أمير حائل يرعى حفل التخرّج الموحد للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع مجلس أمراء الأفواج    أمريكا: العودة لرفع الفائدة.. سيناريو محتمل    «الضريبة علينا» على مدى شهر كامل في جدة    رونالدو.. الهداف «التاريخي» للدوري    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    الأمن العام: لا حج بتأشيرة الزيارة    أمير تبوك يطلع على استعدادات جائزة التفوق العلمي والتميز    5 أعراض يمكن أن تكون مؤشرات لمرض السرطان    تحذير لدون ال18: القهوة ومشروبات الطاقة تؤثر على أدمغتكم    هذه الألوان جاذبة للبعوض.. تجنبها في ملابسك    إعادة انتخاب المملكة لمنصب نائب رئيس مجلس محافظي مجلس البحوث العالمي    مؤتمر بروكسل وجمود الملف السوري    الإسراع في بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد    تتويج الفائزين بجوائز التصوير البيئي    القيادة تهنئ رئيسي أذربيجان وإثيوبيا    اكتمال وصول ملاكمي نزالات "5VS5" إلى الرياض    القادسية يُتوّج بدوري يلو .. ويعود لدوري روشن    كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة.. ريادة في التأهيل والتطوير    70 مليار دولار حجم سوق مستحضرات التجميل والعناية الشخصية الحلال    الملك يرأس جلسة مجلس الوزراء ويشكر أبناءه وبناته شعب المملكة على مشاعرهم الكريمة ودعواتهم الطيبة    بلدية الخبر تصدر 620 شهادة امتثال للمباني القائمة والجديدة    أمير الرياض ينوه بجهود "خيرات"    سعود بن نايف: الذكاء الاصطناعي قادم ونعول على المؤسسات التعليمية مواكبة التطور    هيئة تنظيم الإعلام: جاهزون لخدمة الإعلاميين في موسم الحج    «جائزة المدينة المنورة» تستعرض تجارب الجهات والأفراد الفائزين    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي اليوم    مكتب تواصل المتحدثين الرسميين!    هؤلاء ممثلون حقيقيون    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    الهلال الاحمر يكمل استعداداته لخدمة ضيوف الرحمن    «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية»: بلوغ نسبة مبادرات رؤية 2030 المكتملة والتي تسير على المسار الصحيح 87%    المملكة تدين مواصلة «الاحتلال» مجازر الإبادة بحق الفلسطينيين    رفح تحت القصف.. إبادة بلا هوادة    ولاء وتلاحم    وزارة البيئة والمياه والزراعة.. إلى أين؟    ضبط 4,77 ملايين قرص من مادة الإمفيتامين المخدر    أسرة الحكمي تتلقى التعازي في محمد    وزير الحرس الوطني يرأس الاجتماع الثاني لمجلس أمراء الأفواج للعام 1445ه    بطاقات نسك    إرتباط الفقر بمعدل الجريمة    تواجد كبير ل" روشن" في يورو2024    في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي.. أولمبياكوس يتسلح بعامل الأرض أمام فيورنتينا    العروبة.. فخر الجوف لدوري روشن    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية    اختتام معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز    أخضر الصم يشارك في النسخة الثانية من البطولة العالمية لكرة القدم للصالات    مثمنًا مواقفها ومبادراتها لتعزيز التضامن.. «البرلماني العربي» يشيد بدعم المملكة لقضايا الأمة    أمريكي يعثر على جسم فضائي في منزله    «أوريو».. دب برّي يسرق الحلويات    القارة الأفريقية تحتفل بالذكرى ال 61 ليوم إفريقيا    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    دعاهم للتوقف عن استخدام "العدسات".. استشاري للحجاج: احفظوا «قطرات العيون» بعيداً عن حرارة الطقس    عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في نجران    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    ملك ماليزيا: السعودية متميزة وفريدة في خدمة ضيوف الرحمن    إخلاص وتميز    ولادة 3 وعول في منطقة مشروع قمم السودة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستقطاب الإثني والديني الناتج عن المشروع الصهيوني ومخطط الحداثة الانتدابية . أسوار القدس الحقيقية والمتخيلة جداراً للفصل العنصري
