منذ مطلع السبعينات شهد عالم الطباعة انقلابات هائلة في تقنية تنضيد الحروف، فقفزت هذه الصناعة على اصعدة السرعة والجمالية، بل وسهولة مراقبة الاخطاء ومن ثم تصحيحها وصولاً الى اقل قدر ممكن منها. اذكر ان معرض الصحافة اللبنانية الذي اقيم في "القاعة الزجاج" في بيروت قد شهد اول اجهزة تنضيد ضوئي للحروف، وأظن ان تلك الاجهزة كانت لصحيفة "النهار"، وانها اثارت في حينه اهتمام ودهشة وفضول زوار المعرض وغالبيتهم من الصحافيين والكتاب، والمهتمين بصناعة الكتب وكذلك بمهنة الطباعة وعالمها المليء بالأسرار والمتاعب. ومنذ تلك الاجهزة "الضوئية" لتنضيد الحروف، شهدنا ولا نزال تطورات عاصفة جعلت تقنيات التنضيد تتطور وتتغير نحو الافضل في سرعة مذهلة، والأمر ذاته - تقريباً - يمكن قوله عن آلات الطباعة الحديثة والضخمة، والتي صار بامكانها ان تنجز في يوم واحد ما كانت تعجز عنه المطابع القديمة خلال اسبوع كامل او اكثر، وهو تطور كان يفترض ان ينعكس في صورة ايجابية على الكتاب، فيعكس سوية اعلى وجمالية وجودة اكبر. غير ان من يتفحص الكتب التي تصدرها المطابع في غير عاصمة عربية، يلحظ - مع شديد الاسف - تدنياً في سوية الكتب ورداءة في صناعتها، خصوصاً فيما يتعلق بالمسائل الصغيرة، النهائية، والتي اصطلح اهل المهنة على تسميتها مسائل "التشطيب"، اي شؤون التجميع وضم الصفحات، وكذلك تثبيتها وتثبيت الغلاف. قارئ هذه الايام - لا يفاجأ حين تتساقط اوراق الكتاب بسهولة، ومنذ القراءة الاولى، والشيء نفسه يحدث مع اغلفة الكتب، وهي مسألة لم تكن تحدث مع الكتب القديمة، التي طبعت وجمعت صفحاتها وأغلفتها بتقنيات متخلفة، بل بدائية، وظلت مع ذلك صامدة تتناقلها الايدي، وتورثها الاجيال. الامر هنا لا يتوقف على الطباعة، ولا على "التوضيب" و"التشطيب" بلغة اهل المهنة، بل يتعداه الى الرغبة في توفير النفقات والوقت من خلال تصوير الكتب القديمة المطبوعة بحروف الرصاص، وهو ما يفعله ناشرون كثيرون هذه الأيام، ليفاجأ القارئ بأن تصوير الكتب القديمة يحمل بالضرورة علّة الاحتفاظ بالاغلاط المطبعية والتي كانت في العادة كثيرة، بالنظر الى تدني وسائل الطباعة في تلك الايام. الواضح ان تطور التقنيات الطباعية الكبير، لم يرافقه تطور حقيقي في مهنية وكفايات العاملين، فنحن اليوم لا يمكننا ان نتحدث عن فنيي الطباعة بالصورة التي كان يجري فيها الحديث عن زملائهم القدامى، والذين كانوا اقرب ما يكونون الى "عشاق" مهنة، او في الاقل الى هواة، اكسبتهم مهنتهم تقاليد معينة، وأكسبوها بدورهم حرفية عالية جعلتهم - غالباً - يعشقون الكلمة المكتوبة، ويحبّون الثقافة والأدب ويتابعون مختلف المبدعين من الكتاب، لأن "من يحرك السم يتذوقه" كما يقولون، فكيف اذا كان يحرك الافكار والابداعات الجميلة. مهنيو تلك الايام يتذكرون المخاطر الكبيرة التي يسببها العمل الطويل في مطابع الرصاص، وهي مخاطر كانت تضطرهم لتناول اغذية معينة، خصوصاً الحليب، في سعي لحماية انفسهم، وهي مخاطر تجاوزتها الوسائل التقنية الجديدة، وجعلتها مجرد ذكريات. مطابع زمان، كانت اقرب الى الورشات. اما مطابع هذه الايام، فهي تشبه فنادق النجوم الخمس بأناقتها وآثاثها وديكورها... ولكن كما يقولون: في النهاية "الرّك" على الطباعة!