2374 كادراً صحياً يتأهبون للالتحاق بسوق العمل    انطلاق "استجابة 14" للتعامل مع الطوارئ البيئية    أوبك: لا تغيير في توقعات الطلب في 2024    بيان مشترك لمجلس الشراكة الإستراتيجي السعودي البريطاني    زيلينسكي يطلب من بلينكن أنظمة باتريوت للدفاع الجوي لمدينة خاركيف    5 ميداليات خليجية للأولمبياد السعودي الخاص    تعاون لتعزيز الرياضة المجتمعية    ريما بنت بندر لوفد "آيسف": فخورة بمنافستكم طلاب العالم    انطلاق اجتماع المجلس التنفيذي ل"الألكسو" في جدة    5.8 مليار لصيانة المساجد خلال 5 سنوات    توضيح آليات تنفيذ تحمل الدولة للرسوم الجمركية لمدخلات الإنتاج الزراعي    قوات الاحتلال الإسرائيلي تتوغل في عمق مدينة رفح الفلسطينية لأول مرة    أمير المدينة يستقبل أمين جائزة «مدني لدراسات تاريخ الجزيرة العربية»    الشورى ينتقد ضعف شبكات الاتصالات ويطلب معالجتها    وزير دفاع روسيا: نريد النصر في أوكرانيا ب"أقلّ" خسائر بشرية ممكنة    شرطة مكة تقبض على مواطن أساء للذات الإلهية    أمير تبوك ينوه بالجهود والإمكانات التي سخرتها القيادة لخدمة ضيوف الرحمن    وصول الطائرة السعودية 49 لإغاثة أهالي غزة    وزير الاستثمار: المملكة المتحدة ثاني أكبر مستثمر أجنبي في السعودية    فيصل بن فرحان يلتقي وزير خارجية سوريا    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية الكويتي    رضوى" تكشف خططها التوسعية في معرض الشرق الأوسط للدواجن    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة الحدود الشمالية    محافظ بيشة يدشن جمعية النخيل الإعلامية    أبو الغيط: التفاوض الثنائي بين إسرائيل والفلسطينيين لم يعد ممكناً    مجلس الوزراء: ضوابط لتخصيص عقارات الدولة للقطاع غير الربحي    وزير الخارجية يُشارك في اجتماع مجلس جامعة الدول العربية    الكلام أثناء النوم قد يتطلب استشارة الطبيب    كلوب لا يشعر بالإحباط عقب تعادل ليفربول مع أستون فيلا    سابتكو تواصل الخسائر رغم ارتفاع الإيرادات    تغييرات كبيرة في أجانب الاتحاد    اعتماد اشتراطات الإعفاء للأسواق الحرة بجميع المنافذ الجمركية    أولى رحلات مبادرة «طريق مكة» من تركيا تصل إلى المملكة    القمة العربية في البخرين نحو تعزيز التضامن العربي ومواجهة التحديات المشتركة    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    نائب أمير مكة: منع الحجاج المخالفين ساهم بتجويد الخدمات    القادسية يحسم لقب دوري يلو    المملكة رائدة الرقمنة والذكاء الاصطناعي    التجديد إلكترونياً لجوازات المواطنين الصالحة حتى (6) أشهر قبل العملية    «الممر الشرفي» يُشعل ديربي العاصمة    سمو أمير منطقة الباحة يناقش في جلسته الأسبوعية المشروعات التنموية والخدمات المقدمة    بطلتنا «هتان السيف».. نحتاج أكثر من kick off    أمير المنطقة الشرقية في ديوانية الكتاب    ماهية الظن    فخامة الزي السعودي    استعراض الفرص الواعدة لصُناع الأفلام    الكويت.. العملاق النائم ونمور الخليج    آنية لا تُكسر    الكويت في الصدارة مجدداً    وزير التعليم يزور مدرسة معلمة متوفاة    يستيقظ ويخرج من التابوت" قبل دفنه"    الصحة.. نعمة نغفل عن شكرها    دور الوقف في التنمية المستدامة    نائب أمير مكة: "لاحج بلا تصريح" وستطبق الأنظمة بكل حزم    إزالة انسدادات شريانية بتقنية "القلب النابض"    «سعود الطبية» تنهي معاناة ثلاثينية من ورم نادر    حكاية التطّعيم ضد الحصبة    18 مرفقاً صحياً لخدمة الحجاج في المدينة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليوبولد سيدار سنغور : "الزنوجة" سبيل افريقيا لاكتشاف نفسها وللحضور في العالم
نشر في الحياة يوم 22 - 12 - 2001

يعرف العالم العربي ليوبولد سيدار سنغور توفي اول من امس رئيساً سابقاً للسنغال، كما يعرفه شاعراً عبر ترجمات لقصائده نشرت في غير دورية عربية، خصوصاً في مجلة "حوار"، لكن سنغور كان ايضاً داعية ل"الزُّنُوجة" كجامع لحضارات افريقيا وقناة رئيسية تساهم من خلالها في الحضارة الانسانية.