نشر في الحياة يوم 29 - 11 - 2003

ترتبط حداثة القدس في المخيلة العامة وفي صيرورة انتقال سكانها خلال القرن الماضي من داخل أسوار البلدة القديمة المدينة المقدسة إلى أحيائها الخضر في غرب المدينة وشمالها. وليس غريباً أن تتخذ هذه الحداثة، والحريات الاجتماعية المرافقة لها، وجهين: هروب من قوقعة الغيتو الاجتماعية، وهروب من هيمنة الطقوس الدينية المرافقة لها. المقال التالي يحاول استعراض سمات النمو الحداثي للقدس العثمانية والانتدابية، واحتمالات الانعتاق الفكري والاجتماعي الذي رافق هذا النمو، كما يتعرض للانعطاف الذي أصاب هذا الانعتاق نتيجة عملية الاستقطاب الإثني والديني الناتج عن المشروع الصهيوني ومخطط الحداثة الانتدابية. ومن خلال هذا الانعطاف أصبحت أسوار المدينة التي أعاد بناءها السلطان سليمان القانوني بهدف الحماية أصبحت جدارات عازلة تقسم حيز المدينة بحسب القومية والدين.
بعكس مكانتها القدسية، بقيت القدس في تاريخها الحديث مدينة طرفية هامشية في معظم امتداد الحقبة العثمانية. ولم تنهض فيها شريحة من الأشراف والعلماء المحليين إلا بعد عام 1839 عندما تحولت إلى متصرفية تابعة مباشرة للحكم السلطاني في الآستانة. وصار في الإمكان مقارنتها بمكانة دمشق وبيروت مركزي الولايات الشامية. وعلى رغم هذا التحول الإداري استمرت القدس في الحفاظ على سماتها كمدينة حجاج وخدمات دينية تابعة للحجيج.
ومع استتباب الأمن العثماني خارج أسوار المدينة القديمة، التي كانت تُغلق أبوابها التاريخية الضخمة عند غروب الشمس حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بدأت فئات من تجار المدينة ووجهائها بالانتقال بمساكنهم إلى قصور مستقلة في باب الساهرة والشيخ جرّاح وسعد وسعيد والمصرارة. وفي نهاية القرن نشطت الوقفيات الأرثوذكسية المسيحية والجمعيات الخيرية اليهودية في إنشاء مساكن للطبقات الوسطى في غرب المدينة: أولاً في البقعة، والنمامرة، ويمين موشيه، ومئة شعاريم، والمسكوبية المجمع الروسي الأرثوذكسي الذي تحول لاحقاً إلى المقر العسكري لسلطات الانتداب. كما تعاظمت هذه الحركة السكنية في الفترة الانتدابية وتم استقطاب أعداد كبيرة من موظفي الدولة والمهنيين في أحياء الطالبية والقطمون ورحابيا.
ولا شك في أن حداثة القدس هي حداثة إشكالية. ذلك أن نهاية عزلة المدينة - الغيتو أدت إلى تبلور نظام طائفي أكثر حدة في ملامحه من النسق الذي حل محله. إذ أدخل الاستعمار البريطاني حدوداً فاصلة للأحياء الدينية في البلدة القديمة على أنقاض المحلات جمع محلّة السابقة. وفيما كانت المدينة العثمانية تتميز بمزيج مهجن من المجموعات المذهبية والإثنية المتعايشة بوئام نسبي، والمتداخلة اجتماعياً، أصبحت القدس الانتدابية مدينة حارات مذهبية منفصلة، فاقترنت حياة المسيحيين المقدسيين بحارة النصارى، والمسلمين بما أصبح يعرف بحارة المسلمين وهو حيز لم يكن له وجود سابق، واليهود بحارة اليهود التي تشكلت من امتداد حارة "شرف" المختلطة. وحدهم الأرمن شكلوا استمراراً تاريخياً لمنطقتهم التي احتلوها منذ قرون عدة، وباختصار أصبحت مع هذا التحول الهوية الدينية متطابقة مع الحيّز السكني.
