الجوازات تصدر 17.767 قرارا إداريا بحق مخالفين لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    محافظ رابغ يدشّن مبادرة زراعة 400 ألف شجرة مانجروف    فرنسا تندد بقرار أمريكا حظر منح تأشيرات دخول لمفوض أوروبي سابق    كوريا الجنوبية وأمريكا تبرمان اتفاقا جديدا للتعاون في مجال الغواصات النووية    السعودية تدين الهجوم الذي استهدف أفراد من الشرطة الباكستانية بمنطقة كاراك    مدينة جدة تتوج كأفضل منظم جديد في تاريخ سباقات الزوارق السريعة للفورمولا 1    أمير تبوك يواسي في وفاة الشيخ أحمد الخريصي    تعليم الطائف يطلق اللقاء التعريفي لبطولة «عقول» لمديري ومديرات المدارس    رئيس جامعة القصيم يرعى مؤتمر «الحرف اليدوية في عصر التحول الرقمي: فرص وتحديات»    جمعية أدبي الطائف تقيم أمسية أدبية منوعة احتفاء بيوم اللغة العربية العالمي    اندلاع حريق بموقع صناعي في تولا الروسية    الذهب يتجاوز 4500 دولار للأونصة    نائب أمير تبوك يؤدي صلاة الميت على الشيخ أحمد الخريصي    مصرع رئيس الأركان العامة للجيش الليبي في حادث تحطم طائرة بتركيا    الإدارة الذاتية: استمرار التوتر تهديد لاتفاق الشرع وعبدي.. ارتفاع قتلى قصف «قسد» في حلب    نائب أمير الشرقية يهنئ مدير تعليم الأحساء    سلطان عُمان يستعرض مع ابن فرحان المستجدات الإقليمية والدولية    جدة تستضيف نهائيات «نخبة» آسيا    نخبة آسيا.. بن زيما يقود الاتحاد لتجاوز ناساف    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    سلطان عُمان يستقبل سمو وزير الخارجية    أمير الباحة يطلع على مستجدات مشروعات المياه    موجز    إحباط تهريب 131 كلغم من القات    دلالات تاريخية    فلكية جدة: النجوم أكثر لمعاناً في فصل الشتاء    أقر القواعد الموحدة لتمكين ذوي الإعاقة بالخليج.. مجلس الوزراء: الموافقة على قواعد ومعايير أسماء المرافق العامة    اطلع على سير العمل في محكمة التنفيذ.. رئيس ديوان المظالم: تفعيل المبادرات الابتكارية في مفاصل «التنفيذ الإداري»    رعى «جائزة مدن للتميز»..الخريف: الصناعة السعودية ترتكز على الابتكار والاستثمارات النوعية    كاتس يكرس سياسة الأمر الواقع.. وحماس تؤكد أنه انتهاك فاضح.. إسرائيل باقية في غزة وتتوسع في الضفة    «الخوص والسعفيات».. تعزز ملامح الهوية المحلية    مشروعات «الشمالية» في جناح «واحة الأمن»    روح وريان    خربشات فكر    بين الكتب والخبز    مسجد القبلتين.. شاهد على التاريخ    استعراض إجراءات حماية عقارات الدولة أمام أمير الشمالية    «الشؤون الدينية» تعزز رسالة الحرمين    «فايزر» تعلن وفاة مريض بعد تلقيه دواء لعلاج سيولة الدم في تجربة    المنظار الأنفي.. تطور علاجي في استئصال الأورام    السعودية تستورد 436 ألف كيلو جرام ذهبا خلال 4 سنوات    في عامه ال100 أبو الشعوف يواصل الزراعة    3095 شخصا تعرضوا للاختناق ثلثهم في مكة    ساخا أبرد بقعة على الأرض    جدة تستضيف نهائيات دوري أبطال آسيا للنخبة 2026    الجولة 13 بدوري يلو.. الأنوار يستقبل الباطن والبكيرية يواجه العربي    كرات ثلج تحطم رقم Guinness    القيسي يناقش التراث الشفهي بثلوثية الحميد    الضحك يعزز صحة القلب والمناعة    المشروبات الساخنة خطر صامت    نجاح أول عملية للعمود الفقري بتقنية OLIF    