في حياتنا المهنية والشخصية، غالبًا ما نجد أنفسنا أمام مفترقات طرق تتطلب قرارات جريئة، أو خوض تحديات غير مألوفة. وفي تلك اللحظات بالذات، نلجأ إلى النصيحة كما نلجأ إلى النور وسط الظلام. غير أن الحقيقة الصادمة هي أن كثيرًا من النصائح، التي نسمعها ليست سوى عبء إضافي، تضللنا أكثر مما ترشدنا، وتعيق تقدمنا بدل أن تدفعنا نحو الأمام. بعض النصائح تبدو براقة في ظاهرها لكنها محمّلة بدوافع خفية، أو تصورات خاطئة، بينما تبدو النصائح السديدة مزعجة أو صعبة التقبّل، فنرفضها لمجرد أنها لا تلامس مناطق الراحة فينا. لقد قادني الإصغاء لبعض النصائح في بداياتي المهنية إلى كوارث حقيقية. أحد المديرين نصحني بعدم خوض مشروع جديد كان خارج مجال عملي آنذاك، مدّعيًا أنه "لن يفيدني". وثقت به، وتراجعت. لاحقًا، اكتشفت أن سبب نصيحته الحقيقي هو خشيته من بروز اسمي ضمن دوائر أعلى منه، لا حرصه على مصلحتي كما زعم. وفي تجربة أخرى، اتبعت نصيحة من زميل مقرب – لم يكن خبيرًا ولا مطّلعًا على طبيعة السوق – فدخلت في شراكة تجارية لم تدم أكثر من أشهر قليلة، وخسرتُ فيها جهدًا ومالًا. المشكلة لا تكمن فقط في وجود نصائح سيئة، بل في صعوبة تمييزها عن الجيدة، لأن النصيحة السيئة قد تأتي بصيغة"رأي صادق"، أو تحت غطاء"نصيحة بنّاءة"، بينما تكون في حقيقتها معرقلة أو محبطة. وقد تصدر من أشخاص نحبهم أو نثق بهم، كالأهل الذين قد يخشون علينا من مغامرة مهنية، أو الأصدقاء الذين لا يدركون أبعاد رؤيتنا الخاصة. ولذلك، علينا أن نمتلك مهارة تمييز النصائح قبل تبنّيها. لا يكفي أن يكون الناصح واثقًا بنفسه، فالثقة وحدها لا تعني شيئًا دون تجربة حقيقية. كما أن دافع الناصح يجب أن يُفحص: هل هو يسعى فعلاً لمصلحتك، أم أن هناك مصلحة شخصية أو خوف خفي وراء كلماته؟ وهل خاض ما أنت مقبل عليه؟ هل نجح فيه مرارًا؟ فالعبرة ليست بكثرة الآراء. كذلك، تنبّه للزمن والسياق؛ فما يصلح اليوم قد لا يكون صالحًا غدًا، وما ينفع في صناعة قد لا يكون مجديًا في أخرى. النصيحة القادمة من شخص مرّ بتجارب مشابهة حديثًا أصدق من تلك التي تأتي من عصور ما قبل التحول الرقمي، أو من بيئات لا تشبه واقعك. لقد تعلمت من أخطائي أن النصيحة لا تؤخذ كما هي، بل تُوزن بعقلانية وتُختبر بمنهجية. والاستماع المتكرر لنفس الرأي من مصادر متعددة، خاصة من أصحاب الخبرة، قد يكون مؤشرًا على وجاهته حتى وإن كان مزعجًا. أما الآراء الشاذة، أو المتطرفة، أو تلك التي تدفعك لتتخلى عن قناعاتك بلا مبرر قوي، فهي في الأغلب ليست سوى طريق مختصر نحو الخيبة. النصيحة الحقيقية لا تملي عليك القرار، بل توسّع رؤيتك وتمنحك أدوات أوضح للحكم. أما القرار النهائي، فهو مسؤوليتك أنت. فكم من حياة تعطلت بسبب نصيحة حمقاء، وكم من حلم قُبر تحت عباءة"رأي خبير". والسؤال الذي يظل يطرق في داخلي كلما سمعت نصيحة جديدة: هل هذه النصيحة ولدت من خبرة، أم من خوف؟ من حكمة، أم من مصلحة؟ ومن يجرؤ اليوم أن يقول:"كنت مخطئًا عندما اتبعت تلك النصيحة".