فرصة عقارية كبرى بمزاد جوزاء الرياض العلني الهجين    أمين مجلس التعاون: قمة "ألاسكا" تؤكد على أن حلّ الخلافات يأتي من مسارات التعاون والحوارات البنّاءة    القيادة تهنئ رئيس جمهورية إندونيسيا بذكرى استقلال بلاده    المياه الوطنية: 24 ساعة فقط على انتهاء المهلة التصحيحية لتسجيل التوصيلات غير النظامية    مستفيدين جمعية السرطان السعودية برفقة أسرهم في زيارة روحانية للمدينة المنورة    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 .. الكوري الجنوبي Ulsan بطلاً للعبة Tekken 8    الهند وكوريا الجنوبية تبحثان سبل تعزيز العلاقات الثنائية    الصين تطلق فئة جديدة من التأشيرات للشباب المتخصصين في العلوم والتكنولوجيا    إصابة فلسطينيين برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية    6 اضطرابات نفسية تؤثر على الرياضيين النخبة    علماء كوريون يطورون علاجًا نانويًا مبتكرًا لسرطان الرئة يستهدف الخلايا السرطانية    نائب وزير الرياضة يتوّج نيل روبرتسون بلقب بطولة الماسترز للسنوكر 2025    يونيسف تحذر: مئات الأطفال يواجهون سوء التغذية    تحت رعاية وزير الداخلية.. اللواء القرني يشهد حفل تكريم المتقاعدين من منسوبي"مكافحة المخدرات"    2.1 % نسبة التضخم    مدينة التمور العالمية في بريدة    مؤامرة (ثمانية)    صيني يخسر 120 ألف دولار في «صالة رياضية»    مرضاح والجفري يحتفلون بزواج فهد    التحول في التعليم    محمد بن عبدالرحمن يدشن 314 مشروعاً تعليمياً في الرياض    وزارتا الإعلام والتعليم تطلقان برنامج الابتعاث إلى 15 دولةً    ترقية آل هادي    العدل تطلق خدمات مركز الترجمة الموحد    «ماما وبابا» في دور السينما 27 الجاري    فسح وتصنيف 90 محتوى سينمائياً خلال أسبوع    شراحيلي يكرم أهل الفن والثقافة    المشاركون في مسابقة الملك عبدالعزيز الدولية يغادرون مكة متجهين إلى المدينة المنورة    تحذيرات من تهديد للأمن الإقليمي وتصفية القضية الفلسطينية.. رفض دولي قاطع لخطة إسرائيل الكبرى    طبيبة مزيفة تعالج 655 مريضاً    دواء تجريبي مبتكر يعالج الصلع خلال شهرين    الاتفاق يتعادل إيجابياً مع الرفاع البحريني ودّياً    صندوق الاستثمارات العامة.. من إدارة الثروة إلى صناعة القوة الاقتصادية    النفط يستقر على انخفاض وسط آمال تخفيف العقوبات على الخام الروسي    الإنسانية في فلسفة الإنسانيين آل لوتاه أنموذجا    مشاهد إيمانية يعيشها المشاركون في رحاب المسجد الحرام    "هجرس".. أصغر صقار خطف الأنظار وعزّز الموروث    الاستدامة تهدد وظائف الاستثمار الاجتماعي    الشؤون الدينية تنفذ خطتها التشغيلية لموسم العمرة    خطيب المسجد الحرام: شِدَّةَ الحَر آية يرسلها الله مَوعِظَةً وعِبْرَة    إمام المسجد النبوي: العِلْم أفضل الطاعات وأزكى القُربات    "الفتح"يتغلّب على أوردينو الأندوري برباعية ودية    خلال معسكره الخارجي في إسبانيا .. "نيوم"يتعادل مع روما الإيطالي    الفريق الفتحاوي يختتم معسكر إسبانيا بالفوز في مباراتين وديتين    جامعة أمِّ القُرى تنظِّم مؤتمر: "مسؤوليَّة الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري" برعاية كريمة من خادم الحرمين الشَّريفين    «متحف طارق عبدالحكيم» يختتم المخيم الصيفي    التعليم تشدد على ضوابط الزي المدرسي    اللاونجات تحت عين الرقيب    "الشؤون الإسلامية" بجازان تنفذ أكثر من 460 جولة ميدانية لصيانة عدد من الجوامع والمساجد بالمنطقة    أميركا: وقف إصدار جميع تأشيرات الزيارة للقادمين من غزة    تجمع تبوك الصحي يطلق مشروعات تطويرية لطب الأسنان    أمير عسير يستقبل سفير بلجيكا    