فلتعل التحية إجلالا وإكبارا لرجال الأمن البواسل    أمير الجوف يرأس اجتماع اللجنة العليا لدعم تنفيذ المشاريع والخدمات للربع الثالث 2025    «نسك حج» المنصة الرسمية لحجاج برنامج الحج المباشر    تخريج دفعة جديدة بمعهد الدراسات للقوات الجوية بالظهران    الكلام    أمير جازان يستقبل رئيس جامعة جازان الدكتور محمد بن حسن أبو راسين    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاظم جهاد عربها عن الفرنسية وقدم لها ببحث طويل وحنا عبود عربها عن الإنكليزية . "كوميديا" دانتي رحلة ملحمية الى عوالم متخيلة عبر الشعر والفلسفة واللاهوت
نشر في الحياة يوم 07 - 01 - 2003

قد تكون مصادفة لافتة جداً أن تصدر في فترة زمنية واحدة، ترجمتان عربيّتان مختلفتان تماماً لعمل أدبي ضخم في حجم "الكوميديا الإلهية" للشاعر الايطالي الكبير دانتي 1265 - 1321. والترجمتان هاتان تعقبان ترجمة أولى أنجزها المصري حسن عثمان بين 1959 و1964 منطلقاً من النصّ الأصل ولغته الأم وليس من لغة وسيطة على غرار ما فعل الشاعر العراقي كاظم جهاد معتمداً الترجمة أو الترجمات الفرنسية أو الكاتب السوريّ حنا عبّود مرتكزاً الى الترجمة الانكليزية. هنا قراءة مقارنة بين الترجمتين:
لعل المقدمة الطويلة التي وضعها كاظم جهاد لترجمته "كوميديا" دانتي والتي تؤلف في صفحاتها المئة والثلاثين كتاباً بذاته، جعلت من انجازه حدثاً أدبياً مهمّاً، علاوة على الشروح العلمية الكثيرة التي تخللت النص المعرّب. اما حنّا عبود فاختصر مقدمته في صفحات قليلة قد لا تصلح لأن تكون مدخلاً وافياً الى عالم "الكوميديا" وصاحبها، وهو كذلك اختصر الشروح كثيراً آخذاً بنصيحة مترجمة النص الانكليزي دوروتي سايرز والتي تقول: "ان الطريقة المثلى لقراءة "الكوميديا" هي ان يبدأ القارئ من أوّل بيت شعر فيها حتى آخر بيت، مأخوذاً بقوّة السرد وبالحركة الخاطفة للشعر، غير آبه بالتفسيرات التاريخية والشروح...". هذا الرأي ينقضه كاظم جهاد عبر سعيه الحثيث لوضع شروح يقتضيها النصّ الملحمي الصعب والموحش والحافل بالأسماء والتواريخ والشواهد والوقائع التي لا تُحصى. والقارئ الذي يتصدّى لنص دانتي يكتشف كم ان الحاجة الى الشروح ملحة وضرورية حتى وإن كان قرأ كتاباً أو أكثر عن الكوميديا أو عن دانتي. والشروح كان بورخيس واحداً من الذين قالوا بضرورتها.
تفترض قراءة الترجمتين الجديدتين عودة ولو سريعة الى انجاز المصريّ حسن عثمان، وهو أمضى سنوات طويلة من حياته دارساً دانتي وباحثاً في قضاياه المختلفة ومكباً على ترجمة "الكوميديا" بتؤدة وروية مواجهاً النصّ الأصل واللغة الايطالية "الجديدة" التي أرساها دانتي نفسه. وقد تكون الأخطاء التي يسجّلها حنا عبّود على ترجمة عثمان مجحفة في حقّ هذا المترجم الرصين خصوصاً أنّه يعدّد الصفحات التي وقعت فيها "الأخطاء الفادحة"، بحسب تعبيره في مقدمته، من دون أن يشير الى الأخطاء ولا الى الطبعة المقصودة التي اعتمدها.
أما كاظم جهاد فلا يطلق على عثمان مثل هذا الحكم القاسي بل يعتبر ترجمته "ترجمة عربية مرموقة وجديرة بالإجلال" على رغم بعض الملاحظات التي يوردها وهي: التفاصح حيثما لزمت البساطة، السردية حيثما وجب اجتراح ايقاع شعري يلائم ايقاع الأصل، الإظهار بدل الإضمار. ويصف عمل عثمان ب"العمل المشرف الذي يتمتع بتماسكه الداخلي ومتانته".