وكان سنغور اثناء زيارته لبنان في أيار مايو 1966 ألقى بدعوة من مؤسس "الندوة اللبنانية" ميشال اسمر، وبحضور الرئيس اللبناني شارل حلو محاضرة عن "الزنوجة، ثقافة انسانية للقرن العشرين"، ونقل المحاضرة في حينه الى العربية الكاتب والمفكر اللبناني خليل رامز سركيس.
وفي ما يلي نص المحاضرة في الصفحة 10 كتابات عن سنغور شاعراً:
تعوّد بعض الناس، مذ أعلنا مذهب الزنوجة La negritude، لنحو ثلاثين سنة مضت، ان يتهمونا بالعنصرية. وأكدوا، في أحيان، ان "الزنوجة مركب دونية ونقص". لكن اللفظة نفسها لا تعني "عنصرية" و"مركب دونية ونقص" إلا ان تكون على تناقض بعيد.
لا، ان الزنوجة ليست من ذلك كله بشيء. فما هي عنصرية، ولا هي إنكار ذات. وليست الزنوجة إلا "الشخصية الافريقية" للزنوج الافريقيين الذين ينطقون باللغة الانكليزية. وليست هي إلا هذه "الشخصية السوداء البشرة"، الشخصية التي اكتشفتها الحركة الاميركية المسماة "الزنجي الجديد" New Negro فأعلنتها. ونحن - على حسب ما كتب لانغستون هيوغز Langeston Hughes، في اعلان له بُعيد الحرب العالمية الأولى، "نحن، صانعي جيل الزنوج الجديد، نريد ان نعبّر عن شخصيتنا السوداء البشرة تعبيراً لا خجل فيه ولا خشية ... نحن نعلم اننا أولو حُسن وجمال وأننا ذوو بشاعة وقبح. ان التام تام يبكي، ويضحك التام تام". ولعل طرافتنا الوحيدة هي، في هذا الباب، اننا قد حاولنا ان نحدد مفهوم الزنوجة، التي نحت سيزير Cesaire اسمها، تحديداً جامعاً دقيقاً، فنعد منها سلاح نضال وأداة تحرير ومشاركة في الثقافة الانسانية للقرن العشرين.
ولكن ما الزنوجة؟ ان علماء الاتنولوجيا علم اصل الشعوب ومميزاتهم وثقافاتهم وعلماء الاجتماع، في يومنا هذا، يتكلمون على "حضارات متغايرات". فالمؤكد، الذي لا يعتريه الشك، هو ان الشعوب تتغاير افكارها وألسنتها وفلسفاتها وأديانها وعاداتها ونظمها وآدابها والفنون. فمن ذا الذي ينكر ان الشعوب الزنجية الافريقية لها، هي كذلك، طريقة في كيف تفهم الحياة وكيف تحيا، وأن لها اسلوباً في الكلام والغناء والرقص والرسم والنحت، وأن لها حتى في الضحك والبكاء نسقاً؟ ما من احد ينكر ذلك لا ريب، وإلا لم يكن الناس، منذ ما يقارب الستين سنة، قد ذكروا "الفن الزنجي"، ولأضحت افريقيا السوداء، في يومنا هذا، وهي القارة الوحيدة التي ليس لها علماء اتنولوجيا ولا علماء اجتماع. ولكن، في آخر الأمر، ما الزنوجة؟ انها مجموع قيم الحضارة والمدنية للعالم الأسود البشرة، أي انها حضور في العالم والكون، حضور عمل ونشاط. انها، كما يقول جون ريد وكليف وايك، طريقك في "اتصال الانسان بالعالم وفي اتصاله بغيره من البشر". اجل ان الزنوجة، هي، في جوهرها، علاقة بالعالم وحركة نحو العالم، انها اتصال بالآخرين ومشاركة للآخرين. اما والزنوجة هي ذلك، فإنها ضرورة للعالم: انها ثقافة انسانية للقرن العشرين.