المملكة تعزي وتواسي باكستان في ضحايا الفيضانات والسيول    محمد بن عبدالرحمن يعزي في وفاة الفريق سلطان المطيري    نائب أمير جازان يستقبل مدير مكتب تحقيق الرؤية بالإمارة    أحداث تاريخية في جيزان.. معركة أبوعريش    نائب أمير جازان يلتقي شباب وشابات المنطقة ويستعرض البرامج التنموية    اطلع على أعمال قيادة القوات الخاصة للأمن البيئي.. وزير الداخلية يتابع سير العمل في وكالة الأحوال المدنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الناقد السعودي عبدالرحمن القعود تصدى لقضية "الابهام في شعر الحداثة". عدم اكتمال المقاربة النقدية يوقعها في السجال القديم للحداثة
نشر في الحياة يوم 01 - 07 - 2002

ترتفع حيناً تلو حين أصوات تتأفّف من غموض الشعر الحديث آخذة على نماذج كثيرة منه مبالغتها في التعمية او الابهام. وهذه القضية ليست جديدة على الشعر العربي الحديث، فهي بلغت ذروتها في مطلع الستينات وخصوصاً مع مجلة "شعر" التي اتهمت بتغريب الشعر العربي وتخريبه وتدميره عبر تخلّيها عن النظام العروضيّ أولاً ثم عبر انفتاحها على التيارات الشعرية المعاصرة في العالم وفي طليعتها قصيدة النثر والسوريالية والتجريبية والطليعية. قضية الغموض يعالجها بجرأة الناقد السعودي عبدالرحمن محمد القعود في كتابه "الابهام في شعر الحداثة" صدر في الكويت في سلسلة عالم المعرفة 2002 محاولاً تحديد عوامل الابهام ومظاهره وما يفترض من آليات التأويل.
وإن كان عنوان كتاب "الابهام في شعر الحداثة" يشي بخطوة غير مسبوقة نقدياً في العالم العربي فأن قراءة الكتاب ستضع القارئ حيال موضوعات او تيمات تطرّق إليها نقّاد كثر واستهلكوها، ومن هذه الموضوعات: الحداثة، الاسطورة، العلاقة بين الشعر والفلسفة، الصوفية، البعد المعرفي او الثقافي في الشعر... عطفاً على المدارس الأدبية التي استعرضها الناقد والمفاهيم التي كانت مثار سجال نقدي لم ينته حتى الآن.
بذل الناقد عبدالرحمن محمد القعود كبير جهد في متابعته معظم ما كتب عن الشعر العربي الحديث وبعض ما كتب عن الحداثة في مفهومها الغربي من خلال الترجمات العربية التي وقع عليها وليس من خلال المراجع الأصل في لغاتها الأم. وقد ساق في كتابه ما لا يحصى من الشواهد التي انتقاها من الكتب والصحف والمجلات وبدا بعضها موضع ثقة وبعضها الآخر موضع شك او تساؤل. فالباحث لم يسع الى التمييز بين الحكم الحقيقي والصائب والحكم المتعجل وربما الخاطئ في ما استند إليه، كأن يأخذ عن احدى الصحف مثلاً رأياً "اعتباطياً" مفاده ان ادونيس تأثر بالشاعر الفرنسي أبولينير وأنه اخذ من نماذجه اساساً للتجريب والخلخلة والتجاوز. لم يحاول الباحث التدقيق في هذا الرأي غير المصيب عبر المقارنة بين النص الأبولينيري والنص الأدونيسي. ترى هل يكفي ان يستشهد الناقد الأكاديمي بمقالة صحافية ليكون الحكم قاطعاً؟ ولعل خطأ جسيماً يرتكبه الباحث ايضاً في شأن الشاعر الفرنسي أبولينير إذ يعتبره "احد الذين شكلوا الدادية" علماً ان ابولينير توفي سنة 1918 ولم يشارك ابداً في لقاء زوريخ الشهير في العام 1916 وعنه انبثقت الحركة الدادائية في رعاية تريستان تزارا. وإن استخدم ابولينير كلمة "ما فوق واقعي" مستبقاً السورياليين فهذا لا يعني انه كان سوريالياً في المعنى الدوغمائي او المدرسيّ. واللافت ان الباحث يستقي معلوماته عن السوريالية من الناقد إحسان عباس حوار صحافي أجري معه ومن الصحافي جهاد فاضل وليس من مصادرها والمراجع العلمية التي تناولتها. اما من اطرف استنتاجاته فأن يكون الشاعر والنائب اللبناني غسان مطر "شاعراً غامضاً" مع انه من الشعراء السياسيين والملتزمين الواضحين اكثر مما يجب.
