في اقل من اربعين عاماً صار قابلاً للموت، ذلك البث الفضائي الذي ولد في الولاياتالمتحدة على يد شركة الاتصالات الشهيرة "ايه تي اند تي" وبدعم من وكالة الطيران والفضاء "ناسا" في 11 تموز يوليو من العام 1962. وفي وقت قصير نسبياً، غزا البث الفضائي العالم. ولد كائن الاتصالات العالمية في الفضاء الذي كان موضع نزاع رهيب بين الاتحاد السوفياتي السابق وأميركا. وثمة نقطة للتوقف. ففي ذلك الحين، كان للسوفيات اليد الطولى في صراع الفضاء وأطلقوا اول قمر اصطناعي "سبوتنينك" في العام 1951. ولكن لم يعمل السوفيات ابداً على وضع الاتصالات في الفضاء. وقاوموا طويلاً البث الفضائي وحاولوا بدأب التشويش على موجاته. وترافق ذلك مع أحداث عدة، مثل بناء حائط برلين وعزل بشر الكتلة الاشتراكية، وأحياناً حلفائها، عن العالم. وعنى ذلك ايضاً، عزل صورة الاتحاد السوفياتي عن اعين البشر، حتى "الاقربين" في الدول الاشتراكية. وفي الداخل السوفياتي، اضطهد المفكر الراحل ميشيل باكتين، الذي عمل طويلاً في ارساء افكار اساسية عن قوة الصورة، وتميز عمله بنقدية جادة رحبت بالقوة التي تملكها الصورة. وكذلك انتقد هيمنتها وسطوتها وانحيازها. وفي قول آخر، قاوم التسلط السوفياتي الانفتاح الذي يحمله البث المرئي بالاقمار الاصطناعية من جهة، وصادر حتى الافكار النقدية عن الصور. والحال ان كلا الامرين واحد. ولعل اضطهاد باكتين حرم السوفيات من فكر يتعاطى بانفتاح ونقدية، مع اللغة المصورة. وفي صراع الحرب الباردة، وصف الاميركيون طويلاً بأنهم حملة فكر "الصورة"، بدءاً من سينما هوليوود ووصولاً الى بث الاقمار الاصطناعية. وقيل كلام كثير عن ان تلفزة الفضاء حملت "صورة اميركا" ونموذجها الى اصقاع الارض كلها، وساهم ذلك في رسم صورة زاهية عن اميركا. وصارت صور الشاشات الفضية والبيضاء جزءاً مما سميَّ طويلاً "الحلم الاميركي". وفي العام 9198، انهار جدار برلين امام عدسات التلفزة الفضائية، ودرج الكلام على ربط سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، بالاثر القوي للتلفزيون. وبدا وكأن بث الاقمار الاصطناعية غير قابل للرد ونفذ عبر كل الحدود ودوماً وجد طريقه الى الشاشات ومنها الى الاعين، وتلك بوابات الى العقول. هنا يصل الكلام الى منعطف، وبات دارجاً القول ان الاتصالات الكونية هي من اوجه العولمة وعلاماتها. وفي المقابل، فإن الطبيعة العالمية للبث المتلفز هي عين ما تطاوله اقلام ناقدة ترى في العولمة اشكاليات منها محاولة فرض نموذج واحد، اميركي، على العالم. الاتصالات وسيلة امركة الارض. هكذا قال نقاد كثر. "انتقلت الهيمنة على العالم من الارض الى الفضاء". هكذا تحدث الرئيس جورج بوشالاب. وهناك شغل نقدي قوي، داخل اميركا وخارجها، على الهيمنة القوية للغة البصرية. وعلى سبيل المثال، صبَّ الأنَّاس الفرنسي جان بورديار جام نقده على الدور الذي لعبته شبكة "سي ان ان" ابان حرب الخليج. ولقيت لغة الصورة سنداً قوياً لها في الكومبيوتر. وحملت الانترنت الى الاعين المبحلقة في شاشات الكومبيوتر سيولاً من الصور. ولربما بثت الانترنت في سنواتها القليلة ما لم تفعله اي وسيلة اخرى للاتصالات. وهنا نصل الى مفارقة اخرى. ففي عز هيمنته، يقترب البث التلفزيوني من موته. ولعل البداية هي في اميركا، ارض ميلاده بالذات. فقد حدد الكونغرس العام 2006، موعداً نهائياً للانتقال من البث العادي الى الرقمي. ويرغم القرار كل مشاهد على شراء تلفزيون رقمي جديد او وضع صندوق خاص "سيت اب" Set Up على جهاز التلفزيون العادي. والهدف هو الانتقال الى مرحلة التلفزيون العالي التحديد High Definition TV، واختصاراً HDTV . ويعني ذلك ان جهاز التلفزيون سيصبح موضع تنازع بين بث الفضاء والكابل، وبين بث مختلف نوعياً عنه هو الشبكات الرقمية للكومبيوتر. ويمكن الاعتراض على هذا الكلام والقول ان السنوات المنصرمة لم تثبت صلاحية البث الشبكي، من نوع تلفزيون الويب Web TV، في منافسة التلفزة الفضائية. وهذا صحيح. ومع ذلك، يمكن القول ان هذا الاخفاق هو ايضاً مؤشر الى ان "شيئاً ما" جديداً قد ابتدأ في وسائل البث الى شاشات الترفيه في العالم. وثمة ما يوحي بتغيير في صناعة الترفيه كلها. [email protected]