استطاع أبو حامد الغزالي 450 - 505ه/ 1058 - 1111م ان يفرض هيمنته على المعارف والأفكار الإسلامية في عصره، ويغير من اتجاهاتها، ويترك تأثيراته فيها. كان أستاذاً في تعليمها وتبليغها، ومناظراً بارعاً في الاحتجاج بها والدفاع عنها. وقبل ذلك كان طالباً مندفعاً في تحصيل تلك المعارف، ومتنقلاً في طلبها. لذلك جاء وصف الغزالي بأنه يمثل مرجعية فكرية أو خطاباً مرجعياً، وهو الوصف الذي نستخدمه كنموذج تفسيري وتحليلي لخطاب الغزالي الفكري، وامكاناته التأثيرية، وصموده وبقائه، وصور الارتباط به. والذين تعاملوا مع الغزالي وفكره وعلومه من باحثين ومؤرخين ومستشرقين، غالباً ما يميزونه بذلك الوصف، أو يرشدون اليه، أو يعبرون عن دلالته. فحين يصف ابراهيم بيومي مدكور ثقافة الغزالي يقول: "ثقافة الغزالي خصبة متنوعة، عميقة وشاملة، فهو فقيه وأصولي، متصوف وأخلاقي، متكلم وفيلسوف". وحين يبحث محمد عابد الجابري عن مكونات فكره يقول "انها مكونات الثقافة العربية الإسلامية كلها، بمختلف منازعها واتجاهاتها وتياراتها. ذلك ان الغزالي لم يكن مرآة انعكست عليه ثقافة عصره وحسب، بل لقد كان أيضاً ساحة التقت عندها مختلف التيارات الفكرية والايديولوجية التي عرفها الفكر العربي الإسلامي الى عهده، وقد استكملت مراحل نموها وأسباب نضجها، فعبرت على لسانه ومن خلال سلوكه وتجربته الفكرية عن مدى تنوعها واتساع آفاقها. ويرى أنور الزعبي في خطاب الغزالي أنه يمثل سلطة لا تعادلها سلطة في تراثنا الإسلامي كله، نظراً لذلك التأثير الواسع الذي تركه هذا الخطاب في حياة الشعوب الإسلامية منذ انتشاره وحتى وقت قريب. وقبل ان يبرهن الزعبي على هذه الحقيقة، ويتعامل معها كفرضية بحاجة الى استدلال واثبات، يقطع الطريق ويعطي صفة الإجماع منذ البداية، إذ يقول: "وقد أجمع دارسو فكر الغزالي، مؤيدين ومعارضين على هذه المسألة" الأمر الذي يدعو حسب ما يرى الزعبي الى تحليل وتفسير، وهو الرأي الذي سبقه اليه نصر حامد أبو زيد واستشهد به الزعبي. يقول أبو زيد: "ان ما لقيه فكر الغزالي من ذيوع وقابلية في الأجيال التالية له، حتى صار نسقه الفكري مهيمناً على الخطاب الديني المسيطر هيمنة شبه تامة، أمر يحتاج الى التحليل والتفسير". وعن تفسيره لهذا الأمر يرجعه أبو زيد الى "ثنائية النسق الفكري الذي يطرحه الغزالي، حيث قدم للعامة وسيلة للخلاص بسلوك طريق الآخرة، وقدم للطبقات المسيرة للحكام والسلاطين ايديولوجية النسق الأشعري بكل ما ينتظم في هذا النسق من تبريرية وتلفيقية". وهو التفسير الذي يختلف معه الزعبي كلياً، إذ يرى ان سلطة خطاب الغزالي نتجت من مراعاته لمسألة هي في غاية الأهمية كما يقول بمسألة "سياسة العلم، وهي مسألة تهتم أساساً بتدبر كيفية استيعاب وتشغيل الخطاب في الأوساط المختلفة، التي أقدر ان الغزالي قد راعى أكثر من غيره متطلباتها وبكثافة في كل مناحي خطابه". ويرى الباحث الايراني عبد الحسين زرين كوب الذي دَرَّس حياة الغزالي وفكره في جامعة لوس انجلس الأميركية، أن "في تمام تاريخ الثقافة الإسلامية لا يمكن العثور بسهولة على شخص كالغزالي استطاع ان يعكس التنوع الثقافي بجميع أنماطه في فكره وحياته، وبذلك الشكل الرائع والحي". وعن سبب اهتمام الباحثين الكثيرين، كما يقول زرين كوب في الشرق والغرب ومنذ القديم بالغزالي وفكره، يرجع الى "التحول العميق في حياة