حرائق الغابات تلتهم 6 ملايين هكتار في كندا حتى الآن    رياح نشطة وأتربة مثارة في عدة مناطق    مساعدات غذاء وإيواء للنازحين من السويداء إلى درعا    الداخلية : ضبط (23167) مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    الاتحاد يضم الغامدي حتى 2023    بوصلة إيزاك تتحول من ليفربول إلى الهلال    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بحضور رئيس النادي    إنقاذ 18 عاملًا في منجم ذهب بكولومبيا    البرازيلي "شاموسكا" مدرباً للتعاون مجدداً    الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    تراجع أسعار النفط    مقتل ثلاثة أشخاص في انفجار بمركز تدريب للشرطة في لوس أنجلوس    إدارة "النصر"تعيّن البرتغالي"خوسيه سيميدو"رئسياً تنفيذياً    أمير الشرقية يدشّن المخطط العام لمطار الملك فهد الدولي... الأحد    النصر: تعيين البرتغالي سيميدو رئيسًا تنفيذيًا مكلّفًا    أرقام رائعة تُميز ديفيد هانكو مدافع النصر المُنتظر    الهلال يدخل سباق التعاقد مع مهاجم نيوكاسل    للمسؤول … طريق لزمة – الوهابة في انتظار كاميرات ساهر والإنارة    "وِرث" و"السودة للتطوير" تطلقان برنامجًا تدريبيًّا لفن القط العسيري    2000 ريال تكلفة كتابة السيرة الذاتية للباحثين عن عمل    1.9 مليون مصلٍ بالروضة الشريفة وأكثر من 3.4 مليون زائر للنبي صلى الله عليه وسلم    المعيقلي: «لا حول ولا قوة إلا بالله» كنز من كنوز الجنة    حسين آل الشيخ: النميمة تفسد الإخاء وتورث العداوة    حساد المتنبي وشاعريته    ميراث المدينة الأولى    حملات إعلامية بين «كيد النساء» و«تبعية الأطفال»    أبعاد الاستشراق المختص بالإسلاميات هامشية مزدوجة    "هيئة الطرق": الباحة أرض الضباب.. رحلة صيفية ساحرة تعانق الغيوم عبر شبكة طرق متطورة    الجبل الأسود في جازان.. قمم تعانق الضباب وتجذب الزوار بأجوائها الرائعة    إنقاذ مريضة تسعينية بتقنية متقدمة في مركز صحة القلب بمدينة الملك سعود الطبية    جراحة تنهي معاناة مريضة من آلام مزمنة في الوجه والبلع استمرت لسنوات ب"سعود الطبية"    تجمع مكة الصحي يفعّل خدمة فحص ما قبل الزواج بمركز صحي العوالي    اختتام أعمال الإجتماع الأول للجان الفرعية ببرنامج الجبيل مدينة صحية    خارطة لزيادة الاهتمام بالكاريكاتير    معادلة عكسية في زيارة الفعاليات بين الإناث والذكور    مهند شبير يحول شغفه بالعسل إلى علامة سعودية    السعودية: نرفض كافة التدخلات الخارجية في سوريا    جامعة الإمام عبد الرحمن تختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي    (إثراء) يعلن عن فوز 4 فرق في المنافسة الوطنية لسباق STEM السعودية    برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية يعلن توطين تقنية «فيچ قارد»    المملكة تعزي العراق قيادة وحكومة وشعبًا في ضحايا «حريق الكوت»    تعليم الطائف يختتم فعاليات برنامج موهبة الإثرائي الأكاديمي لأكثر من 200 طالب وطالبة    صدور بيان عن السعودية و 10 دول حول تطورات الأحداث في سوريا    أمير منطقة جازان يستقبل وكيل الإمارة والوكلاء المساعدين الجدد    المدينة المنورة تبرز ريادتها في المنتدى السياسي 2025    الأولى عالميا.. التخصصي يزرع جهاز دعم بطيني مزدوج بمساعدة الروبوت    تنفيذ حكم القتل تعزيرًا بقاتل الدكتور عبد الملك بكر قاضي    وزارة الحج والعمرة تكرم عمر بالبيد    المفتي يستعرض أعمال "الإفتاء" ومشاريع "ترابط"    20 قتيلاً.. وتصعيد إنساني خطير