الأمم المتحدة: انتشار المجاعة في قطاع غزة    إيران تحبط مخططات لاغتيال 23 مسؤولا    روسيا تشترط للتسوية مع أوكرانيا الخروج من الناتو    منصة قبول : 339 ألف طالب وطالبة أكدوا قبولهم في الجامعات والكليات    الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة تُطلق حملة "هاكاثون مكة الذكية"    ذروة شهب دلتا الدلويات تضيء سماء السعودية فجر الأربعاء    باكستان تؤكد دعمها الثابت لإقامة دولة فلسطينية مستقلة    النفط يواصل مكاسبه    أمين "التعاون الخليجي" يدعو العالم للاعتراف بدولة فلسطين    "حساب المواطن" يصدر نتائج الأهلية لدورة أغسطس    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على فهد بن ثنيان    طالبت السوداني بالتحرك.. واشنطن تتهم حزب الله بتنفيذ هجوم بغداد    دعت إلى خطوات فورية لوقف إطلاق النار.. ألمانيا تلوح بزيادة الضغط على إسرائيل    "القادسية" يعلن عودة ياسر الشهراني    نيابة عن وزير الخارجية.. مندوب المملكة لدى الأمم المتحدة يشارك في الاجتماع التنسيقي الخليجي    أكد حرص المملكة على تبادل الخبرات بين المختصين في البلدين.. وزير الداخلية ونظيره الفرنسي يوقعان وثيقة تعاون أمني    سمو وزير الخارجية يصل نيويورك للمشاركة في ترؤس الاجتماع الوزاري لمؤتمر حل الدولتين    83 ترخيصاً وآلاف الوظائف.. 58 مصنعاً جديداً بدأت الإنتاج    قضايا تمس حياة الناس وممتلكاتهم .. القحطاني: تحذيرات الطقس مسؤولية حصرية للأرصاد    نجوم عالميون في حفلات صيف" مدل بيست"    تامر حسني ينتقد عمرو دياب على "منصات التواصل"    مانجا تطلق لعبة "Sonic Racing" في الشرق الأوسط    الخلايا الجذعية تعالج "السكري من النوع الأول"    وزارة الصحة تتصدى لالتهاب الكبد الفيروسي: أكثر من 19 مليون فحص و 95% نسبة الشفاء    مؤتمر الرياضة العالمية الجديدة 2025 يوسّع قائمة المشاركين    منتخبنا للشباب يواجه قطر والكويت واليمن    التحكيم الرياضي ورابطة المحترفين يوقعان اتفاقية تعاون    أخضر الصالات يواجه أستراليا    76% من اكتتابات الخليج بالسوق السعودي    مشاريع البناء ترفع أسعار الرمل الأحمر 19%    وزير الداخلية يلتقي مجموعة من منسوبي الوزارة المبتعثين للدراسة في فرنسا    تقدم الدول وتخلفها    الدوران.. جوهر الظواهر وأسرار الحياة    الانحراف عن المسارات مخالفة مرورية    ألتمان يعترف: الذكاء الاصطناعي يخيفني    قبلة على جبين أرض السعودية    الطبيب والمهندس عقول تتكامل    «المصمك».. ذاكرة الوطن بلغة المتاحف الحديثة    مجلة الفيصل.. نصف قرن من العطاء    جهود متواصلة لحماية المواقع التراثية    وداع وطني لزياد الرحباني    فهم جديد للمعنى كيف تشكل الأزمات طريقة عيشنا    ثقافة القطيع    تداول يعاود الهبوط ويخسر 70 نقطة    الرياض تحتفي بانطلاق العد التنازلي ل"دورة ألعاب التضامن الإسلامي – الرياض 2025″    أمراض تشير إليها الأقدام الباردة    إنزيم جديد يفتح باب علاجات    التلوث الهوائي يزيد الإصابة بالخرف    شوريًّة تحذر من الممارسات المسيئة من بعض المعتمرين والزوار وتقترح الحلول    المسعودي مديرا تنفيذيا للاتصال بكدانة    "الغامدي": متحدثًا رسميًا لوزارة "الشؤون الإسلامية"    أعضاء المجلس المحلي ومشايخ ووجهاء صبيا يهنئون المهندس نمازي بتكليفه رئيسًا للبلدية    