الغزالي، والتنوع الواسع في آثاره، وخصوصاً التأثير الملحوظ لأفكاره وآثاره في الدين والفلسفة والتصوف الإسلامي". العامل الجوهري كما أظن الذي أوصل "الغزالي" الى تلك المنزلة، هو في الطريقة التي تعامل بها مع العلوم والمعارف، وشرحها في مقدمة كتابه "المنقذ من الضلال" بقوله: "لم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغ العشرين الى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، اقتحم لجة هذا البحث العميق، وأخوض في غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً الا وأريد ان اعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً الا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع اليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً الا واتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته. وقد كان التعطش الى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، وريعان شبابي... حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت عليّ العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا... والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات، فقلت في نفسي: أولاً انما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم". وكان يخاطب غيره بقوله: "اطلب الحق بطريقة النظر لتكون صاحب مذهب، ولا تكون في صورة مقلد أعمى". يضاف الى ذلك اعتقاد الغزالي عن نفسه كما يقول فهمي جدعان: "انه واحد من المصلحين الذين نيطت بهم احياء الإسلام عند رأس المائة الخامسة للهجرة، لهذا كتب مؤلفه العظيم احياء علوم الدين". ونقل الاجماع على ذلك محمود بيجو الذي حقق وقدم كتاب "المنقذ من الضلال". ولعل الذي كوّن هذا الباعث عند الغزالي في الطريقة التي تعامل معها في تحصيل العلوم واكتساب المعارف، يرجع لعاملين أساسيين: الأول: اكتشف الغزالي منذ وقت مبكر، شدّة الاختلافات والتناقضات والنزاعات بين المذاهب والفرق والجماعات والملل الإسلامية، وكل منها يدعي لنفسه الحق ونهج الصواب. وكل جماعة تنتصر لآرائها وتنتقص من آراء الجماعات الأخرى. الوضع الذي استوقف انتباه الغزالي وكوّن في داخله مساءلات، حرضت على ان يكتشف بنفسه اين هو الحق والصواب في ادعاءات هذه الفرق والجماعات؟ فرجع الى العلوم والمعارف والحجج والبراهين التي يستندون اليها، ويتمسكون بها. الثاني: ان الأجواء العلمية في ذلك العصر، كانت تغلب عليها طريقة المناظرات التي تعقد لها المجالس والاجتماعات في المدارس والمساجد والأسواق أيضاً، وفي مجالس الخلفاء والوزراء والحكام، وتستمر في حال انعقادها لأوقات طويلة. لذلك ازدهر علم الخلاف وارتفع شأنه، وتخصص فيه الكثيرون. وطريقة المناظرات تستدعي ان يمتلك الانسان القدرة على التفوق بالأدلة والمحاججة، والاطلاع على معارف الخصم. والغزالي الذي كاد في احساسه ان يكون ذا شأن ويشار اليه بالبنان، كان لا بد من ان يثبت جدارته وتفوقه في مجالس المناظرات. وهذا ما سعى اليه بنفسه. فالمناظرات هي التي عرفت به في مجالس استاذه امام الحرمين الجويني في نيسابور، وهي التي قادته لمجلس الوزير نظام الملك في منطقة العسكر بعد وفاة الجويني، وهي المناظرات التي كان يقصدها العلماء والفقهاء، الذين يبحثون عن الشهرة والمال والجاه. والتفوق الذي أظهره الغزالي في هذه المناظرات، كان