ربما لا ينبغي ان تبدأ قراءة كتاب "الابهام في شعر الحداثة" من خلال الملاحظات المأخوذة عليه وهي كثيرة، فالكتاب حصيلة جهد كبير بذله صاحبه جامعاً اكبر قدر ممكن من المراجع - أياً كانت - ومستشهداً بمقولات وآراء يستحيل إحصاؤها. ولعله في تناوله هذه الموضوعة او التيمة الملتبسة والشائكة لم يدع اي موضوعة او قضية ترتبط بها إلا ذكرها او عالجها معالجة عرضية بغية الوصول الى الخلاصات الممكنة. لكن القارئ لا يعلم تمام العلم ان كان الباحث يناصر الغموض ويؤيده او هو يناوئه ويعترض عليه. فتارة يمتدح الغموض في القصائد القديمة والحديثة ويقرّ ب"احتماليته" نظراً الى طبيعة الشعر الفنية ومادته اللغوية ومنبعه النفسي، وطوراً يأخذ على بعض الشعر الحديث غموضه وانقطاعه عن القراء وانتقاله من مستوى الغموض الى مستوى الابهام كما يعبّر. ولا ينثني مثلاً عن تبنّي شكوى محمود درويش من الشعر الغامض او المبهم معلناً مقته وازدراءه هذا "الشعر" المشبع ب"اللعب والركاكة والغموض". ورأي محمود درويش هذا غير قابل للتعميم إذ قصد فيه بعض الشعر المزيّف الذي يدرج في خانة الحداثة زوراً. فالشاعر الفلسطيني الرائد لم ينج في قصائده الجديدة من "لوثة" الغموض الجميل والموحي. والباحث نفسه سيأخذ عليه في الصفحات اللاحقة غموض الصورة الشعرية "المتباعدة الأطراف والمبهمة العلاقات" ص283. ويأخذ كذلك على ادونيس عدم صلابة احد مقاطعه الشعرية "وعدم وضوح تعالقاته وإحالاته". ويتضح مأخذه اكثر عندما يردّ السبب الى "ضعف اساسي في لغة الشاعر نفسه". غير ان هذه الملحوظة النقدية لم تمنع الباحث من اعتماد نتاج ادونيس النظري والشعري مرجعاً رئيساً في الدراسة، حتى ان جزءاً غير يسير من الكتاب قائم على نظريات ادونيس وخصوصاً ما ارتبط بالحداثة من موضوعات وقضايا. وفي هذا الصدد يبدو الكتاب كأنه استعادة لمعظم ما قيل في هذه الحقول والميادين وانطلاقاً من مقولات النقاد والشعراء العرب ومن بعض الترجمات التي تظل مثاراً للشك في صحتها وأمانتها. وخيرُ مَثَلٍ تناولُ الباحث قضية مِثْل قضية "الحداثة" التي أسالت الكثير من الحبر وبدا تناوله إياها مفروضاً عليه او مفترضاً كونه يعالج الابهام في الشعر الحديث. على انه لم يضف جديداً في تنقيبه "الحداثي" مستنداً الى ما شهد معتركها النقدي من ابحاث وتأويلات. وهذا ربما ما يتوجبه العمل الأكاديمي الصرف الذي يهدف عادة الى تهذيب منهج الباحث نفسه. ينقل الباحث عن خالدة سعيد قولها: "الحداثة تحوّل معرفي" ثم يستطرد مفسّراً: "الحداثة حالة عقلية قبل كل شيء"، علماً انه سيتطرق لاحقاً الى الرومنطيقية والرمزية والسوريالية التي رفضت - جميعاً - الاحتكام الى العقل باحثة عن الكنوز الدفينة في الذات واللاوعي والمخيّلة ... ومثلما تطرق الى الحداثة - وهي باتت قضية قديمة - تطرق