ولعلّ النزعة السردية التي يأخذها كاظم جهاد على ترجمة عثمان، هي ما يسم عموماً ترجمة حنّا عبّود. ويحار القارئ إزاء هذه النزعة السردية: هل المترجم عبّود هو الذي اختارها أم أنه أخذها عن النص الانكليزي أو الأميركي اللذين اعتمدهما؟ وما يرسخ هذه النزعة ايراده كلمة "الحكاية" في مطلع كلّ نشيد وكأن "الكوميديا" مجموعة حلقات قصصية تتواصل خلال الأناشيد. علماً أنّ مفهوم "النشيد" هنا يختلف تماماً عن مفهوم "الحكاية" ويفترض سياقاً يجمع بين الحكائي والشعريّ. هذا السياق هو ما اعتمده كاظم جهاد مانحاً النصّ "الدانتي" مداه الشعري، لغة ومناخاً وايقاعاً داخلياً. وقد تحتاج المقارنة المنهجية بين الترجمتين الى دراسة علمية منفردة، على رغم أنّ القراءة الأولى للنصّين تبرز طبيعة اختلافهما. فالمترجم السوريّ حاول أن يجعل من ترجمته صنيعاً سرديّاً في تواتره وتقطّعه من دون أن يُسقط عن النص الشكل العروضي الذي اعتمده دانتي. وساهمت الطبيعة السردية هذه في تجريد النصّ الأصل من ايقاعه الداخلي ومن حركته المتوالية والتصاعديّة المفترضة والتي يتجلّى عبرها فعل الصعود من "الجحيم" الى "المطهر" ومن "المطهر" الى "الفردوس". فالنزعة السرديّة جعلت الحركة هذه، المضمرة والظاهرة، أسيرة مخزونها الروائي ومسراها الأفقي الذي يقتضيه الفن الحكائي. وعطفاً على ذلك تبدو ترجمة حنّا عبود غير خالية من الأخطاء بدورها، على غرار معظم الترجمات مبدئياً. فهو مثلاً يذكّر "الجحيم" وهي مؤنت وفق ما وردت في القرآن الكريم: "ان الجحيم هي المأوى" سورة "النازعات" و: "إذا الجحيم سعّرت" سورة "التكوير". أما "الليمبو" فيدعها عبّود على حالها وفي لفظها الانكليزي علماً أنّها معرّبة الى "اليمبوس". وفي النشيد الأول الفردوس يترجم عبّود عبارة دانتي "المكان الذي تصمت فيه الشمس" في صيغة تفسيرية نازعاً عن العبارة معناها المجازي: "المكان الذي لا تزوره الشمس". هذه العبارة القائمة على مفهوم "صمت الشمس" يعلّق عليها الشاعر الايطالي اونغاريتي في قراءته التحليلية للنص متسائلاً: "هل تصمت الشمس؟" ويجيب، كما نقل عنه كاظم جهاد قائلاً: "المؤكد هو أن الشمس تتكلم، وهذه مناسبة جيّدة لتأكيد الأهمية التي يمحضها دانتي لفعل الكلام". وفي النشيد الأول نفسه يورد حنا عبّود بيتاً شعرياً غامضاً أو مبهماً من غير أن يعمد الى تفسيره ولا الى تفسير الكلمة الايطالية الغامضة فيه فلترو والبيت هو: "مسقط رأسه بين فلترو وفلترو". هذا البيت يترجمه كاظم جهاد هكذا: "والذي ربما كان منزله بين لبدٍ وآخر". ويفسر كلمة "فلترو" الايطالية باللبد الذي هو "النسيج الرخيص" ويرى أن المقصود هو المنزل المتواضع. وفي النشيد الثاني عشر من "المطهر" يخلط عبود بين السوط النص، ص:485 واللجام الشروح، ص:486 علماً أنّ اللجام يختلف عن السوط تماماً. طبعاً ليس من مجال هنا ل"مطاردة" الأخطاء في نص مترجم يربو على تسع مئة صفحة، وليست هذه أصلاً قصارى قراءة مماثلة. وبروز الأخطاء قد لا يقلّل من خصوصية هذه الترجمة وايقاعها السرديّ، الأفقي والمنبسط، وقد يجد القارئ فيها متعة السرد الحكائي ولو على حساب النص الشعري - الملحمي. إلا أنّ المقارنة بين ترجمة حنّا عبّود وترجمة كاظم جهاد ستنتصر للترجمة الأخيرة التي شاءها صاحبها ترجمة شعرية أوّلاً وأمينة على النص الأصل ثانياً ولو أنّه اعتمد أكثر من ترجمة فرنسية مع العودة الدائمة الى الأصل الايطالي. ولعلّ المقدمة الشاملة والشروح المهمة التي وضعها كاظم جهاد قد تكفي بذاتها لجعل عمله حدثاً أدبياً.