وفي هذا السياق برزت أهمية الانتقال إلى الأحياء الجديدة "البورجوازية" خارج البلدة المسورة كحركة تمرد ضد وصم مكان السكن للعائلة بدمغة انتماء طائفي لتلك العائلة. ومما زاد من حدة هذا الاستقطاب نجاح الحركة الصهيونية في استمالة أعداد كبيرة من التجمعات الدينية العبادية pietistic تحت جناح القومية الجديدة المتشكلة، مما عزز من ظاهرة تطابق الحس الديني والحس القومي في وجدانها.
ومع ذلك ظهرت أيضاً توجهات معاكسة لهذا التيار القومي - الديني. فالسمعة التاريخية للقدس كمدينة محافظة تقف كالسنديانة في مواجهة تيار الحداثة الآتي من ثقافة الساحل الفلسطيني والزاخر بالأفكار والأنماط السلوكية العلمانية هو تصور مبالغ فيه. فعلى رغم أن القاعدة الاقتصادية للقدس كانت ترتكز في الدرجة الأولى على خدمات الحج والوقفيات الدينية، إلا أنها تحولت في بدايات القرن العشرين إلى مركز مهم لشريحة حديثة من موظفي الدولة والجيش ومجموعات مهنية وتجارية جنّبتها المكانة الإدارية الجديدة للمدينة.
كما جلبت هذه التحولات نظاماً حديثاً في التعليم أسهم في إفراز نخبة إدارية كوسموبوليتانية تلقت تدربها في المدارس العثمانية النظامية الدستورية، والإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية، والسيمنارات جمع سمنار الروسية التي تبارت على كسب عقول السكان المحليين وأفئدتهم. أما الهجرات اليهودية الأولى فجلبت معها الصهيونية والاشتراكية البلشفية كما أوضح نجاتي صدقي في مذكراته.
كما نرى أن هناك وجهين للنهضة الثقافية في نهاية العهد العثماني: من ناحية اتخذت ظاهرة إحياء الاحتفالات الدينية وطقوسها شكل الانبعاث القومي الذي حوّل رموز الأولياء وأعيادهم إلى أبطالٍ قوميين، ونرى ذلك في مواسم النبي موسى والخضر مار جريس، والنبي روبين في يافا. ومن ناحية أخرى أدى انتشار تكنولوجيا المعرفة والاتصالات الحديثة الجريدة اليومية، الكهرباء، السيارة، وشبكة الطرق المعبدة إلى ترسيخ قاعدة ثقافة علمانية بدأت تدريجاً في إحلال نفسها مكان الطقوس الدينية.
ومن أهم مظاهر هذه الثقافة الجديدة كان نمو الأحياء البورجوازية الجديدة في غرب المدينة مرافقاً لآليات الانزواء أو التباعد الاجتماعي. ففي هذه الأحياء الجديدة، بعكس ما كان عليه الوضع في البلدة القديمة داخل السور، أصبح الوضع الاقتصادي للعائلة وليس الانتماء الطائفي، هو الذي يحدد مكان السكن. وبالمقارنة تحولت البلدة القديمة إلى مأوى لفقراء القدس الذين تعزز اعتمادهم على دعم الأديرة والأوقاف الدينية، والذين لم تسنح لهم ظروفهم للخروج من عالم الأسوار.