أكثر من 1000 جولة رقابية وفنية على الجوامع والمساجد نفذتها إدارة مساجد العيدابي خلال شهر محرم    أمير القصيم يرعى تدشين فعاليات اليوم العالمي لالتهاب الكبد الفيروسي    عقدت اجتماعها الدوري برئاسة المفتي.. هيئة كبار العلماء تستدعي خبراء لتقديم رؤى متخصصة    محمية الأمير محمد بن سلمان تحتفي بولادة أول"وعلين نوبيين"    إحباط تهريب 75,000 قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الهلال الأحمر بجازان يُحقق المركز الأول على مستوى فروع المملكة في الاستجابة للحوادث المرورية والبلاغات الطارئة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مما لا أهمية له تستحق الذكر
نشر في الحياة يوم 22 - 12 - 2002

كان صباحاً مملوءاً بالغبار ذلك اليوم الذي قصدت فيه قريتي بعد اشهر من السفر وسنوات من الابتعاد الإرادي. لم تكن الوالدة في ذلك الصباح على القدر الذي حسبته من الأشواق. كان لقاء عادياً على رغم الغياب الذي تخلله مرضها المفاجئ. فتور غامض تبادلناه في ذلك الصباح الغباري. المنزل، منزلنا الذي تقيم فيه وحيدة في الصيف، كان جافاً وموحشاً. لم تبعث اقامتها فيه اي دفء. كان وجه أمي في ذلك الصباح قاسياً، وأذكر انها عندما جلسنا على الشرفة الغربية، كانت صامتة وحائرة، وأقداح الشاي التي طالما رطبت حَلْقينا في الصباحات، كانت اقل سخونة.
ربما كانت المسافة الطويلة التي قطعتها منذ الصباح الباكر للوصول الى البلدة سبب ذلك التعب المقيم في الحنجرة، التعب الذي يعوق الأمومة او البنوة. عليّ إذاً الاستلقاء قليلاً، لأستأنف بعد ذلك محاولة مواصلة بنوّتي.
الجدران الجافة والمتشققة لغرفتنا، والسرير الذي يصدر اصواتاً فور الاستلقاء عليه، وصورة جدتي، والأغراض الأخرى هي نفسها، لكنها لم تساعدني على اغفاءة صغيرة. كأن هذه الأغراض الرثة لا تمت الي بشيء. كأنها لم يسبق ان تسببت بنوم عميق لي ولأخوتي. بقيت الوالدة على الشرفة ترمق الشجرات النحيلات وترشف الشاي الفاتر. لم تُجد محاولات نومي، فنهضت بنشاط مفتعل، وعدت الى الشرفة. لم يتقدم الوقت كثيراً. ربع ساعة فقط. ربع ساعة ليس كفيلاً بتبديل الأمزجة. اصطدمت مجدداً بصمت الوالدة. لم يكن صمتاً، كان عجزاً عن قول شيء ما. الوالدة التي طالما رغبت بأن نوطد علاقتنا ببلدتنا، كانت شاعرة ربما بأننا لم نعد قادرين. حتى النوم صار صعباً.
خروجي من المنزل لم يخفف هذا المأزق الجديد. العابرون على الطريق رجالاً ونساء أعرفهم جيداً. وجوه ثقيلة ومطرقة. سوء تفاهم كبير ساد عبوري الطريق المؤدية الى ساحة البلدة، حيث كنت اعتقد ان سيارات كثيرة تنتظر نقل الركاب الى اقرب مدينة. لم اتمكن من توجيه التحية الى ذلك الرجل الذي اعرفه جيداً، وهو بدوره لم يلقها. نظرنا الى وجهَي بعضنا ولم يتوقع أي منا ان يبادر الآخر الى التحية. كنا كمن توقفا عن تبادل التحيات منذ زمن بعيد. عبرنا متقاربين من جهتي الشارع، وتقابل وجهانا وانصرفنا من دون ان نفكر كثيراً بما اقدمنا عليه. كان مشهداً في منتهى البرود، وخالياً من اي انفعال. شعرت بأن سخونة مقلقة صعدت من صدري الى رأسي، وبدأت اذناي بالاحمرار وأنا اتابع سيري باتجاه ساحة البلدة، وبدأت اشعر بأن لعابي يجف ويتحول الى كتل صغيرة جامدة ورطبة. فكرت في ان العابرين الذين اعرف معظمهم اكتشفوا حقيقتي. احسست انني جاحد وغمرني خجل غامض.
