Boutros Boutros Ghali. Democratiser la Mondialisation. دقرطة العولمة. Rocher, Monaco. 2002. 144 pages. قد يمكن تلخيص المسار الفكري والديبلوماسي لبطرس بطرس غالي بعبارة واحدة: فخلال نصف قرن بتمامه من النشاط السياسي والفكري تحول من شخصية مختلف عليها الى شخصية مجمع عليها. الجانب الخلافي في شخصيته ظهر في وقت مبكر. فهذا المتحدر من اسرة عريقة وغنية، قبطية ووفدية في آن معاً، وجد نفسه يُتهم منذ صغره من قبل رفاقه في الحي بأنه حفيد ذلك "الجد الذي باع السودان للانكليز"، اشارة الى الاتفاقية التي وقعها جده مع الانكليز عام 1899، بعد سحق ثورة المهدي، والتي بموجبها تقاسمت مصر السيادة مع بريطانيا على السودان. في 1952 وكان له من العمر ثلاثون عاماً طاله مع اسرته قانون الاصلاح الزراعي الاول، وجد نفسه يُحرم، بوصفه سليل اسرة اقطاعية، الحق في ممارسة النشاط السياسي. في 1954 توطدت علاقاته الاميركية: اولاً من خلال المنحة الدراسية التي قدمتها له مؤسسة فولبرايت، وثانياً من خلال تكليفه من قبل معهد كارنيجي باعداد دراسة بالانكليزية عن "مصر والاممالمتحدة" بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس المنظمة العالمية. في مطلع 1959 استفاد من علاقة الصداقة التي كانت تربطه ببشارة تقلا، صاحب يومية "الاهرام"، ليصدر مجلة "الاهرام الاقتصادية" نصف الشهرية. ومنذ ذلك الحين الصقت به من قبل اليسار المصري الصاعد مدّه يومئذ، صفة العميل الليبرالي الذي يعمل، من موقعه كاقطاعي سابق، في خدمة الرأسمال الخاص ويوظف قلمه في مقاومة الميول الايديولوجية الاشتراكية المتزايدة لثورة 1952 منذ آلت قيادتها الى عبدالناصر. في الستينات اسهم في تأسيس كلية "نخبوية" للاقتصاد والعلوم السياسية، واطلق مجلة "السياسة الدولية"، قبل ان يضطر في ظروف هزيمة 1967، الى "الهرب" من الوطن الى فرنسا حيث تم تعيينه استاذاً مشاركاً في كلية الحقوق في باريس. في 1970، وبعد وفاة عبدالناصر، استدعاه السادات الى مصر وعينه في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي واوكل اليه شؤون السياسة الخارجية فيه. في يوم 16 تشرين الثاني نوفمبر 1977، وفي لحظة زيارة السادات "التاريخية"، للقدس، تم تعيينه وزير دولة للشؤون الخارجية، وبدا وكأنه هو "الدماغ المنظم" لهذه الزيارة. وبالفعل، هذا ما كانت اكدته في حينه الصحافة الاسرائيلية بعد ان كان نظم في القاهرة ندوة مع اسرائيليين يحملون الجنسية الاميركية، وبعد ان كان كتب سلسلة من المقالات دعا في الى الاعتراف بدولة اسرائيل من منطلق حاجتها هي نفسها الى الاندماج في المنطقة والى "الاستعراب". ولا يكتم بطرس بطرس غالي قارئه انه يتمنى لو انه كان بالفعل منظّم تلك الزيارة، لكنه يؤكد ايضاً انه كان آخر من علم بها من اعضاء الوفد المرافق للسادات من عسكريين ومدنيين وذلك عندما طلب اليه السادات ان يحرر الخطاب الذي يزمع ان يلقيه في الكنيست الاسرائيلي. ولكن حتى من هذا المنظور فان بطرس بطرس غالي لم يلعب ذلك الدور الذي نُسب اليه. فالخطاب الذي القاه السادات امام اعضاء الكنيست لم يكن هو ذاك الذي حرره بقلمه، بل كان من تحرير موسى صبري الذي اضطلع في العهد الساداتي بالدور الذي كان يضطلع به محمد حسنين هيكل في العهد الناصري. مع ذلك فان بطرس بطرس غالي هو الذي احتل واجهة المسرح بوصفه "العقل المدبر" للصلح مع اسرائيل، وهو من احاطت رأسه الصحافة العربية المجمعة في حينه على معارضة البادرة الساداتية ب"اكليل شوك الخيانة" وعمّدته باسم "المهندس الاكاديمي للانهزامية العربية". والواقع انه اذا لم يكن بطرس بطرس غالي هو منظم المبادرة، فانه بلا ادنى شك واحداً من صانعيها الجيوبوليتيكيين. فمبادرة السادات لم تأت من فراغ. بل في سياق تحول كبير في الرؤية الجيوبوليتيكية. فالسادات ما كان ليتصور مبادرته لو لم يكن قد استقر لديه اليقين بان القضية الفلسطينية ليست هي القضية المركزية بالنسبة الى مصر من منظور الجغرافيا السياسية. والحال ان بطرس بطرس غالي هو من كان نبّه الى ان امن مصر الجيوبوليتيكي يتعلق بأفريقيا اكثر منه باسرائيل. فمصر، كما وصفت منذ ايام هيرودوتس، "هبة النيل" ولولا النيل لكانت محض استطالة للصحراء. ومنابع النيل الثمانية افريقية: النيل الازرق من الحبشة والسودان، والنيل الابيض من بحيرة فيكتوريا في