إلا أن الآلية الأساسية التي سمحت بتبلور الأجواء الانعتاقية الجديدة اتخذت شكل الانزوائية الاجتماعية التي سمحت للطبقات الاجتماعية الوسطى بالتعبير عن نمط حياتها الجديدة بغض النظر عن دينها أو مذاهبها. وتعرض الوجدان الشعبي لهذه الظاهرة في تلك الفترة بالتعبير الشعبي السليط: "شيئان يمران من دون ملاحظة الناس: موت الفقير وزنا الغني"! ونستطيع أن نعطي الفضل الأساس لهذه الانزوائية - أي الحماية الاجتماعية الناتجة عن الامتيازات الطبقية - أكثر بكثير من أسوار القصور العالية في السماح لوجهاء القدس وأغنيائها الجدد بأن يتجاهلوا الرقابة الاجتماعية التقليدية، وأن يفرضوا أخلاقياتهم الاجتماعية المستحدثة.
وتجلت هذه الأنماط السلوكية الجديدة في ثقافة الملاهي الليلية، و"الأودة" التي كان يمتلكها شباب العائلات الوجيهة من العازبين، وفي النوادي الاجتماعية والمقاهي الأدبية للمدينة. ولم تكن انتصرت حتى ذلك الحين اعتبارات الخصوصية التي سمحت بظهور هذه الأنماط المنعتقة، ذلك أن الخصوصية كانت لا تزال مبدأ قيمياً غير متجذّر، وإنما غياب قدرة الشارع والجمهور العام على التصدي للنخبة الاجتماعية بما يراه مقبولاً أو غير مقبول سلوكياً.
أما في مدن المشرق العربي الكبيرة وفي شق المتوسط فوفّرت المجهولية anonymity تلك البطانة الحامية والعازلة للسلوكيات المتحررة. وهذا ما نراه تدريجاً في دمشق والقاهرة والاسكندرية وإسطنبول. أما المدن الساحلية مثل إزمير ويافا وبيروت فتميزت بوجود طبقة تجارية كبيرة ومجموعات إثنية ارتبطت أنماط سلوكها بتوجهات أوروبية عزلتها عن الرقابة الجماهيرية. والأهم من ذلك أن مفهوم "الجماهير" كنسيج جماعي ضابط للقيم العامة المتعارف عليها ورادع للانحراف تحت شرعية الدين لم يكن تبلور إلا في العقد الرابع من القرن.
وفي كل الأحوال يجب عدم الخلط بين الحداثة العربية ووجود العنصر الأوروبي. ففي الكثير من مناطق المشرق العربي - كما هي الحال في تونس أيضاً - نجد أن الدولة أو الشرائح الميركانتيلية التجارية المحلية، وفي بعض الحالات شريحة من الأشراف، هم الذين شكلوا آلية إدخال الحداثة إلى مجتمعاتهم.
في بيت المقدس، تحديداً، لم يكن حجم الطبقات الوسطى ولا وجود الجاليات الأوروبية العامل الأهم في السلوكيات الجديدة. ففي مدينة مكونة من 70 ألف نسمة، وهو حجم القدس في مدار القرن، لا مجال لبروز حيّز المجهولية فيها. وحتى التجمعات الأوروبية كانت تكاد تنحصر بمجموعات تبشيرية مسيحية أو عبادية يهودية لا فرصة لأن تتجه في اتجاه الكوسموبوليتانية. وفي هذا المضمار لعبت الامتيازات الأرستقراطية لشريحة الأشراف المحليين والطبقة الوسطى الملحقة بهم الدور الرئيس في خلق هذا المناخ الثقافي الحداثي، وتم التعبير عن هذا المناخ من خلال النظام المدرسي والصحف اليومية والمسارح والنوادي والأحزاب ذات القاعدة العشائرية. والأهم من ذلك أن هذه الشريحة الحضرية كانت في طريقها لأن تصبح طبقة إقليمية على المستوى القومي، ترتبط طموحاتها ومصيرها بعلاقات عضوية مع مثيلاتها في يافا وحيفا ونابلس ودمشق وبيروت وطرابلس، إلى أن تصدت إليها قوى الثورة الداخلية في الثلاثينات وقضت عليها حرب فلسطين في الأربعينات.