في غزة.. مجزرة إسرائيلية في خان يونس    ضبط 275 كجم مخدرات والإطاحة ب11 مروجاً    د. باجبير يتلقى التعازي في وفاة ابنة شقيقه    " الأمن العام" يعرف بخطوات إصدار شهادة خلو سوابق    بوتين لا ينوي وقف الحرب.. روسيا تواصل استهداف مدن أوكرانيا    نيابة عن أمير عسير محافظ طريب يكرم (38) متفوقًا ومتفوقة بالدورة (14) في محافظة طريب    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الولايات المتحدة وإسرائيل وفلسطين ... وعبثية عملية السلام
نشر في الحياة يوم 19 - 04 - 2002

لاحظ باروخ كيميرلينغ وهو أحد أساتذة علم الاجتماع في الجامعة العبرية قبل سنة أن "ما كنا نخاف منه يتحقق الآن". وهو أن اليهود والفلسطينيين بدأوا ينتكسون إلى حالة من العصبية الجاهلية.... لهذا يبدو كأن الحرب مصير لا مفر منه، وهي حرب "استعمارية شريرة". وبعد غزو إسرائيل لمخيمات اللاجئين هذه السنة كتب زميلُه زئيف ستيرنهيل أن "الحياة الإنسانية في إسرائيل الاستعمارية... رخيصة". ذلك أن قادة ]إسرائيل[ لم يعودوا يخجلون من الحديث عن الحرب في حين أن ما يقومون به حقيقةً لا يعدو أن يكون صنفًا من إجراءات الضَّبط الاستعماري، وهو ما يذكِّر باستيلاء جهاز الشرطة الأبيض على مَواطن السود في جنوب افريقيا خلال فترة الفصل العنصري.
يؤكد كيميرلينغ وستيرنهيل ما هو واضح: عدم وجود تناسب بين "المجموعتين الوطنيتين العرقيتين" اللتين تنتكسان إلى حالة القبلية. ذلك أن الصراع يتركَّز في المناطق التي ظلت تحت الاحتلال الإسرائيلي العسكري العنيف طوال خمس وثلاثين سنة. أما المحتل فقوة عسكرية كبرى، وهو يتصرف معتمداً على دعم عسكري واقتصادي وديبلوماسي يستمده من القوة العالمية العظمى الوحيدة. وأما الشعب المحتل فهو أعزل ويقف وحيداً، ويعيش كثير من أفراده في أوضاع بالغة السوء داخل مخيمات بائسة، وهم يعانون في الوقت الحاضر من إرهاب أكثر فظاعة ودموية من نوع الإرهاب المألوف في "الحروب الاستعمارية الشريرة" كما أنه يقوم الآن هو نفسه ببعض الأعمال الوحشية من أجل الانتقام.
وغيرت "عملية أوسلو للسلام" شكل هذا الاحتلال لكنها لم تغير من طبيعته الأساسية. إذ كتب المؤرخ الإسرائيلي شلومو بن عامي قبل فترة وجيزة من التحاقه بالعمل في حكومة إيهود براك أن "اتفاقات أوسلو تقوم على قواعد النظام الاستعماري الجديد، ويعني هذا أنها أُسست على نوع من الحياة يتصف باعتماد أحد الفريقين على الآخر إلى الأبد".
ولا يمكن لأحد أن يشك في أن دور الولايات المتحدة سيظل دوراً حاسماً. لذلك فمن الأهمية بمكان أن نفهم الطبيعة التي كان عليها هذا الدور في السابق، والكيفية التي ينظر بها إليه الآن داخل الولايات المتحدة. ويوضح موقف الحمائم في هذا الدور مقال افتتاحي في جريدة "نيويورك تايمز" 7 نيسان / أبريل يمتدح فيه كاتبوه "الخطاب المُبدع جداً الذي ألقاه الرئيس بوش"، و"الأفق الآخذ في التشكُّل" الذي عبَّر عنه في ذلك الخطاب. ويتمثل العنصر الأول فيه في "إنهاء الإرهاب الفلسطيني"، حالاً. ويعقب ذلك بفترة "تجميد، ومن ثَمَّ تفكيك، المستوطنات اليهودية والبدء في المحادثات لرسم حدود جديدة" من أجل إنهاء الاحتلال والسماح بتأسيس دولة فلسطينية. وإذا توقف الإرهاب الفلسطيني فسوف يُشجَّع الإسرائيليون على "القبول في شكل جاد بالمبادرة التاريخية التي تقدمت بها الجامعة العربية وتقضي بمبادلة السلام والاعتراف الكامل بانسحاب إسرائيلي". لكن يجب على زعماء الفلسطينيين أوَّلا أن يبرهنوا على أنهم "شركاء سياسيون حقيقيون".
