كنتُ أقرأ لكاتبٍ ما، فإذا بي أمام انسيابٍ يأخذ اللغة إلى أفقٍ آخر تمامًا. بدت الكلمات أشبه بلغزٍ لغوي لا تفسير له، حتى ضعتُ في العمق وتاه الفهم. فقلت بصدق: «لا أفهم كتابتك أبدًا». عندها، جاء صوت ناقدٍ عظيم ما زال يرنّ في داخلي: «ليس شرطًا أن نفهم ما كُتب، وإنما الغاية أن نتذوقه ونستشعره». كانت تلك اللحظة بذاتها خلاصة لمسألة التذوق الفني في النصوص التي تملأ حياتنا، سواء عبر وسائل التواصل، أو الكتب، أو حتى التلفاز، بل وحتى في أحاديث بعض الأشخاص الذين تنبض الشاعرية في كلامهم. الحقيقة أن بعض النصوص خُلقت لتبقى غامضة، محتفظةً ببريقها الذي لا يُفكك. ليست كل كتابة دعوة إلى الفهم، بل إلى لمسٍ شعوري. وعندما يعجز العقل عن الإدراك، يبدأ القلب بالتذوق. لكن التذوق لا يُقصي التحليل ولا يلغيه. فكثيرًا ما يتعامل الناقد مع النص لأول مرة كمتلقٍ صامت، يترك أثره يعمل فيه دون شرحٍ أو تفسير. ثم، حين يعود إليه بعين القراءة الثانية، يبدأ رحلة التحليل: يبحث في البنية، في المجاز، في الصوت الخفي وراء الكلمات من غير أن يُطفئ تلك الدهشة الأولى. هنا يصبح التذوق مدخلًا، والتحليل امتدادًا له، لا خصمًا ضده. فالنص الذي لا يشعل فيك شيئًا، لا يستحق حتى أن تُضيئه بالفهم. ومع ذلك، تبقى هناك نصوص كُتبت لا لتُشرح، بل لتُشعر. فهي تلمس القارئ لأنه مرّ بحالة شعورية شبيهة أو مقاربة، حتى لو اختلفت التفاصيل. ومحاولات تفسيرها الدقيقة قد تُفقدها دهشتها الأولى، تلك الحرارة والعفوية التي تُشبه ارتباكك الجميل أمام لوحة غير مكتملة. فحين يُدفع النص إلى خانة التحليل الصارم، يُسحب إلى العقل لا إلى الذوق، إلى التأويل لا الانفعال، بينما الفن يزدهر حين يُؤخذ ككل، لا حين يُقطع إلى أجزاء. وغالبًا، حين تحاول إقناع أحدهم بأن فكرة كاتبٍ ما ليست سوى تكرارٍ لفكرةٍ أخرى، يُباغتك بضيقٍ أو رفض، رغم أنك محق. لكنك تكون قد أغفلت السمات الخاصة: النبرة، الأسلوب، تلك الفرادة التي لا تُقاس بالفكرة المجردة. فالتشابه في الموضوع لا يعني التشابه في الإحساس؛ قد يمر نص عابرًا عليك، بينما آخر يستقر في قلبك. أما الغموض، فمسألة دقيقة: قد يكون مقصودًا، أداةً فنية تحفّز القارئ على التأمل والتيه الجميل، وقد يكون غير واعٍ، ناتجًا عن ضعف الطرح أو غياب الوضوح. لهذا، ليس كل غموض عمقًا، ولا كل التباس جمالًا. السر يكمن في نوعية الغموض. أجمل ما في الفن أنه لا يشترط فهمه دائمًا، بل أن يُمنح فرصة ليترك أثره فيك، حتى إن عجزت عن ترجمته بالكلمات. فما لا يُقال أحيانًا أبلغ مما يُقال. والتذوق هو تلك الاستجابة الصامتة التي تبعث الحياة في النص خارج المعنى، وتمنح القارئ أن يشعر بدل أن يفسر، أن يُصغي بدل أن يشرح. وحين نصمت أمام الجمال، فليس عجزًا عن الفهم، بل لأننا، ببساطة، قد أُصِبنا به.