وفي مقابل هذا المناخ الثقافي النخبوي نشاهد ثقافة الطقوس الدينية الشعبوية، التي حافظت على ممارسات تخطت الحدود الطبقية، وشبكت الحارات والمحلات في نسيجها الإحيائي. هذه الثقافة الشعبية تجلت في مواسم الأولياء وفي مسيرات الطرق الصوفية وفي ترانيم سبت النور الأرثوذكسية وفي القراءات العامة لفضائل القدس ذات الأصول السحيقة. وليس المراد هنا الإيحاء بأن الثقافة الأولى كانت عصرية فيما أصبحت الأخرى تقليدية، وإنما الإشارة إلى أن تيار الحداثة كان قومياً، وإن جاز التعبير، معولماً، فيما حافظ التيار الشعبوي على طابعه المحلي والحاراتي الذي ربط أحياء المدينة ببعضها وفصلها عن الاحتفالات الإقليمية للمدن المجاورة، وهذا الذي جعل من ثقافة القدس الشعبية ثقافة مقدسية محلية أكثر منها فلسطينية عامة.
أدب السير وتحول الوجدان المديني
ومن المثير رصد هذا التحول في الوجدان الحضري من خلال أدب السير والسير الذاتية، أي من خلال المعايشة الذاتية للحدث. وهنا نتحدث عن ثلاثة أنواع من الخطابات: المذكرات التي تدون في كهولة الكاتب والسيرة الذاتية ذات الهيكل السردي الأكثر تماسكاً واليوميات وهي أكثر هذه الأنماط حميمية ومباشرة لأنها في الغالب لا تدون للنشر. وتسمح لنا هذه الكتابات أن نعاين نمو أنماط سلوكية وقيمية جديدة، واضمحلال تقاليد وعصبيات تقليدية من خلال معايشتها لأفراد مقدسيين مبدعين في حقبتين أساسيتين من تاريخ المدينة المعاصر وهما تجاوز مرحلة اللامركزية العثمانية وبروز الكيانية الفلسطينية الإقليمية، أي المنفصلة عن بوتقتها في القومية العربية والقومية السورية.
إن المشكلة الرئيسية في هذا التصور هي أنها تتركنا في رحمة التجربة الذاتية للحداثة كما يرويها كُتاب مميزون اجتماعياً. فهم في الغالب رجال قلّة استثنائية منهم نساء تركوا لنا مذكرات ويوميات مدونة، وإن استطعنا أن نصل إلى معاصرين للحدث من أصول متواضعة من طريق التاريخ الشفوي فنرتطم بذاكرة انتقائية تُسقِط على الماضي رؤية الحاضر في شكل ارتجاعي. أما الجانب الإيجابي في هذا الأسلوب الاستقرائي فيقع في أنه يسمح باستيعاب تحولات المدينة الثقافية في إطارها الهيكلي ومن خلال التجربة الذاتية في الوقت نفسه.
وفي القدس خمسة نماذج سيرية تمكنا من الوصول إليها - وهناك الكثير غيرها - لأناس مرموقين ومتواضعين تضيء حياتهم حياة المدينة في القرن المنصرم:
- مسيرة سيد إقطاعي تخلى عن امتيازات الريف وأصبح من أعيان المدينة الشيخ عمر الصالح 1886 - 1956.
- حياة معلم وأديب طليعي كان رائداً في إدخال الثقافة العلمانية إلى مدارس فلسطين خليل السكاكيني 1887 - 1953.
- حياة زعيم اشتراكي أصبح ممثل الكومنترن في فلسطين ونيطت به مهمة تعريب الحزب الشيوعي الفلسطيني نجاتي صدقي.
- قصة طبيب في الجيش العثماني كرس حياته لدرس أوضاع الفلاحين والجذور التاريخية للشخصية الفلسطينية المعاصرة توفيق كنعان 1882 - 1964.