سبباً في اختياره من جانب الوزير نظام الملك ليكون الأستاذ الأول لأشهر مدرسة في بغداد آنذاك، وهي مدرسة النظامية نسبة الى الوزير نظام الملك المؤسس والراعي لها. ووجد الغزالي في هذا المنصب أعلى درجات الأماني والطموح التي كان يسعى اليها العلماء والفقهاء في عصره. ولم تتوقف او تنتهِ تجربة الغزالي عند حدود مدرسة النظامية وانتقاله الى بغداد، اذ قادته هذه التجربة الى تحولات ومراجعات عميقة وجذرية، أحدثت في داخله ما يشبه الانقلاب النفسي والتوتر الفكري، انتهت به الى الحيرة والشك، والبحث عن اليقين، اليقين الذي يعرفه بقوله: "هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يفارقه امكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي ان يكون مقارناً لليقين". لذلك وجد الدارسون في الغزالي أنه يمثل تجربة فكرية فريدة من نوعها في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط، وشديدة الأهمية في تحولاتها ومراجعاتها، خصوصاً انه وثق تجربته الفكرية في كتابه "المنقذ من الضلال" وهو من المؤلفات النادرة في تاريخ الثقافة الإسلامية حول السيرة الفكرية، إذ كشف فيه بوضوح كبير ما أصابه من حيرة وقلق، ودخل مع نفسه في تجربة نقدية عميقة، أعاد فيها النظر لحصيلته العلمية ومنظومته الفكرية التي هي من تراكمات زمن طويل. وهذا هو منشأ خصوبة فكر الغزالي وقيمته الفكرية، التي شدّت انتباه الدارسين اليه، وجعلت منه شخصية مؤثرة في الثقافة الإسلامية. وما زال تأثيره حاضراً. بقي الغزالي كما يقول الجابري: "حاضراً في ثقافتنا العربية الإسلامية الى اليوم، وما أظنه سيكف عن الحضور فيها قريباً. كان حاضراً ولا يزال في وجدان مؤيديه والرافعين من شأنه، كما في أذهان معارضيه الراغبين في التخلص منه". وهذا ما يذهب اليه من المؤرخين ألبرت حوراني الذي وصفه بأنه يتميز برؤية شاملة لكل التيارات الرئيسية في عصره. وبعد ذلك يضيف "ما زالت أفكاره مؤثرة حتى الآن". وهناك من المعاصرين من يشبه حاله واهتماماته بالغزالي، كطه عبدالرحمن وان كان يعزوها الى المصادفة كما يقول، مع تأكيده بعض الفروقات حتى لا يظهر وكأنه مقلد للغزالي، وبحسب قوله "ان جوانب من فكري صادفت جوانب من فكره، كما ان جوانب من سلوكي صادفت بعض جوانب سلوكه، ولا شيء أكثر من المصادفة. فعلى سبيل المثال، اشتغلت بالمنطق وأحببته كما اشتغل به وأحبه، الا اني أخالفه في نزعته الأرسطية في المنطق التي لا تضاهيها إلا نزعة ابن رشد. واشتغلت بعلم الأصول كما اشتغل به ولو اني لم أؤلف فيه كما ألف، لكني اختلف معه في موقفه من علاقة علم الأصول بالمنطق، فهو يجعل المنطق جزءاً منه باعتبار، في حين اجعله انا جزءاً من المنطق باعتبار آخر. واشتغلت بالفلسفة كما اشتغل بها ووجدت فيها آثار النسبية الثقافية كما وجدها فيها، الا اني لا أشك في فائدتها شكّه فيها، ولا أجرح أهلها تجريحه لهم، وخضت التجربة الصوفية على مقتضى أهل السنّة كما خاضها، وتبين لي من سموها ما تبين له، ولكني أخالفه في الأسباب التي أفضت بي الى الدخول في هذه التجربة، فتبين لي اني لست مقلداً للغزالي، وانما شاءت الارادة الإلهية ان نشترك في بعض الصفات لحكمة لا أعلمها". مع ذلك فإن تجربة الغزالي الفكرية انتهت بالفكر الإسلامي في عصره وبعد عصره الى نوع من الحيرة والأزمة. * رئيس تحرير مجلة "الكلمة" السعودية.