ايضاً الى الاسطورة والعلاقة بين الفلسفة والأدب والصوفية وما بعد الحداثة وكذلك الى المدرسة الرومنطيقية والمدرسة الرمزية والدادائية والسوريالية وإلى الرؤيا والتجريب وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والمجانية يستبدلها بالاعتباطية والغياب الدلالي والمعنى والتجريد والشعر الصافي والشعر الصامت وشعر البياض... وقد لا يحتاج قارئ الكتاب الى ان يعدّد الموضوعات التي قرأ عنها ما دامت "غاية" الكتاب وضع ما يشبه المخطط الشامل لأبرز ما قيل في هذه الموضوعات. وهي أضحت اقرب الى المسلّمات الراسخة في الفكر النقدي. كأن الكتاب مختصر مفيد لما رافق الثورة الحداثية من سجالات وتأملات وتأويلات وقدّمها الباحث من خلال مقاربة بانورامية، تستعرضها اكثر مما تعيد قراءتها او تنتقدها.
ابهام أم غموض؟
غير ان ما يثير السجال في الكتاب أولاً هو العنوان نفسه: الابهام لا الغموض في الشعر العربي الحديث وليس في الشعر او الشعر العربي تحديداً. ويبرر الباحث استخدامه "الابهام" عوض "الغموض" وحافزه ما يسمّيه "مستوى التعمية والانغلاق الذي وقف عنده كثير من القصائد الحداثية" في كون "الغموض" يعني وفق المعجم، الخفاء. فالغامض هو الخفيّ كما يقول، اما الابهام فيحمل، علاوة على معنى الخفاء، الإشكال والإغلاق. ولا يبدو اختياره "الابهام" مقنعاً تماماً، فالغموض هو الذي ينسحب كصفة على الشاعر والصنيع الشعري، فيما يسري الابهام على المعضلات الفلسفية والفكرية. والباحث نفسه ينقل عن "لسان العرب" ان "المبهم" هو الأمر الذي لا مأتى له والمبهمة هي المسألة المعضلة والمشكلة الشاقة. ولعله اختار مقولة "الابهام" من قبيل الأخذ على الشعر الحديث تعميته وانغلاقه. ففي هذه المقولة شيء من الذم المسبق او القدح الجاهز. وبينما ينقل عن الناقد جان برتليمي ان الشعر "شيء غامض ولا يستطيع ان يكون غير ذلك ما دام من اشد مراكز الشاعر غموضاً" او عن ياكبسون ان "الغموض ملمح لازم للشعر" يستخدم مقولة "الابهام" الدلالي في كلامه عن مظاهر هذا الابهام في الشعر العربي الحديث معتبراً ان هذه المظاهر تشبه "المتاريس" التي يجب إزالتها ص290. أما لماذا الابهام في الشعر الحديث وليس في الشعر العربي القديم او في الشعر عموماً، فهذه مقولة تضمر موقفاً مسبقاً ايضاً من قضية الحداثة او من بعض تجلّياتها. ترى هل الغموض او الابهام صفة ملازمة للشعر الحديث فقط؟ يورد الباحث في مستهل كتابه ان غموض ابي تمّام كان موقع جدل نقدي وأن انتصار ابي اسحاق للغموض دفعه الى القول في "المثل السائر": "أفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعض مماطلة منه". ثم ينأى الباحث في عمق التاريخ لينقل قولاً كتب على بردية فرعونية جاء فيه: "ليتني أملك عبارات ليست معروفة وأقوالاً غريبة ولغة جديدة لم تستعمل...".