ولا يعرف العالم الواقعي إلا قليلاً من أمثال هذا الثناء على النفس، وهو تكرار يكاد يكون حرفياً لما حدث خلال الثمانينات، حين كانت الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان باندفاع لا مثيل له نحو التملص من التجاوب مع مقترحات منظمة التحرير الفلسطينية الداعية لبدء المحادثات والحل السلمي في الوقت الذي تتمسكان فيه بموقفهما الرافض للمحادثات مع منظمة التحرير الفلسطينية ورفض وجود "دولة فلسطينية ثانية..." ذلك أن الأردن يمثل دولة فلسطينية قائمة، والإصرار على "أنه لن يكون هناك تغيير لوضع يهودا والسامرة وغزة يتجاوز الخطوط الأساسية التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية" أي الخطة التي وضعتها حكومة بيريز وشامير الائتلافية في أيار مايو 1989، وتبناها الرئيس بوش الأب في ما عرف بخطة بيكر في كانون الأول ديسمبر 1989. ولم تنشر الصحف الأميركية الكبرى أي شيء عن هذه القضايا برمتها، كما هي العادة المتبعة من قبل، في الوقت الذي يلوم فيه المعلِّقون الفلسطينيين على تبنيهم الأحادي للإرهاب، وهو ما يقف حجر عثرة أمام الجهود الإنسانية للولايات المتحدة وحلفائها.
أما في العالم الواقعي فقد ظل العائق الرئيسُ ل"الأفق الآخذ في التشكل" ولا يزال يتمثل في الرفض الأميركي الأحادي. وليس هناك أي جديد في "المبادرة التاريخية للجامعة العربية" إذ هي تكرار للمواد الرئيسة في القرار الذي اتخذه مجلس الأمن في كانون الثاني يناير 1976 وهو الذي أقره العالم بأجمعه تقريباً، ويشمل ذلك الدول العربية الرئيسة، ومنظمة التحرير الفلسطينية وأوروبا والمنظومة السوفياتية، ولم يتخلف عن الموافقة عليه إجمالا أي فريق له وزن. لكن إسرائيل وحدها اعترضت عليه واستخدمت الولايات المتحدة وحدها حق النقض ضده، وبهذا قضي عليه وأُخرج من سجل التاريخ. ودعا القرار إلى تسوية سياسية تقوم على الحدود المعترف بها دولياً "مع بعض الإجراءات الضرورية، من أجل ضمان السيادة والتواصل الإقليمي، والاستقلال السياسي لكل الدول في المنطقة وضمان حقها في العيش بسلام داخل حدود آمنة ومعترف بها"، وهو تعديل لقرار مجلس الأمن الرقم 242 بحسب تفسير الولايات المتحدة الرسمي له أيضاً، وطوِّر ليتضمن الإشارة إلى دولة فلسطينية. كما أفشلت الولايات المتحدة منذئذ مبادرات مماثلة تقدمت بها الدول العربية ومنظمة التحرير والدول الأوروبية، وهي المبادرات التي حُجبت في الغالب أو مُنعت من أن تكون موضوعاً للنقاش العلني في الولايات المتحدة.
