حياة محمد الدريسي حافلة بالمحطّات، مفعمة بالغرابة حتّى الثمالة... لكنّ أحداً لم يكن يتوقّع للفنان المغربي البارز الذي يحتلّ مكانة على حدة على الخريطة التشكيليّة المغاربيّة والعربيّة، تلك النهاية العبثيّة! فقد وجد ميتاً أوّل من أمس في احدى عربات مترو الأنفاق في باريس، وإلى جانبه حقائبه وأمتعته. وكان وصل لتوّه من طنجة، ومن مطار رواسي استقل القطار فالمترو، متجهاً إلى "مدينة الفنون" حيث حصل أخيراً على منحة اقامة وعمل من الدولة الفرنسيّة. كان الدريسي سعيداً جداً بهذه المنحة، وعبّر لأصدقائه عن حماسة كبيرة في العودة إلى مدينة الأنوار التي قصدها خلال سنوات الشباب، طالباً في "معهد الفنون الجميلة"، ضمن رحلة تسكّع طويلة صاخبة، بدأت ذات يوم من العام 1946في مدينة تطوان المغربية الشمالية على شاطئ المتوسّط، وانتهت بهذه الطريقة الغريبة وهو في عزّ عطائه. رحلة بدأها فناناً في وقت مبكّر، إذ كان يرسم كل ما ومن يقع عليه نظره في المدرسة. وبناء على نصيحة مدرّسته الاسبانيّة، دخل مطلع الستينات مدرسة الفنون الجميلة في تطوان، ومنها إلى باريس 1968 فبرشلونة 1970، وبروكسل 1973، ونيويورك 1980 حيث تعلّم العلاج من خلال الفنّ. لم يحتمل الدريسي يوماً سلوك الدروب المكرّسة، ولم يستطع الخضوع للقواعد والاعراف الأكاديميّة. فقد علّمته وعورة الحياة في الشمال المغربي الفقير، أن يبحث عن الحقيقة الكامنة خلف المشهد الخارجي، من هنا كميّة الألم والوعورة والقسوة والغرابة التي تنطوي عليها لوحاته ومنحوتاته... قسوة مبطّنة بالرقة والعذوبة، وألم يمدّ أواصر قرابة حميمة مع الفرح وحبّ الحياة. كان يلملم أشياء تائهة على شواطئ الشمال من حبال وحطام سفن وشباك صيادين ومسامير صدئة... ومنها يصنع منحوتاته وكائناتها المعذّبة... وآخر أعماله كانت وجوهاً نسائيّة صنعها من الرفوش القديمة التي ألبسها معجوناً خاصاً من كرتون البيض، ثم نفخ فيها ألوانه الحيّة، وغرز فيها المحاجر المضيئة بألف سرّ وحكاية. وأدهشت تلك الأعمال زائري معرضه الأخير في الرباط الخريف الماضي. لوحات الدريسي مسكونة بتلك الكائنات الغرائبية المعذّبة، كأنّها طالعة من ضمائرنا المثخنة: أجساد نحيلة وهياكل عظميّة، وأطراف مختلّة التوازن، وجوه ومحاجر فارغة تحاصرنا. عالم غريب، مزيج من الشفافيّة والقسوة، من الرقّة الخرساء والعنف الكامن. عالم يدخل إليه المرء متردداً، حائراً، قلقاً... يبحث عن نقاط ارتكاز، فلا يجدها. ذلك أن لوحته منغلقة على ذاتها، تحتفظ بأسرارها، ولا تبوح إلا بالنذر اليسير من مكنوناتها. أعماله مبنيّة قرب الحدود الفاصلة بين القول واستحالته، بين الداخل المتأجج وما يمكننا نحن أن نلتقطه على السطح من انعكاسات وأصداء وجزئيات... وأن نراه ونسمعه من نثار حكايات وصرخات مكبوتة وآهات متقطّعة. هذا الفنّان المغربي الذي يقف على حدة بين أقرانه ومجايليه، يشيّد رؤياه فوق الشرخ، عند لحظة الانكسار واختلال التوازن. شارك الدريسي في معارض عربية وعالميّة عدّة، حيّاه نقاد كبار في بلاده وخارجها. لكنّه بقي على هامش الحياة التشكيليّة في بلاده. كأنّ تعبيريّته العصاميّة لا تتسع لها الثقافة المكرّسة. مع أن تجربته لا تقلّ أهميّة عن تجارب فريد بلكاهية ومحمد المليحي، ومحمد القاسمي وفؤاد بلامين. بعد عودته من نيويورك اشترى قارباً صغيراً، وعاش سبع سنوات من ثمار الصيد، فيما راح يرسم على هواه، بعيداً عن أحكام الموضة ومقتضيات السوق والذوق السائد... بقي يصوّر الزمن الهارب إلى أن جرفه في مجراه الهادر.