لم يقصر كاظم جهاد مهمّته على الترجمة فحسب. شغفه العميق بدانتي وكوميدياه جعله يكتب النصّ بالعربية موظفاً أولاً خبرته العميقة في الترجمة ثمّ شاعريته المتجلية في سبك النص والارتقاء بصيغته العربية الى مصاف الفنّ الشعريّ. فهو ينحت نصّه العربيّ نحتاً، مبتعداً قدر ما أمكنه عن الاصطناع ولكن ليس عن الصنعة الكامنة في قرارة الفعل الشعري في مفهومه الإغريقي. ولعل اعتماده أكثر من صيغة في الفرنسية وعودته الدائمة الى النص الايطالي هما أكثر من دليل على ولعه بهذا العمل العظيم الذي، بحسب عبارة شللي، "يصل بين العالم القديم والعالم الحديث". وقد شرع كاظم جهاد في تحليل الخصائص الشعرية واللغوية التي تسم لغة دانتي وملحمته، قبل أن يترجم "الكوميديا" أو يعرّبها. ورأى أن "بساطة اللغة وتسارع الايقاع هما السمتان الأساسيتان في شعر دانتي". وبدا المترجم - الشاعر وفياً كما يحلو له أن يعبّر، لما يسمّيه "ديناميات" الجملة لدى دانتي و"معايرة التجريد والتجسيد" في شعره معطياً "المجاز حقّه أمام خطاب الحقيقة" ومحتفظاً ب"وزن الغموض المقصود". ولم يلجأ الى جزالة اللغة ولا الى اللفظية والتهويل اللفظي والفخامة المبالغ بها، مقدار ما سعى الى منح النص حركته علوّاً وانبساطاً، سرداً وحواراً، تصويراً وفكراً، بلاغة وبساطة. وهكذا يشعر القارئ العربي أنّ النص الذي أمامه لا يخضع لسياق لغوي واحد ولا لخطّ سرديّ أفقي. فالترجمة هنا تحاول الاحاطة بالنصّ من غير ان تحدّ من جموحه الايقاعي والمتفجّر ومن شعريته وسرديته وملحميته التي تتداخل كلها لتصنع كلّيته اللغويّة.
أما المقدمة التي تشكّل بذاتها كتاباً منفرداً فلم تكن مجرّد تقديم أو مدخل الى عالم دانتي يرتكز الى بعض القراءات والمراجع وهي كثيرة لدى كاظم جهاد بورخيس، أونغاريتي، فيليب جاكوتيه، جاكلين ريسيه، رينه جيرار وسواهم بل هي أقرب الى النص النقدي الذي يرسّخ أولاً أثر دانتي في الشعر الحديث ويكشف ثانياً عن علاقة دانتي بالثقافة العربية أو الفلسفة العربية. كأن المقدمة تحاول الرد على الأسئلة التي كثيراً ما طرحها النقاد العرب عن العلاقة مثلاً بين "كوميديا" دانتي و"رسالة الغفران" للمعرّي. لكنّ كاظم جهاد الذي لم يكتف ب"رسالة الغفران" سيطرح مزيداً من الأسئلة التي تشمل ابن عربي في "اسراءاته" وابن رشد والفارابي وابن سينا وبعض المصادر التي يسمّيها "مصادر الالهام العربية والإسلامية" ومنها "الاسراء والمعراج" و"كتاب التوهم" و"منطق الطير" وسواها، علاوة على المصادر الأجنبية الأخرى وفي طليعتها فلسفة القديس توما الأكويني. ويخلص الى ما قاله بورخيس عن "الكوميديا" في هذا الصدد: "ان كتاباً عظيماً ك"الكوميديا الإلهية" ليس هو نزوة معزولة ومصادِفة لفرد، بل هو المجهود المتضافر لعدد غفير من الأفراد والأجيال". ولم تكن مصادفة أن يفتح دانتي أبواب "اليمبوس" أمام ابن رشد وابن سينا وأرسطو وأفلاطون وأوفيد وفيرجيليو وسواهم من عمالقة الفكر والشعر. وبلغت محبّة دانتي للشاعر الوثني فيرجيليو مبلغاً حتى أنّه لم يتورّع عن جعله مرشده في رحلته بين "الجحيم" و"المطهر". لكنّه لن يتمكن من ادخاله "الفردوس" الذي كانت حبيبته بياتريشي أو بياتريس مرشدته في أرجائه. ووداعه للشاعر فيرجيليو على باب "المطهر" لم يخلُ من الألم والمرارة، فهذا الشاعر - المرشد كان يمثل "الحكمة والعقل" فيما تمثل الحبيبة "الإيمان واللاهوت".