- السيرة الذاتية لموسيقار شعبي نشأ في حارة السعدية في البلدة القديمة وأصبح ضابطاً في البحرية العثمانية واصف جوهرية 1897 - 1972.
من الصعب تخيل خمس شخصيات مدنية أكثر تبايناً: الموسيقار الشعبي، الرائد التربوي، الشيخ الارستقراطي، الطبيب الإثنوغرافي، والناشط الشيوعي. الغريب في الأمر أنهم كانوا يتحركون في حيزات متقاطعة من فضاءات المدينة، فهم - باستثناء نجاتي صدقي المطارد من السلطة - كانوا على معرفة حميمة ببعضهم بعضاً، جمعتهم أخوة أصحاب الفكر والمقاهي الأدبية.
في كتاباتهم كشفوا لنا أسرار المدينة التي تظهر لنا اليوم بعد قرن من الزمان معاكسة لسمعتها المحافظة. مدينة تعج بالجدل الفكري والدينامية الثقافية، والغريب أن حيز الدين - في هذه المدينة المقدسة - لعب دوراً لا يكاد يذكر في جدالاتهم وخلافاتهم، ذلك أن قداسة المدينة شكلت الخلفية والارتداد المشهدي لحروب منتصف القرن والتي لم تخبُ جذوتها. الدين كان في الدرجة الأولى القاعدة الاقتصادية للمدينة. وفي هذه الفترة كان بكل بساطة مصدر الحياة اليومية للقسم الأكبر من سكان المدينة من أصحاب النزل والفنادق والمطاعم، والقائمين على الوقفيات والتكايا، والمدارس والزوايا الدينية، والحرف الدينية، والمصورين، وسائقي العربات، ومصنعي الشموع والبخور، وطابعي كتب الصلاة والعبادة، إلى آخره.
السير الخمسة التي يعرض لها تكشف إضافة إلى ذلك عوالم معاصرة متخيلة، تتميز باحتمالات متضاربة لما كان في الإمكان أن يحدث في مستقبلهم المنظور. وكما هو متوقع في مدينة متوسطة الحجم، التي كان في الإمكان أن تقطعها مشياً بالأقدام من طرف إلى طرف خلال ساعات ثلاث، أو على الحنطور أو العربة في أقل من ساعة، اشترك الخمسة في فضاءات الأنتلجنسيا المحلية المتجانسة، ومع ذلك تبنوا مواقف وأنماط حياة وتوجهات وأيديولوجيات وتوقعات متصارعة لا يمكن تخيل مزيجها في حاضرنا المعولم.
ومن الممكن تفسير هذا التباين والتضارب إلى سمة بسيطة وأساسية من ملامح الحداثة العربية في بداية عصرها. ذلك أن الهجرة من مقيدات الحياة داخل أسوار المدينة وآفاق الحراك الفكري الذي رافق الانتقال إلى أطراف المدينة وإلى خارجها يافا، اسطنبول، القاهرة، أوروبا والأميركتين أدت بدخول المثقف إلى فضاءات فكرية غير مرسومة. فاختار بعضهم أن يناضل في سبيل استقلال إقليم مألوف ويمكن التحكم بمصيره داخل تخوم الدولة العثمانية. واختار آخرون - مثل صدقي - طريق الثورة الاشتراكية التي نقلته إلى أجواء الحركة الجمهورية والحرب الأهلية في إسبانيا، ومنها إلى صفوف الأنتلجنسيا السورية واللبنانية. واختارت مجموعة ثالثة - مثل كنعان - أن تبحث عن طريق الخلاص في "روح الأمة" التي وجدها في الثقافة التراثية الفلاحية، وفي الجذور السابقة للوعي القومي في الرواية اليبوسية والتوراتية لأرض كنعان. ووجد فريق آخر مراده في تعزيز التلاحم والتواصل الحضاري بين مصر وبلاد الشام من خلال أرض فلسطين، وهي الرؤية التي اختارها لنفسه جوهرية. وخلافاً لهم جميعاً اختار خليل سكاكيني - المربي المتمرد على التقاليد - أن ينأى عن الفكر القومي برمته حين بدأت السلطات العثمانية ملاحقته نتيجة أفكاره العروبية فقال مشاكساً: "ما الذي تبغيه السلطات مني في سعيها لإبعادي عن القدس؟ لست مسيحياً ولا بوذياً ولا مسلماً ولا يهودياً. كما أنني لست عربياً ولا إنكليزياً ولا فرنسياً ولا ألمانياً ولا تركياً، بل أنا فرد من أفراد هذه الإنسانية".