ويعود تاريخ الرفض الأميركي إلى خمس سنوات سابقة، أي إلى شباط فبراير 1971، حين عرض الرئيس السادات على إسرائيل معاهدة للسلام الشامل في مقابل انسحابها من الأراضي المصرية، ولم يتضمن عرضه ذاك أي حديث عن الحقوق الوطنية للفلسطينيين أو عن مصير الأراضي العربية المحتلة الأخرى. وكانت الحكومة العمالية الإسرائيلية نظرت إلى تلك المبادرة على أنها مبادرة سلمية حقيقية، لكنها رفضتها، لأنها كانت تخطط لتوسيع مستعمراتها في شمال سيناء: وهو ما فعلته من دون إبطاء، ونفذته بعنف لا مثيل له، وكان ذلك هو السبب الذي أدى إلى حرب 1973. وقد فهمت إسرائيل والولايات المتحدة أن السلام ممكن بحسب شروط السياسة الرسمية للولايات المتحدة. لكن نتيجة تلك المبادرة، كما فسر ذلك الزعيم العمالي عازر وايزمان الذي صار رئيساً لإسرائيل في ما بعد لن تجعل من الممكن لإسرائيل أن "تعيش بحسب ما يقتضيه الامتداد الجغرافي لها والروح والنوعية التي تتميز بها إسرائيل الآن". وكتب المعلق الإسرائيلي آموس آلون حينذاك أن السادات تسبب في زرع "الرعب" في القيادة السياسية الإسرائيلية حين أعلن عن استعداده "للدخول في اتفاق سلام مع إسرائيل، واستعداده لاحترام استقلالها وسيادتها ضمن "حدود آمنة ومعترف بها".
ونجح كيسنجر في جهوده لعرقلة السلام، إذ أرسى القواعد لتفضيل ما سماه ب"الجمود": ويعني ألا تكون هناك أية محادثات، إنما مجرد استعمال للقوة. كما صُرف النظر عن المبادرة السلمية الأردنية أيضاً. ومنذ ذلك الوقت، حافظت السياسة الأميركية الرسمية على سياستها في القبول بمبدأ الانسحاب المجمع عليه دولياً - حتى فترة رئاسة كلينتون الذي عمل فعلاً على إبطال قرارات الأمم المتحدة والاعتبارات الأخرى للقانون الدولي. لكن السياسة الأميركية من حيث الممارسة ظلت خاضعة للخطوط العامة التي رسمها كيسنجر، وهي التي تقضي بقبول اللجوء إلى المحادثات حين لا يكون هناك مفر منها فقط، كما حدث لكيسنجر بعد ما كاد يكون انهياراً تسببت فيه حرب 1973 التي يتحمل كيسنجر نصيباً كبيراً من المسؤولية عنها، وبحسب الشروط التي تحدث عنها بن عامي كذلك.
وتَنْبع خططُ التعامل مع الفلسطينيين من الخطط العريضة التي وضعها موشي دايان، وكان أحد قادة حزب العمل ويوصف بأنه الأكثر تعاطفاً مع معاناة الفلسطينيين. فقد نصح مجلسَ الوزراء الإسرائيلي بأنه يجب على إسرائيل أن تبين للاجئين بوضوح أنه "ليس لدينا حل لمشكلتكم، فأنتم ستستمرون بالعيش كالكلاب، أما من يريد منكم المغادرة فإننا سنسمح له بذلك، ثم سنرى ما الذي ستؤدي إليه هذه السياسة". ولما اعترض عليه أجاب بأنه إنما يروي كلام بن غوريون الذي قال: "إن أي إنسان يحاول الكلام عن المسألة الصهيونية من زاوية نظر أخلاقية لا يعد صهيونياً". لكن يمكنه الاستشهاد أيضاً بقول حاييم وايزمان الذي كان يرى أن مصير "مئات الآلاف من الزنوج" في الوطن القومي اليهودي، ليس أمراً ذا بال.