أما العلاقة الثانية التي رسّختها المقدمة فهي العلاقة القائمة بين "الكوميديا" والحداثة الشعرية. ف"الكوميديا" وفق ما يرى كاظم جهاد ما زالت "تستنطق الحداثة الشعرية العالمية" مثيرة في مختلف اللغات المعاصرة الرغبة في الترجمة المتواصلة. ويرى جهاد أيضاً أن أثر "الجحيم" الفصل الأول من "الكوميديا" كان الأفعل والأعمق وقد انبثق من "حاجات قارئ القرون الأخيرة" ومن "الاتجاه المأسوي الذي سلكته الحداثة ومرحلة ما قبل الحداثة". ف"الجحيم" كان له تأثير ملحوظ في ولادة ما سمّي ب"الرواية السوداء" وفي أعمال لوتريامون ونرفال وكافكا وجويس وبيكيت وسواهم. أما عربياً فيرى جهاد أن هذا العمل من شأنه أن "ينعش التجارب الشعرية العربية الجديدة شرط أن يفطن القارئ الى تعدّد عناصره كعمل ملحميّ يتدرّج بين السرد البسيط والهدير الشعري والحوار المأسوي والحجاج الفكري والاستنطاق الفلسفي والتناول التاريخي". وقد لا يبدو مستغرباً أن يشبه بعض النقاد العرب مشروع "كتاب" أدونيس في أجزائه الثلاثة ب"كوميديا" دانتي نظراً الى رحلة أدونيس في "جحيم" التاريخ العربيّ وربما في بعض "نعيمه".
الأكويني وابن رشد
وان كان يصعب اختصار الكوميديا في أجزائها الثلاثة الجحيم، المطهر، الفردوس فلأنها ليست عملاً سردياً صرفاً ولا ملحمياً صرفاً، عطفاً على صعوبتها الكامنة وراء "بساطتها الظاهرة" كما يعبّر كاظم جهاد. فهي تمثل مرحلة أساسية من تاريخ ايطاليا والعالم، عبر صراع الكنيسة والدولة، العقل والإيمان، الشرق والغرب. وكان دانتي "أكوينيّ" الانتماء القديس توما الأكويني و"رشدياً" أيضاً تبعاً لفلسفة ابن رشد، وسعى كذلك الى الوصل بين الفلسفة الاغريقية والفكر المسيحي، والى الموازنة بين علوم الدين والفلسفة وخصوصاً فلسفة أرسطو عبر شرح ابن رشد لها. وجمع أيضاً بين الوثنية والمسيحية وأدخل على الكاثوليكية عناصر اشراقية وصوفية. ولعلّ هذا ما جعله يُصنّف في خانة "المهرطقين" المتمرّدين على فكر الكنيسة.
