كتاب "الخلوة الملكية" الصادر حديثاً للكاتب اللبناني انطوان الدويهي، هو الرابع بعد "كتاب الحالة" و"حديقة الفجر" و"رتبة الغياب" منشورات "دار النهار". وفي هذا الكتاب "الخلوة الملكية" يواصل الدويهي كتابة "الحالة" وبيانها الجمالي الرائق، يذهب الى المكان والزمان حيث يلتقي الشاهد - العارف بما لا يعرف. وليس الشاهد إلا الذات بصورها وعيشها وحواسها واتصالها بروح المطلق مثلما الكتابة عبر ومعان تتصل بالكتاب المطلق الذي يبحث عنه انطوان الدويهي من خلال شهادات وتأملات عن الإنسان والطبيعة والصور. هكذا "الخلوة الملكية"، خلوة الذات في اختبار العيش شأن العبور الهائل في "هذا العالم الدائري شبه المغلق، الذي يلج المرء إليه من المدخل المسقوف ليجد نفسه في الطرق الضيقة المتداخلة". فلا ميراث من هذا العالم غير العجب من الذات، بل العجب "أن هذا المكان يختصر المصير البشري كله"، إذ يستغرب الكاتب "كيف من قام مثلي تلك الأعوام الطويلة في مدينة السين، ومن عرف مثلي ابراج سان مالو والبندقية وفلورنسا وروما، ان يعاود العيش في هذا المكان". لكن الداخل قرية الكاتب يتحد مع الخارج السفر الى فرنسا. والحال ان الأقل هو ما يصنع الأكثر، ويختصره في خلوة الذات التي تنسجم مع الكون في معانيه وأشيائه وأمكنته وأزمنته. أو هي الدروب في غابة الكتابة. والدروب "لا تفضي الى أي مكان" بحسب التعبير الهايدغري. لكن الدروب الدويهية تصل الى آخر الأراضي التي هي "أراضي الذات" الملتئمة في جسدها، وطبيعها ورائيها الملك، في اللحظة "الملكية" الذاهبة الى اكتمالها وتحققها... هذه الذات التواقة كانت متصلة على الدوام بطفولتها المطلقة، بمكانها الأول ونهرها الأول. "الخلوة الملكية" عنوان يحمل إشارات الانفصال والانفراد والعزلة، لكن في الكتاب نرى الخارج الجميل في "ذات" الكاتب. الذاهب في الكتابة والاختلاق الهادئ، والانسجام مع المعاني الكونية، من الحياة والموت والسكينة والحروب، والماضي والحاضر، من "الجرح العميق" الذي ليس له أثر للدماء، من تلك اللحظات المتوهجة في زمن المراهقة "الأكثر سعادة بل الأكثر ألماً"، كأن يود الكاتب البقاء في نظر نفسه ذاك الفتى الناحل الشفاف الروح، المقيم في زمنه الذاتي، المنفصل عن الخارج المسكون بالرأفة، المؤتمن على جمال العالم... ولكن بين المراهقة واللحظات الراهنة تظهر "الثلاثون عاماً التي مرت منذ ذلك الحين كأنها لم تمر لديّ، وأنا لم ألحظ عبورها حقاً". وهكذا يحيل الكاتب العبور الى سند ومتن، ويقيم في القول الذي هو نثر هباء، أو حيرة وفي الانتباه الى الأمور لا الانبهار بها. ذلك ان وصف الأشياء المرئية و"الموصوفة" وهم في وهم، على أن ما يلح في العبور ونثره استحالات القول والتخاطب بين الأطياف. انطوان الدويهي يبدو هو الشاهد على عباراته وحيرتها، أو هو الشاهد على نفسه وأحواله. وما يكتبه هو شهادة جمالية للحظات المضاءة من الزمن الداخلي لديه. تبيان كيف يشتد اتصال الذات بماضيها كله، وإصرار على نبش الماضي، وإعادة "اختلاقه" مشهداً مشهداً. بل هي تتصل بالكون من اقصاه الى أقصاه. لتأخذ القارئ الى السكينة والهدوء والصمت والتأمل. إنها مصالحة وانصهار مع العالم والكون. قد يكون السؤال، ما سر تلك "المخطوطة" التي يخترعها انطوان الدويهي، داخل نصوصه، فهو يقول إنه كتبها في الثامنة عشرة، هل هي بدايات الدخول الى الكتابة أم هي اختراع داخل النص؟ وبحسب ما يقول انطوان الدويهي في حديث صحافي، انها نص حقيقي وليست "خدعة" كما ظن البعض. وهذه المخطوطة كان نشر الكاتب جزءاً منها في مجلة "الوعي" الطالبية في اواخر الستينات. وكان الكاتب في حينه لا يزال جامعياً. وعلى رغم المسافة الزمنية بين الكتابات الأولى والفترة التي كتب فيها "الخلوة الملكية" لا تبدو لغة الحاضر مختلفة عن لغة الماضي، بل هي استمرار لها وانبثاق من روحها. ربما يكون الفارق شكلياً في قصر العبارة أو طولها، لا يبدو الزمان موثراً في "سيستام" الكتابة. ولكن، من وجه آخر تبدو علاقة الشاعر بالزمان غريبة، مثلما هي غريبة علاقته بالمكان، فهو زمن الحالة، أو الزمن الذاتي، الشعري/ الروحي والنثري، والذي يبدو مستمراً ولا يلحظ مروره. أما من ناحية المكان، فالتشويه الذي يصيب الطبيعة يؤلم الكاتب. لكنّ المكان الذي ينتمي إليه هو ذلك الماثل في اللحظات المتوهجة، وهو ليس مكاناً بل أمكنة انسجامية، تلتقي فيها مشاهد القرية في جبل لبنان قرية الكاتب بمشاهد السفر، وتلتئم الحالات في الذات، التي تسبح في فضاءات وأمكنة وأزمنة لا حدود لها. الملك في "الخلوة الملكية" هو الرائي، في المعنى الجمالي للكلمة، وليس عبر تعطيل الحواس كلها كما يدعو رامبو في رسائله. وإذا كان هذا الرائي عند رامبو ينهض في استقصاء اللامرئي وسماع ما لا يُسمع، أو بالأحرى برفض العالم الظاهر، مؤكداً ان الشعر اكتشاف للحياة الحقيقية الغائبة فإن الرائي في المعنى الصوفي بحسب ادونيس ليس هو من ينطق أو يفكر، بل هناك سر هو الذي ينطق بلسان الرائي. اما الرائي عند شاعرنا فهو "اللامس كل شيء، قبل ان يلمس شيئاً، والعارف كل شيء قبل ان يعرف شيئاً" وهو في معانيه الجمالية لا يصف الأشياء المرئية، بل يخترقها الى ما لا يرى، ويسأل عن احتمالاتها وخلفياتها، عما يضمره ما وراء الجبل، أو ما يكتنف الشجرة من سر. وإذ قال الدويهي في "كتاب الحالة": فما أنا إلا شاهد" فهو في "الخلوة الملكية" يقول: "فما انا إلا شيء، وما أنا إلا كل شيء، وأبقى مع ذلك محدداً، وأبقى فريداً، وأبقى واحداً، انا نفسي" وهو في ذلك شاهد على الأمكنة يفك رموزها أو يعيد كتابة احوالها وتأويلها. فيرى الجبال والسهول لا كما يراها سواه، وينظر الى الصور برغبة المتوحد فيها. وهي التي "تشكل لحظة سعادة أرضية يمكن ان تعم ذات يوم كل شيء". ويكون التعبير الذي لازم الصورة، "ما يشبه عيش اللحظة ورؤية عيشها في آن واحد". ما يقتضيه القول هو ان كتابة انطوان الدويهي يفيض منها كل شيء. إنها الكتابة القائمة على الحياة، وهو يرد ما يراه الى حيوات سابقة، والى الطفولة المراهقة و"المتوهجة"، مع دقة في الملاحظة، وربط الأشياء في معانيها ومطلقها. ويمكن وصف لغته في وجهتين أو طريقتين، والأولى هي الشعرية في "كتاب الحالة" الذي يشتمل على تجربة اكثر من عشرين عاماً في الكتابة، أو بالأحرى، من هاجس الكتابة، الهاجس القائم على لغة لا تشبه اللغات الرائجة اليوم في كتابة الشعر، بل هي لغة تعتملها الشفافية البيضاء واكتنازات المعاني، واللحظات المشتعلة بمشهديات لامرئية وساحرة. ولكن في كتبه الثلاثة الأخيرة التي أعقبت الكتاب الأول تعتمد اللغة على الطريقة النثرية، إنها لغة بين الهدوء والقلق بين التأمل والتوتر، ولا ينفك الشاعر يحس حدود اللغة وحدود وصف الحالة، وغالباً ما يتحدث عن امر يقول انه لم يقصد ذلك بل كان يريد ان يقول شيئاً آخر، وكان يعني شيئاً مختلفاً أو غالباً ما ينهي فقرة ما بعبارة "لست أدري". فهو يسكنه هاجس الكتاب المطلق رغماً منه على الدوام. فلا يكتب "أي شيء في صورة نهائية". ذلك ان تعبيره عن الحالة لا يطال إلا بعضها. ومع ذلك فهي لغة مكتنزة تملأها الرؤى والاحتمالات والمشاهدات الغضة، وأحاسيس القلب. نصوص انطوان الدويهي جرعة مهدئة او استكانة وصلاة في بياض الكلمة المطلقة.