ولعل السكاكيني كان الوحيد - بين أترابه المثقفين - في إعلان نفسه فوق الفكر القومي - بل فوق القومية - لكنه عاش وعمل في مناخ فكري سمح بالتعبير الحر عن هذه الأفكار وترعرعها. الجو السائد عند مدار القرن كان محملاً وحاملاً الإمكانات الفكرية التي أمّنت لهويات عدة متخيلة أن تظهر. فالدستورية العثمانية كانت في طريقها إلى الاختفاء، ولكن من كان سيرثها؟ القومية العربية أم السورية؟ الاشتراكية، الإصلاح الإسلامي أم الهوية الفلسطينية المحلية؟ كلّ هذه الانتماءات كانت مشروعة ومقبولة. وكان في إمكان المفكر المحلي أن يدافع عنها انتقائياً أو كل على حدة، وأن ينتقل من واحدة وينبذ الأخرى من دون أن يتهم بالخيانة أو النفاق.
الحرب وضياع المشهد الحضري
كان المشروع الانعتاقي في القدس قصير الحياة. وأسهمت الحرب والحركة الصهيونية في فرض قوالب القوقعة الفكرية والشرذمة الإقليمية في حربين دمويتين.
انتهت حرب فلسطين بإعادة رسم خطوط المدينة عمودياً حول المحور الشرقي والغربي للمدينة. وأصبحت الأسوار الجديدة الإسمنتية هي الحدود الإثنية والدينية والقومية. وتم طرد جميع الفلسطينيين العرب من دون استثناء من قراهم وضواحيهم في القدس الغربية إلى الجانب الأردني. كما طرد جميع اليهود المقيمين في حارة اليهود إلى الضواحي الغربية.
تقسيم المدينة الجديد لم يؤد فقط إلى تحطيم الوحدة الجسدية للمدينة وإلى القضاء على طابعها التعددي وإنما أيضاً إلى إنهاء تواصل المدينة وانفتاحها على ثقافة الساحل. حتى ذلك الحين كانت مدينتا يافا وحيفا تشكلان صمام الأمان الاجتماعي والمناخ الفكري المحفز للإبداع الثقافي في مدينة تهيمن عليها أيديولوجية الإقطاع الارستقراطي.
وخلال سنتين تم تهميش المدينة كلياً. انعكفت القدس إلى داخل ذاتها وتقوقعت وتحولت مدينة ثانية للعاصمة عمان. فيما كانت قبل الحرب عاصمة وطنية للبلاد ومركزاً إقليمياً للامتداد الحضري في الخليل وبيت لحم ورام الله، تتبوأها طبقة سياسية ذات تاريخ عريق أصبحت الآن مدينة مهاجرين ولاجئين. مهاجرون من تجار وعمال جبل الخليل الذين أصبحوا اليوم غالبية سكان المدينة، ولاجئون من القرى الغربية المهجرة، ومن مدن الرملة واللد ويافا المنكوبة.
وعندما "وحّد" الاحتلال الاسرائيلي العسكري المدينة وأزال أسوار المدينة الاسمنتية، استبدل بها أسواراً عازلة أكثر إحكاماً وقسوة، وخلق حزاماً من المستعمرات البشرية الاستيطانية تغلف المدينة من محيطها الشمالي والجنوبي والشرقي، ويفصلها عن تخومها العربية الريفية.