لذلك لا غرابة أن يتمظهر المبدأ الموجِّه للاحتلال بالإذلال المتواصل والمهين، إضافة إلى التعذيب والإرهاب وتخريب الممتلكات والتهجير وبناء المستعمرات والاستيلاء على المصادر الحيوية الأساسية، وخصوصاً الماء. وأوجب هذا بالطبع التأييدَ الأميركي الحاسم، الذي تواصل خلال سنوات كلينتون وباراك. فأوردت الصحف الإسرائيلية في فترة الانتقال بين رئاسة باراك وشارون تقارير مفادها أن "حكومة باراك تركت لحكومة شارون إرثا ممتازاً مفاجئاً". ويتمثل هذا الإرث في "وصول معدل بناء المنازل في الأراضي ]المحتلة[ في عهده إلى أعلى نسبة منذ كان شارون وزيرا للإعمار والمستعمرات سنة 1992 قبل اتفاقات أوسلو". وجاء تمويل هذا النشاط الاستيطاني من دافع الضرائب الأميركي، وهو الذي خدعتْه خرافاتُ "الآفاق" المتوهَّمة و"شهامة" القادة الأميركيين، الذين أحبطهم الإرهابيون مثل عرفات الذين خسروا "ثقتنا"، وربما أحبطتهم كذلك الأعمال التي قام بها بعض الإسرائيليين المتطرفين الذين بالغوا في ردود أفعالهم ضد جرائم أولئك الإرهابيين.
أما كيف يستطيع عرفات استعادة ثقتنا، ففسر ذلك تفسيراً دقيقاً إدوارد ووكر المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية عن شؤون الشرق الأوسط في فترة رئاسة كلينتون. وتتمثل هذه الكيفية في أنه يجب على عرفات "الشرير" أن يعلن من غير غموض أننا "نضع مستقبلنا ومصيرنا في أيدي الولايات المتحدة"، على رغم من أنها هي التي قادت المحاولات التي كان هدفها عرقلة الحقوق الفلسطينية لمدة ثلاثين سنة.
سمحت الولايات المتحدة لمجلس الأمن أن يصدر قراراً يدعو إلى "أُفق" لإنشاء دولة فلسطينية. لكن هذه الإشارة المستقبلية، التي حازت ثناء كبيراً، لا تصل حتى إلى مستوى جنوب افريقيا قبل أربعين سنة حين نفَّذ نظام الفصل العنصري فعلا "أُفقَه" لخلق دويلات يديرها السود، وهي دويلات لم تكن تبعد في قانونيتها وقابليتها للحياة كثيراً في الأقل عن الاعتماد الاستعماري الجديد الذي تخططه الولايات المتحدة وإسرائيل الآن للمناطق الفلسطينية المحتلة. وفي الوقت نفسه، ظلت الولايات المتحدة مستمرة في "دعم الإرهاب"، إذا استعرنا عبارة الرئيس بوش، وذلك من طريق مد إسرائيل بوسائل الإرهاب والتدمير، ويشمل ذلك مدَّها بشحنات جديدة من أكثر طائرات المروحية تقدماً تقنياً في ترسانة الأسلحة الأميركية روبرت فيسك، جريدة الإندبندنت البريطانية، 7 نيسان / ابريل. وتمثل هذه التصرفات ردود الفعل النموذجية على الوحشية التي تنفذها دولة تابعة. ومن أجل الاستشهاد على هذا نورد مثالا نموذجياً واحداً، ففي الأيام الأولى للانتفاضة الحالية استخدمت إسرائيل طائرات مروحية من صنع أميركي لقصف الأهداف المدنية، وهو ما نتج عنه قتل عشرة فلسطينيين وجرح خمسة وثلاثين، وذاك عمل لا يمكن تصنيفه تحت مسمى "الدفاع عن النفس". وكان رد فعل كلينتون على ذلك توقيعُه لاتفاق تُعَد "أكبر عملية شراء لطائرات المروحية العسكرية قام بها سلاح الجو الإسرائيلي طوال عقد من الزمن "جريدة هاآرتس، 3 تشرين الأول / أكتوبر، 2001، إضافة إلى شراء قطع غيار لمروحيات من طراز أباتشي الهجومية. وساعدت الصحافة في هذا العمل من طريق التعتيم على هذه الحقائق برفضها نشر الأخبار عنها. وبعد أسابيع قليلة بدأت إسرائيل في استعمال المروحيات المصنوعة في الولايات المتحدة في عمليات الاغتيال كذلك. وكان أحد القرارات الأولى لإدارة بوش إرسال مروحيات من طراز لونجبو longbow إلى إسرائيل، وهي أكثر أدوات القتل المتوافرة شراسة. ولم تتناول الصحف هذه العملية إلا بصورة متوارية في صفحات الاقتصاد.
