منزل علي في مخيم عين الحلوة، جنوبلبنان، يقع في حي العائلة التي ينحدر منها، والتي تدرج أيضاً عبرها ليصبح ضابطاً في حركة "فتح". الى جوار منزله، منزل شقيقه الذي يقف عند مدخله أولاده الكثيرون ونساء من العائلة رطّب حر تموز وجوههن. لفّت النسوة رؤوسهن بأقمشة رقيقة لم يحكمن ربطها، فظهرت خصلات من الشعر... لم تحرجهن. الأزقة المؤدية الى منزل علي ضيقة. وينحبس في أرجائها هواء رطب وساخن. الأشجار القليلة التي نبتت خلف جدارين يحدان الطريق، معظمها أشجار تين، ولعل سبب خصوبتها وخضرة أوراقها الشديدة، أقنية المياه الآسنة التي تعبر الطرق الضيقة مكشوفة عارية، لتصب عند جذوعها. الاكتظاظ يجعل الهواء ثقيلاً. والأولاد الذين تعلو أصواتهم وتنخفض لا يشعرون ربما بما تشعر به طفلة في نحو السادسة من عمرها من ضيق وتعب، تغتسل بثيابها تحت مزراب منزلها الذي ترسل أمها عبره المياه بعد "شطفها" الشرفة. فهي تحرك فيك شعورين أو ربما صورتين: الأولى تساؤلات عن ذلك اللهو الذي يجري في المخيم الى أقصاه والذي لا تحده الأجسام والمخاوف وزجر الأهل والكبار، والثانية عدم قدرتك على فصل فعلة الفتاة عن جسمك وداخلك، فما تفعله هي يصيبك شيء منه، إذ ربما ربط الاكتظاظ والهواء الثقيل والجدران المتقاربة والمرتجلة، بين دواخل الناس فانتُشلت منهم قدرتهم على الانفصال وعلى تنصل واحدهم من افعال الآخر. إنها السابعة مساء في المخيم، الوقت الذي لم يبق فيه من الشمس إلا حرارتها. الجدران ساخنة والرجال السمر الذين تظهر رؤوسهم من فوق جدران شرفاتهم يرتشفون شاياً ساخناً وحالكاً، فيما تظهر على وجوههم ملامح الكسل والتغضن أحدثتها قيلولة بعد الظهر. يطرب هؤلاء الرجال في الفترة التي تلي صحوتهم الأولى هذه، لأصوات الأطفال ولهوهم، والرجل منهم وإن زجر أولاده فهو يمارس طقساً لا يهدف الى منعهم من الصراخ، بل يستجيب وظيفته الرخوة وغير الصارمة كأب أو كعم أو خال، والتي تتيح له أن يجلس متكاسلاً أمام منزله أو على شرفته ويرفع صوته ساعة يشاء. سيارة المرسيدس القديمة الطراز التي تعبر الأزقة الضيقة والتي علقت على زجاجها صورة كبيرة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ووضع على سقفها مكبر للصوت تذاع عبره خطبٌ عن الانتفاضة الفلسطينية، لا يُحدث عبورها ولا صوت المكبر الذي ترسله أدنى تغيير في المشهد. الأولاد يلهون والرجال ساهون، والنساء المحجبات من دون احكام أو حرص، جميعهم غير مكترث بالسيارة ومكبر الصوت. لكن يبدو عبورها، من جهة أخرى، أمراً ضرورياً حتى يصبح المشهد عادياً وروتينياً. قطرات "العرق" المنهمرة من شعرات رأسك والمتساقطة على عنقك أثناء جلوسك في منزل علي، المشابه لمنازل معظم سكان المخيم، فاترة وغزيرة. وليس الحر وحده ما يُحدث هذا التعرق. انه الاكتظاظ الذي ينتقل الى داخلك فيرطّبه. وما خروج قطرات العرق فاترة من رأسك وشعرك تحديداً سوى صورة لصعود هذا الازدحام وهذا الهواء الثقيل من رئتيك الى رأسك ليخرج من بعد عرقاً فاتراً. المروحة الكهربائية تحرك الهواء القليل في الغرفة، لكن انقطاع التيار الكهربائي فجأة يخفف دورانها ثم يوقفه في المدة التي تفصل انقطاع الكهرباء عن توقف المروحة. تدهمك الرطوبة من جديد الى أن يتولى علي نقلها الى خط الاشتراك المولد الكهربائي الذي يبيع صاحبه الطاقة أثناء انقطاع التيار. قماش المقاعد الخشن خزّن حرارة الشمس اثناء انتصاف النهار، وراح يرسلها على سكان المنزل وعلى زوّارهم في ساعات بعد الظهر. وأثناء استغراق علي في الحديث عن المخيم والأحداث الأمنية فيه، كان اطفال يقطعون عليه حديثه، أثناء مناداتهم من خارج المنزل ابنه محمد. وكان علي يجيبهم ببداهة من دون أي انزعاج وبصوت مرتفع، ان محمداً ذهب الى النادي نادٍ لحركة فتح، ثم يتابع حديثه بالوتيرة التي توقف عندها. الأحداث تدور في المخيم كما لو أنها وقائع عادية. بالأمس فجر رجال ملتحون مركزاً ل"الكفاح المسلح". لم يسقط قتلى وجرحى، فالتفجير حصل في وقت كثيراً ما يكون فيه المركز خالياً. انه رسالة داخلية، على ما يقول بعض سكان المخيم. وقبل يومين شعر السكان الذين تحاذي منازلهم جبانة المخيم، أن ثمة من يعبث بقبور الموتى. فاكتشفوا في الصباح ان مجموعة شبان نبشت بعض القبور وسرقت جماجم الموتى. ويروي سكان المخيم ان هذا الأمر تكرر غير مرة، وهم يعتقدون ان عظام الجماجم يستعمل بعض طحنه مادة تخلط مع الكوكايين. العمال السوريون غزوا المخيم، بدورهم، وأضافوا الى البطالة المتفشية بين سكانه بطالة جديدة، وبعضهم تطوع في حركة "فتح" ليقبض المئة دولار اميركي آخر الشهر، وبعضهم لجأ الى التنظيمات الاسلامية. يروي رجال من المخيم هذه الوقائع، والتعب لم يعد أمراً عابراً، بل صار جزءاً من ملامحهم ومن نبرات أصواتهم.