ومن تبقى من عرب المدينة تحت الإدارة الجديدة وجد نفسه معلقاً في مطهر دانتي. فهم مجموعة من البشر مقيمين في مدينتهم ولكنهم جردوا من المواطنة. وهم فلسطينيون لا يسمح لهم بالحصول على الجنسية الفلسطينية كما هي الحال بأهالي الضفة والقطاع.
بنى السلطان سليمان القانوني أسوار القدس على أنقاض جدرانها القديمة بغرض حمايتها من الغزو الأجنبي. وبقيت أبواب المدينة العملاقة تغلق عند المغيب لحماية سكانها من الخطر الخارجي، فأصبحت مع الزمن تمنع مواطنيها من الخروج في ساعات الليل. وهذا الالتباس له معنى فقط إذا نتج عن إجماع أهل المدينة على قبول الحماية، أما إذا سُلّطت يد السلطان على حرية الحراك فيصبح أداة لتحويل المدينة إلى سجن كبير.
ومن إنجازات الحداثة العثمانية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر فتح منافذ المدينة ليلاً ونهاراً وضمان الأمان والحرية لمن أرادها دخولاً وخروجاً. ومن نتائج هذا الضمان كان بناء الأحياء الجديدة للمدينة خارج السور، وانفتاح المدينة لعمالة وأسواق الأرياف المحيطة، واندماج القدس بالأسواق العالمية.
في كوسمولوجيا القرون الوسطى كانت القدس مركز العالم. وفي النصف الأول من القرن العشرين انطلقت لتتبوأ مكانة إقليمية جديدة عاصمة لفلسطين المتصرفية ثم فلسطين الانتدابية. وبين هذين المنعطفين تبلورت القدس إلى مدينة دنيوية، بعدما كانت مدينة السماء، حيث أفسحت مكانتها المخصصة للعبادة والحج والطقوس والمراسم الدينية إلى فضاء جديد اتسم بالثقافة الحضرية العلمانية ومبدأ المواطنة في بلد متعدد الجنسية.
وفي خلال قرن واحد قصير وصل هذا المشروع الانعتاقي إلى نهايته. أبواب المدينة ما زالت مفتوحة ولا تغلق عند المغيب، لكن هذا الانفتاح هو سراب وغشاء لأسوار جديدة أكثر إحكاماً وانغلاقاً من أسوار المدينة التاريخية. فهناك أسوار الإقامة القانونية التي تفصل حقوق المواطنين اليهود عن حقوق المواطنين العرب. وهناك أسوار النمو الديموغرافي والسكني للفلسطينيين التي تحدد بمرسوم حكومي سقف هذا النمو ب32 في المئة من مجمل سكان المدينة لا يجوز تجاوزها. وهناك أسوار الناطحات الاستيطانية التي عزلت المدينة العربية عن تخومها الريفية بواقع 19 مستعمرة محيطة بالمدينة. وهناك أسوار "المحاسيم" - الحواجز العسكرية - 68 منها تمنع العرب من دخول المدينة من دون تصريح عسكري يكاد يكون من المستحيل الحصول عليه.
والآن تشهد المدينة بناء السور العظيم - حائط الفصل العرقي - المكهرب والممغنط. اثنا عشر متراً من الباطون المسلح الذي يسد النفس ويمنع الهواء ويقطع الأرزاق. حيطان المدينة الجديدة الإسمنتية تحاكي أسوارها الحجرية وتهزأ بفظاعتها منها. تنقلنا إلى زمن نوستالجي عندما أنشئت هذه الأسوار لتحمي أهل المدينة من الغازي وتعزز تضامن أهلها من جميع الفئات والأديان. ثم نرتطم بجدران الحاضر فإذ بها حبل يلتف حول عنق المدينة لإزهاق روحها.
* أستاذ في جامعة بيرزيت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.