ليس الغموض في جوهره إذاً صفة تسبغ على الشعر الحديث فقط ولا مأخذاً يؤخذ عليه. فهو طبع الكثير من الشعر العربي القديم والشعر العالمي القديم. هل كل شعر المتنبي واضح؟ أليس شعر أبي تمام والمعرّي على مقدار غير يسير من الغموض؟ أليست المعلّقات الجاهلية على شيء من الغموض أيضاً؟ وماذا عن "الياذة" هوميروس و"جحيم" دانتي؟ بل ماذا عن الشعر الصوفي القديم المتمثل في تجلّيات الحلاج وشطحات البسطامي ومواقف النفري وإشراقات ابن العربي؟
قد يكون بعض الشعر الحديث مغالياً في التعمية والمجانية والعبث والركاكة لكن هذه المآخذ لا تنطبق على الحداثة الشعرية عموماً. فمثلما عرف الشعر العمودي ركاماً من النظم الخاوي والقصائد "المناسباتية" عرف الشعر الحديث قدراً من قصائد اللغو واللعب اللفظي والهتك السطحي... ولعل قضية الغموض هي ابعد وأعمق من ان تحدّ في مظاهر او عوامل معينة وجاهزة. فالغموض الذي يؤخذ على الشعر، كما يعبّر سان جون بيرس في "خطاب ستوكهولم" حين تسلّمة جائزة نوبل عام 1960، "لا يتعلق بطبيعته الخاصة التي من مهمتها ان تضيء، ولكن بالليل نفسه الذي يكتشفه الشعر والذي عليه ان يكتشفه: ليل النفس ذاتها، ليل السر الذي يغمر الكائن البشري". وما دام الباحث استشهد كثيراً بجمل من مالارميه انتخبها من بعض الكتب العربية فان الناقد الفرنسي شارل مورون الذي وضع كتاباً عنه عنوانه "مالارميه الغامض" يقرن صفة الغموض بصفة الاستنارة قائلاً عنه "مالارميه المنوّر". أما بول فاليري الذي عرّج الباحث على بعض اقوال معرّبة له فهو في شعره الموزون والمقفّى أشد غموضاً وإبهاماً بحسب مفردة الباحث مما هو في شعره الحر والنثري. ويكفي ان يستعيد القارئ قصيدته الرهيبة "بارك الشابة" ليدرك ماذا يعني الغموض من عمق فلسفي ورؤيا وبعد اسطوري. وهذا ما ينطبق على مالارميه نفسه الذي لا يقل شعره الموزون في منظومته "هيرودياد" عن شعره الصامت او قصيدته البيضاء التي أسست شعر البياض والصمت وأقصد قصيدة "رمية نرد" التي تحتمل اكثر من مقاربة وقراءة. "الشعر لا يسعى الى ان يفسّر بل الى ان يفهم"، يقول الناقد جورج جان. أما الناقد جان كوهين الذي يستشهد به الباحث السعودي فيقول مدافعاً عن الغموض: "الجملة الشعرية هي موضوعياً مخطئة لكنها ذاتياً مصيبة".
ولئن سعى الباحث عبدالرحمن محمد القعود جاهداً الى الاحاطة بعوامل الابهام ومظاهره وآليات تأويله فان بحثه ظل مقصوراً على البعد النظري. وبعض التأويلات التي قدمها لا تكفي لتؤلف البعد التطبيقي الذي تفترضه مثل هذه الدراسات. فما معنى ان يخلص، بعد اكثر من 370 صفحة، الى ان المناهج النقدية القديمة وطرائق التلقي التقليدية عاجزة عن التعامل مع النص الشعري الحداثي؟ بل ما معنى ان يشير الى ان الأدوات والآليات الجديدة التي ظهرت قادرة على كشف النص الحداثي والحفر فيه وإنتاجه؟