تقتفي "الكوميديا" مسار إنسان يوقن، أنّه "لن يدرك الخلاص ما لم يحقق النزول الى أسفل درك في المعاناة الكلية. إنّه النزول الى "الجحيم"، "هاوية الذات والبشرية" التي يتصاعد منها "أنين المعذّبين وصراخ الخطأة". لكن هذا النزول سيقابله بالتالي صعود تدريجيّ الى "المطهر" الذي يسكنه أشخاص "هم في منزلة وسطى بين الخطيئة والبراءة". أمّا "الفردوس" فهو فيلي "المطهر" وفيه يحيا الصالحون والطوباويون والملائكة. هنا في "الفردوس" يلتقي دانتي حبيبته بياتريشي فتؤنّبه على ضلاله الأوّل ثمّ تكون له بمثابة المرشد في عالم "السماء"، تحلّ له الألغاز وتكشف له عن المهمة التي سيعود من أجلها الى الأرض: "مهمة شعرية يقول فيها كل ما عاناه وما شاهده". انها باختصار "خريطة" الرحلة التي تخيّلها دانتي وقام بها عبر "الكوميديا" الباهرة وكأنها رحلة حقيقية، حتى ظنّ الكثيرون من أبناء عصره أنّه نزل فعلاً الى "الجحيم" وراح البعض يسمّيه ب"الرجل الذي زار الجحيم".
يورد بورخيس على لسان دانتي ان "الكوميديا" تهدف الى "وصف حال الأرواح بعد الموت"، وتهدف أيضاً في المعنى "الأليغوري" أو على سبيل الأمثولة إلى "وصف حال الإنسان الذي يجلب لنفسه، وفق استحقاقاته أو عدمها، عقاباً أو ثواباً إلهيين". واللافت أنّ دانتي لا يتبنى أي خطاب وعظي أو تربوي أو أخلاقي بل هو يتجرأ على اختراق المعرفة الكاثوليكية متحرّراً من "نواميس الكنيسة والآراء السائدة". وعلى رغم ايمانه المسيحي لم يحتمل دانتي رؤية الفساد الذي حلّ بالكنيسة وقد تمتع رجالها بالنفوذ السياسي واتّجروا بصكوك الغفران وشاركوا في حبك المؤامرات السياسية. وإذا اعتبر دانتي أن "الكوميديا" عرضة لقراءات متعدّدة ومختلفة، حرفية أو رمزية، شعرية أو لاهوتية أو "اليغورية" أمثولية فإنّ البعض يقول باستحالة قراءتها قراءة مسيحية صرفاً أو من خلال التصوّر المسيحي مثلما فعل بعض الشرّاح الكنسيين. فدانتي تصوّر "الجحيم" مغارة جوفية وفيها قسّم الخطايا تقسيماً أرسطياً ثابتاً، وتخيل "المطهر" جبلاً اتبع فيه التقسيم المسيحي للخطايا، وهو قائم على الافتداء والغفران. وفي "الفردوس" انطلق دانتي الى السماوات التسع وأبصر في السماء التاسعة نقطة مشعّة تشير الى البارئ. أما السماء العاشرة فهي السماء الثابتة ذات النور الخالص، والحافلة بالأناشيد والتراتيل والمشاهد الملائكية والتشكيلات الضوئية.
قد تبدو "كوميديا" دانتي التي شغلت العصور القديمة والعصر الحديث رحلة ملحمية وشعرية الى عوالم متخيّلة متدرّجة بين الظلام الدامس والنور البهيّ، الا انها أيضاً رحلة في اللغة وفضاءاتها وفي التاريخ وطبقاته، وفي اللاهوت والفلسفة والفكر الإشراقي والرؤيا. ولعلها استمدت فرادتها الباهرة من هذه البوتقة التي انصهرت فيها الأنواع الأدبية كلها، شعراً وسرداً وملحمة وحواراً، وكذلك المدارس والاتجاهات كلها، واقعية وحلمية ورمزية واسطورية. ولعلّ ما قاله الفيلسوف انغلز في وصف دانتي يعبّر عن جوهر هذه التجربة: "دانتي هو في الحين نفسه الشاعر الأخير للعصر الوسيط وأول شاعر حديث". أما فيكتور هيغو فلم يتوان عن امتداح دانتي و"الكوميديا" قائلاً: "أيّ فيلسوف هو، هذا الرائي! أي حكيم هو، هذا المجنون! "الكوميديا" هي معجزة".
* صدرت ترجمة كاظم جهاد عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ومنظمة الأونيسكو 1036 صفحة. اما ترجمة حنا عبود فصدرت عن دار ورد، دمشق 942 صفحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.