكم بسلوكياته. كما ان ملاحقة المرأة كسبب أو كعامل محرض لاحداث الفتنة والتي تؤدي الى تفريغ عقل وجيب الرجل انحسر وبدأ يتلاشى بعد تغير الأدوار الاجتماعية لكل من الرجل والمرأة. فقد كانت المرأة ساكنة وسلبية وضعيفة في مجتمعات تعتمد على الغزو والعنف للوصول الى السلطة أو المال. لذا كان اغراء المرأة للرجل أو احداث الفتنة في ذهنه وعواطفه بديلاً سهلاً عن مسار العنف لوصولها الى غايتها. وبعد تغير الأحوال بتغير وسائل نيل السلطة والمال، لم تعد امرأة ساكنة معتمدة على زرع الحبائل للامساك بمال وعقل الرجل. وأصبحت هي نفسها مصدراً للمال والسلطة بعد ان اندرجت في قوى الانتاج واعتمدت على نفسها في كسب رزقها وامتد دورها ليكون موازياً لدور الرجل على مستوى العائلة أو المجتمع. والتحدي الفردي والاجتماعي ليس أن تتعلم المرأة التزام الحشمة في زيها فقط، انما كذلك كيف يتعلم الرجل أن يرتقي بنفسه ويعمل على كبح جماح الفتنة في عقله. وليس المقصود هنا تغيير الطبيعة الإنسانية التي من مظاهرها اعجاب الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وانما تحويل السلوك العدواني الى طاقة فردية واجتماعية بناءة. والى سلوك يعبر عن الارتقاء الإنساني. فإذا اعتبرنا ان الافتتان سلوك سيئ ينم عن عدم القدرة على التحكم بالغرائز، فإن الارتقاء والتحضر والتفوق مظاهر ناتجة من تحول جزء لا بأس به من الطاقة الغريزية الى إبداع. فكثير من الشعر الجميل الذي أثرى الحضارة الإنسانية كان ناتجاً من تطويع هذا الافتتان وتحويله الى عمل ابداعي. وتحويل هذه الطاقة الغريزية لا يقتصر على أن يوجه هذا العمل أو الابداع نحو المرأة، فلا يتوقع من جميع الرجال أن يكونوا شعراء، انما الى عمل يستمتع الفرد بأدائه ويشعر بتحقيق ذاته عند اتمامه. قد يكون عملاً بسيطاً نسبياً، وقد يكون عملاً بالغ التعقيد. لذا فإن العاطلين وغير المنتجين هم أكثر تعرضاً لهذه الفتنة. فالإنسان المتمكن من التعرف على إنسانيته وقدراته وحدوده يستطيع تحويل هذه الطاقة الغريزية التي هي نفسها قد تسبب الافتتان الى طاقة خلاقة. فالحضارة الإنسانية وما أنتجته من آداب وفنون وعلوم ما هي الى نتيجة لتطويع وتحويل غرائزية الإنسان الى طاقة بناءة مكنته من تطويع الطبيعة لخدمته. فمنع الفتنة وافتتان الرجال بالنساء بتحويل بعض من الغرائز والطاقة العقلية للانتاج والابداع هو مشروع الإنسان على هذه الأرض والذي يتطلب أكثر من الحجاب والنقاب. هناك متطلبات دينية واجتماعية لزي النساء والرجال يتوخى فيها الحشمة، وعند اختيار زي النساء يؤخذ في الاعتبار عدم تشجيعه افتتان الرجال. هذا ولا شك في ان متطلبات الحشمة في زي النساء لتحقيق الحد الأدنى لتأمين عدم الافتتان يعتمد في شكل كبير على درجة ارتقاء الرجال. لذا فإنه يتوقع أن يكون هناك مرونة نسبية في زي النساء مقابلة للتغير في مدى مقاومة الرجل للافتتان. حيث أن درجة الافتتان تختلف باختلاف البيئات الاجتماعية التي نشأ فيها هؤلاء الرجال. فالكبت والحرمان من رؤية المرأة يزيد من حساسية أو استجابة الرجال للافتتان. فقد يفتتن رجل نشأ في هذا النوع من البيئة بكعب قدم المرأة عندما يكون مجمل جسمها مغطى بالسواد. كما ان هناك علاقة عكسية بين الأمن الاجتماعي واحتمال الافتتان. ففي حالات انعدام الأمن وتدهور الحياة يزيد احتمال تحول الطاقة الإنسانية الغريزية الى عدوانية وهمجية، أو بمعنى آخر يسهل افتتان الرجال في هذا النوع من الوضع الاجتماعي. لذا يلاحظ في المجتمعات التي تعاني من الحروب والفوضى تأخذ النساء الحيطة أكثر في ملبسها حيث تغطي شعورهن وبعضهن وجوههن ان كانوا مسلمات أو غير مسلمات. لكن تظل الحروب حالات استثنائية. لذا فإنه في حالة تحقق الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي يتوقع أن يكون الزي النسائي الذي يوفر الحشمة المطلوبة التي انتشرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة يذكرنا بانعدام الأمن والأمان على رغم الرفاهية التي نعيش فيها. فهل يعكس ذلك حالة من عدم الاطمئنان أو غربة عن حضارة مادية توافرت لنا في شكل متسارع لم نشارك فعلاً في تطويرها. * كاتب كويتي.