كينيا واوغندا وتنزانيا، وحوضه يغطي بوروندي ورواندا وزائير. وفي سلسلة المحاضرات التي نظمت في حينه لغالي في الكليات الحربية والمدارس العسكرية المصرية كانت الفكرة الثابتة التي لا يفتأ يكررها: "انكم لتخطئون فالمشكلة ليست في آسيا ولا في اسرائيل. والتوسعية الاسرائيلية ليست الا ظاهرة عارضة لا بد ان تختفي ذات يوم. اما المشكلة الحقيقية فمنبعها من الجنوب من افريقيا، فلو قررت الحبشة او كينيا غداً ان تبنيا سدوداً على منابع النيل لعطشت مصر. فمصيرنا مرتهن، ومن هنا يأتي الخطر اكثر مما يأتي من اسرائيل". ولم ينعتق غالي من هذه الرؤية "المصرية" الضيقة للقضية الفلسطينية الا بعد ان شغل في الاعوام 1992 - 1996 منصب الامين العام لمنظمة الاممالمتحدة. ورغم ان انتخابه لهذا المنصب تم بمباركة اميركية، فان الرؤية "الكوكبية" التي اكتسبها خلال تلك السنوات الخمس جعلته يصطدم في خاتمة المطاف مع الرؤية الجيوبوليتيكية الاميركية التي تنزع الى اعتبار العالم بأسره، بما فيه منظمة الاممالمتحدة، "نيلاً" لها. وبمعنى من المعاني يمكن القول ان صدام غالي مع الولاياتالمتحدة، التي رعت في البداية ترشيحه، يعود الى انه اخذ على محمل الجد الطابع الاممي، او "الكوكبي" كما يحلو له ان يقول، لمنصبه. فالامين العام هو ممثل للامم المتحدة، لا للولايات المتحدة. ومن دون ان يماري بطرس بطرس غالي في ان الولاياتالمتحدة الاميركية هي القوة العظمى الوحيدة في العالم اليوم، فانه يعتقد ان سبباً رئيسياً لفشل منظمة الاممالمتحدة، او شللها بتعبير ادق، يعود الى رزوحها تحت ثقل السياسة الاحادية الجانب لتلك القوة العظمى. فالاممالمتحدة كما العالم اجمع اليوم بحاجة الى تكريس تعددية الاقطاب في مواجهة احادية القطب الاميركي. ومع ان الولاياتالمتحدة الاميركية هي امة ديموقراطية كبرى رائدة، الا انها كدولة وكقوة عظمى تأبى تمديد الممارسة الديموقراطية من المستوى القومي الى مستوى العلاقات بين الدول. فديموقراطيتها الداخلية تزدوج بتسلطية خارجية تتجلى حتى داخل نطاق المنظور الدولي. وظهرت المعارضة الاميركية ل"مفكرة الاصلاح الديموقراطي" التي صاغها لتطوير العلاقة بين الجمعية العامة لمنظمة الاممالمتحدة وبين مجلس الامن الدولي الذي لم يعد يعبر عن واقع العالم المعاصر، والذي بات بحاجة الى توسيع ليشمل دولاً كبرى اخرى استُبعدت عنه يوم تشكيله في 1945، مثل المانيا واليابان، وليعطي مجالاً اكبر من الفاعلية لأمة عملاقة جديدة مثل الصين التي يراهن غالي على ان القرن الحادي والعشرين سيكون قرنها مثلما كان القرن العشرون قرن القوة الاميركية. ودقرطة العلاقات داخل منظمة الاممالمتحدة ليست الا مقدمة لدقرطة العلاقات بين الدول على صعيد العالم بأسره. فعولمة الاقتصاد ينبغي ان تقترن بعولمة الديموقراطية، والديموقراطية المعولمة او الكوكبية هي الضمان للخروج من المأزق المسدود لما يسميه بطرس بطرس غالي ب"جدلية القمر الصناعي والمئذنة". فما دامت العولمة غير ديموقراطية وغير انسانية فلا مناص من ان تستثير ردود فعل انغلاقية وانعزالية، وتشنجات على صعيد الهوية واندياحاً لموجة الاصوليات سواء منها الاسلامية او اليهودية او الهندوسية او الكاثوليكية. والارهاب، الذي اخذ بعداً كونياً بعد اعتداءات الحادي عشر من ايلول سبتمبر يندرج في سياق ردود الفعل السلبية هذه على العولمة اللاانسانية، المقترنة في الحالة الاميركية بسياسة القوة العظمى الاحادية والمنحازة، فضلاً عن ذلك، الى اسرائيل. وما يلاحظه بطرس بطرس غالي في الختام ان الارهاب "يتعولم" على حين ان رد الفعل ضده لا يزال قومياً، وانه "يتأدلج" على حين ان الرد الاميركي عليه لا يزال امنياً خالصاً. والحال ان الارهاب لا يُستأصل ما لم تُجفف تربته المغذية. ولا سبيل الى تجفيف تربة الارهاب على الصعيد العالمي الا عبر عولمة مؤنسنة وديموقراطية معولمة. اما على الصعيد الشرق اوسطي فلا بد من استئصال سرطان النزاع الفلسطيني الاسرائيلي. فهذا السرطان هو مضخة توليد كبرى للاصولية وللارهاب ولنزعة العداء لاميركا. وما لم تفرض اميركا حلاً عادلاً لهذا النزاع، وما لم تلجم انحيازها الذي ازداد لامشروطية في عهد الرئيس بوش الثاني لاسرائيل، فان جماهير غفيرة في العالم العربي، وحتى في العالم الاسلامي، ستظل تنظر الى بن لادن كما له انه تشي غيفارا جديد.