واتضح حرص واشنطن على "دعم الإرهاب" مرة أخرى في كانون الأول حين استخدمت حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الداعي إلى تطبيق خطة ميتشل وإرسال مراقبين دوليين للإشراف على الحد من مستوى العنف، وهي الخطة التي ينظر إليها، بإجماع الجميع، على أنها أكثر الوسائل فاعلية لوقف العنف، وهو ما عارضته إسرائيل وعرقلت الولايات المتحدة تنفيذه كما هو دأبها دائماً. واستخدمت الولايات المتحدة حق النقض ضد ذلك القرار خلال فترة هدوء استمر ثلاثة أسابيع - ما يعني أنه لم يقتل خلالها إلا جندي إسرائيلي واحد، إضافة إلى واحد وعشرين فلسطينياً منهم أحد عشر طفلاً، وستة عشر اجتياحاً نفذتها القوات الإسرائيلية في المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية غراهام يوشر، مجلة Middle East International ،25 كانون الثاني، 2002. وقبل عشرة أيام من استخدامها حق النقض ضد قرار مجلس الأمن، قاطعت الولايات المتحدة، مؤتمراً عالمياً في جنيف وهو ما يعني عرقلته - وكان هذا المؤتمر أصدر قراراً، مرة أخرى، يقضي بأن اتفاق جنيف الرابعة ينطبق على المناطق المحتلة، ويعني هذا أن كل ما تقوم به الولايات المتحدة وإسرائيل تقريباً هو "مخالفة خطيرة" ]لهذا الاتفاق[: أي أنه، بكلمات أبسط، "جريمة حرب". وقد أعلن المؤتمر صراحة أن المستعمرات الإسرائيلية التي تمولها الولايات المتحدة غير قانونية، ودان عمليات "القتل المتعمد، والتعذيب، والتهجير غير القانوني، والحرمان المتعمد من الحق في محاكمة عادلة وعادية، والتخريب المتعمد الهائل للممتلكات والاستيلاء عليها... التي تنفذ بطريقة غير قانونية ومتعمدة". ولما كانت الولايات المتحدة أحد الموقعين الأصليين على الاتفاق فإنها ملزمة بموجبه أن تحاكِم أولئك المسؤولين عن مثل هذه الجرائم، وهو ما يشمل الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة أيضاً. وكما هي العادة قابلت الصحافة كل هذا بالصمت.
ولم تتخل الولايات المتحدة إلى الآن عن اعترافها الرسمي بصلاحية تطبيق معاهدات جنيف على المناطق المحتلة، أو عن شجبها لمخالفات إسرائيل لهذه الاتفاقات بوصفها "القوة المحتلة" وهو ما أكده جورج بوش الأب حين كان مندوباً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة. وقد كرر مجلس الأمن في تشرين الأول 2000 تأكيد الإجماع على هذه المسألة، "داعياً إسرائيل، بصفتها القوة المحتلة، إلى الالتزام بصورة دقيقة بواجباتها التي يحددها اتفاق جنيف الرابع". وصوِّت على هذا القرار بغالبية أربعة عشر صوتاً ضد لا شيء. وامتنعت إدارة كلينتون عن التصويت، وربما كان ذلك لعدم رغبتها في التصويت ضد أحد المبادئ الرئيسة للقانون الإنساني العالمي، خصوصاً في ضوء الظروف التي شرِّع فيها: وهي تجريم النازية بصورة رسمية. وحوِّل هذا بسرعة إلى ثُقْب الذاكرة، وهو ما يعني إسهاماً آخر في "دعم الإرهاب".
وحتى يمكن السماح بمناقشة مثل هذه الأمور بصورة علنية، وحتى يسمح بفهم المقتضيات الناتجة عنها، فإن من العبث أن ينادي أحد "بانخراط الولايات المتحدة في عملية السلام"، ومن الواضح أن مستقبل السعي من أجل إجراءات بناءة في هذا السبيل سيبقى كالحاً.
* مفكر أميركي. والمقال سبق نشره في مجلة Z في 11/4/2002.
** ننقل النص من الانكليزية الى العربية وحصل على الإذن بنشره، الكاتب السعودي الدكتور حمزة بن قبلان المزيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.