الطريق المهشمة صارت طرية تحت قدمي وأنا اتابع سيري. لم ألاحظ هذه المرة خطوط شيب جديدة على رؤوس اصحاب محال البقالة الذين طالما أنست للعبور مسرعاً من امام بقالاتهم.
حين وقفت منتظراً قدوم سيارة الأجرة بدأ عرق بارد يرطب ياقة قميصي. لم تكن الساعة تجاوزت الثانية عشرة. كان الوقوف اصعب من السير. بائع الفلافل القديم الذي بترت ساق ابنه في جولة قصف، حوَّل دكانه الى ورشة، وابنه راح ينظر الي محاولاً تخمين من أكون. لم يترافق ذلك مع دعوة او ابتسامة. كنا غرباء تماماً، انا الذي سبق ان حزنت لإصابته كثيراً. عدت ونظرت اليه مجدداً، لاحظت ان قدمه المقطوعة لم تعد علامة تذكر، لقد اعتاد على الساق الاصطناعية ولا داعي للتذكر.
بعد اكثر من ساعة انتظار تناهى صوت من منزل سهام المقابل... "هاي... من تنتظر، لقد تحولت الطريق وعليك انتظار السيارات في الجهة الأخرى من البلدة". كان صوت سهام نفسها، تلك الفتاة التي عرفتها لسنوات طويلة، لكننا لم نلتق منذ اكثر من عشر سنوات. لم تلاق سهام سنوات افتراقنا باكتراث يذكر. وقفتْ على جدار منزلها وخاطبتني كغريب. تقدمتُ باتجاهها وحاولت مجدداً ملاقاتها بطريقة اخرى. كانت قضت سنوات في دراسة الفلسفة في دولة بعيدة، وهي اليوم تُدرِّس مادة الفلسفة في الكويت. قالت ذلك من دون ان تشعرني بأن ذلك يعنيني. حاولت ان اخبرها شيئاً عني. كانت تعرف كل شيء تقريباً، ولكن لم يبد ان لهذا اهمية تذكر. انهت اللقاء بقدر قليل من المودة ودخلت الى منزلها بعد ان ارشدتني الى الطريق الجديد الذي عليّ ان اسلكه لأعود الى بيروت.
من نافذة سيارة الأجرة التي توقفت بعد اشارة مني في محاذاة الطريق الجديد، ظهر منزلنا محاطاً بمنازل كثيرة جميعها خالٍ وخاوٍ. تنبهت الى ان شجرة كبيرة كانت تظلله من الجهة الجنوبية، قُطعت وظهر الجدار الإسمنتي الذي كانت تخفيه متآكلاً. ظهرت على الجدار بقع بيض خلّفها على الأرجح الماء الذي يرشح من الخزان. ظهر لي المنزل من شرفة السيارة كتلة جامدة وبلا شكل. فكرت في ان امي الآن في داخله فلم احب ذلك.
راحت السيارة تبتعد وتنبّهتُ الى ان منازل كثيرة تتخلل جدرانها بقع بيض، وان الماء الكثير الذي تنقله شبكات المياه الجديدة الى بلدتنا، يُخزّن في المنازل، ومع الوقت تنزفه الآبار الهشة التي بناها اهل بلدتنا في بيوتهم الإسمنتية الجديدة. اما الطريق الجديد المؤدي الى بلدتنا فبدّل من حال الوادي الذي قطعه، فصار هذا الأخير مأهولاً بحياة من نوع اسمنت المنازل الخالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.