يواجه قارئ كتاب "الابهام في شعر الحداثة" الكثير من العناوين والمقولات الرنانة والتعابير النقدية والمصطلحات لكنه في ختام القراءة لا يلمس يقيناً مظاهر الابهام ولا عوامله ولا آليات تأويله. كل ما يبقى في ذاكرته ان المؤلف حاول ان يوثّق الكثير مما قيل وكتب في مضمار الحقول التي تطرق اليها كما سبقت الاشارة. ولا يغيب عن بال القارئ الحصيف ان الباحث يستخدم بعض المصطلحات والتعابير النقدية من غير ان يوليها الاهتمام المفترض. يذكر الباحث كتاباً هو من اهم الابحاث في قضية الغموض وأعني كتاب الناقد وليم إمبسون "سبعة انواع من الغموض" وعوض ان يفيد منه ويعوّل عليه يمرّ به مرّ الكرام تماماً مثلما فعل مع الآخرين: بودلير، مالارميه، إليوت وسواهم... وقد حاول إمبسون في كتابه - المرجع - ان يستنطق "المسكوت عنه" في النص الشعري والمسرحي، القديم والحديث، ليؤكد ان الغموض صفة رافقت الشعر غابراً وستظل ترافقه. فالغموض في نظره "مقياس ضمني للقيمة". ولم ينثن إمبسون عن تحليل نصوص من شكسبير وبن جونسون وملتون كما من شيلي وكيتس ووردزورث وسواهم. اما العلاقة بين الفلسفة والشعر فتحتاج الى بحث اعمق وأطول خصوصاً ان مراجع كثيرة تناولت هذه العلاقة كما ينبغي. وكذلك الصوفية التي لم يعرها الباحث ما يلائمها من تعمّق وتركيز في التحليل وبدا اتكاؤه على اقوال ادونيس في العلاقة بين الصوفية والسوريالية واهياً إذ تحتاج المقارنة التعسفية بين الشطح الصوفي و"الكتابة الآلية" الى الكثير من التحليل والالمام بماهيتين متباعدتين كل التباعد. وهكذا الأمر في البعد الاسطوري او الثقافة، وكلاهما يعتبرهما من عوامل الابهام. اما تناوله مفهوم الحداثة في الغرب والحداثة العربية فبدا بدوره مجتزأ على رغم حشده الكثير من الشواهد.
"شعر" والسوريالية
ومما يؤخذ على الباحث ايضاً إقحامه مجلة "شعر" في خضم السوريالية او اعتباره قصيدة "رؤيا" لأدونيس ذات "توجه سوريالي واضح". ولو عاد الى الأعداد الأولى من مجلة "شعر" لاكتشف ان لا علاقة لها بالسوريالية سواء عبر تبنّي يوسف الخال مؤسس المجلة بيان الشاعر الأميركي ارشيبالد ماكليش ام عبر القصائد الكلاسيكية والرمزية التي نشرت في تلك الأعداد. اما السوريالية فلن تظهر بعض ملامحها إلا عبر قلّة من شعراء المجلة الذين لم يكونوا سورياليين لا في المعنى العقيديّ ولا في المعنى المدرسيّ والتقني.
وكذلك الأمر في شأن أدونيس الذي لم يكن سوريالياً وإن تأثر ببعض النظريات الحديثة. ويكفي الاطلاع على منتقيات أدونيس من الشعر العربي القديم التي دأب على نشرها على صفحات "شعر". ولعل، في تبنّي الباحث ترجمة Gratuitژ ب"الاعتباطية" بدلاً من "المجانية" في سياق كلامه عن قصيدة النثر، بعضاً من سوء الالمام بما يعنيه هذا المصطلح الذي لا يمكن ان يترجم إلا ب"المجانية". فما قصدته سوزان برنار هنا هو ان الشعر لا غاية له سوى نفسه في منأى عن اي غاية اخرى اخلاقية او اجتماعية. وهذا المصطلح وجد انطلاقته الأولى مع بودلير الذي دحض اي غاية اخلاقية يمكن الشعر ان يضمرها.
والإشكال نفسه يقع إزاء مصطلح "الشعر الصافي" الذي لا يمكن ان يقرأ "غربياً" من دون العودة الى كتاب هنري بريمون الشهير الذي يحمل المصطلح نفسه عنواناً وقد بات من الكتب الكلاسيكية في النقد الفرنسي. ويصف بريمون الشعر الصافي ب"الحقيقة السرية" ويستشهد بما قاله بودلير عن "السرّ الايحائي".
ولئلا يطول الكلام، لا بد ختاماً من الاشارة الى ان فرادة كتاب الباحث عبدالرحمن القعود تكمن في كونه "مجمع" ما كتب وقيل في المصطلحات التي فرضتها الحداثة الشعرية في الكتب والمجلات والصحف. وهو بمثابة مدخل مهم لقراءة الحداثة التي تجلّت في الستينات والسبعينات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.