ولكن لنرجع الى الوراء، الى السنة 1885، بعيد مؤتمر برلين، يوم الأمم الأوروبية، إذ اقتسمت افريقيا، قد أتت على اقتسام الأرض. فإن تلك الأمم، وهي خمس أو ست، ومنها الولايات المتحدة الأميركية - كانت، عهدئذ، في الأوج فسيطرت على العالم، وزهت بقواها المادية زهواً لا مركّب فيه، وكانت أعظم زهواً بعلومها، وكانت بعرقها، - وهذي مناقضة - أشد زهواً وافتخاراً. لكن الواقع هو ان هذا الأمر، أيامئذ، لم يكن في المناقضات. فإن غوبينو، الدبلوماسي الفرنسي مؤلف كتاب "مبحث في تفاوت العناصر البشرية" - كان قد مرّ من هناك فأثر حتى في كارل ماركس. ولم يكن ماركس عنصري المذهب، لا شك، وهو الذي زف ابنته الى أحد الخلاسيين، لكن ماركس كان يعتقد ان مرحلة الاستعمار تعد للهند اسباب تقدم وارتقاء. فاستطاع ديزرائيلي ان يجعل من نفسه رأس اصحاب نظرية "ذلك العرق الأنكلوسكسوني الأبيّ، العنيد، الواثق بنفسه، العرق الذي لا يفسده تغير ولا مناخ". أما التوكيد للفظتي "العرق الأنكلوسكسوني"، فإنه منّي. ثم - والكلام، ههنا، للكاتب الألماني ليو فروبينيوس، في مؤلفه "مصير الحضارات" - ثم "ان كل أمة من الأمم الكبرى، التي تعتبر نفسها مسؤولة عن مصير العالم مسؤولية شخصية، تحسب ان بيدها وحدها اكتناه الكل وفهم سائر الأمم. فها هنا موقف قد تحدر من الماضي"1.
وعلى نحو التخصيص، فإن هذا الموقف الذي "تحدر من الماضي"، في اواخر القرن التاسع عشر، قد هبّت تزعزعه مؤلفات مثل كتاب "محاولة في محليات الوجدان البديهية" لبرغسون، وقد صدر في السنة 1889، ثم ان قيم الحضارة الأوروبية كانت، مذ عصر النهضة، قد ارتكز جوهرها على النهج العقلي الاستدلالي وعلى الماجريات وعلى المنطق وعلى المادة. فقام برغسون، في دقة له جدلية فائقة، يلبي حاجة جمهور قد أعيته المذاهب العلمية والطبيعية، ويثبت ان الماجريات والمادة - وهي موضوعات النهج العقلي الاستدلالي - ليست إلا الوجه السطحي الذي يجب تخطيه بالحدس من اجل النظر في الواقع نظرة عميقة الرؤية.
بيد ان ثورة 1889 - وسندعوها هكذا - لم تؤثر في الآداب والفنون وحدها، بل هي، الى ذاك، قلبت احوال العلوم. وكان العالم، في السنة 1880، قبل اشتقاق لفظة "الكترون" بسنة واحدة، يميز المادة والطاقة. فالأولى جامدة لا تقبل تغييراً، اما الثانية، فليست كذلك. غير ان ميزتهما جميعاً هي البقاء والاستمرار، إذ ان كلتيهما قد أخضعت لحتمية آلية دقيقة. فكانت المادة والطاقة شيئاً يرقى الى اقدم العصور، على حسب مأثور القول، فأمكن ان يتغير الشكل منهما، لا المضمون. ولكن أعوزتنا اجهزة للسبر والقياس تكون على دقة كافية لكي نعرف المادة والطاقة في الزمن والمكان معرفة موضوعية.
أما اليوم، وقد انقضى ما يقل عن نصف القرن، فقد سُبقت هذه المبادئ حتى انها رُفضت. ولزهاء ثلاثين سنة خلت، قامت الاكتشافات العلمية الحديثة - أعني نظرية الجُزَيئات الذرية، والنسبية، والآلية التموجية، والذبذبات، والالكترونيات - فعمدت الى مفهوم المادة ومفهوم الطاقة فزعزعت بهما أركان الحتمية الكلاسيكية القديمة. وكشف لنا برويل، تحت سطح الأشياء، ثنائية المادة والطاقة او شعاع الذريات - وعلّمنا هيزنبرغ ان الموضوعية وهم من الأوهام وأننا لا نستطيع مراقبة الماجريات بغير ان نبدلها. وعلّمنا سواه ان الجزيئات تتفاعل على مستوى الأصغر، وأنها تتفاعل على مستوى الأكبر. فمذ ذلك العهد، اخذت النظم الفيزيائية والكيماوية تبدو لنا قابلة التغير شأن سائر الاشياء. حتى في ميدانها الوحيد وصعيدها الأوحد، أمست من التقريبيات التي ليست بالغة الدقة، وباتت وهي في مرجحات الأمور. فكفى بالإنسان ان يحك ظاهر الاشياء والماجريات فيشق آفاقاً لا استقرار فيها تتحدى ما لدينا من اجهزة قياس، لأن هذه الاجهزة ان هي، لا ريب، غير وسائل آلية مادية.
ولقد تخطى بيار تيلار دو شاردان، في جدلية له جديدة، المناهج الكلاسيكية القديمة، إذ انطلق من الاكتشافات التي تقدم لنا، ههنا، ذكرها، فجمع ائتلاف المنطق الى التماع الحدس والتجربة العلمية الى باطن الاختبار، فأرانا وحدة الكون الحية النابضة. وإذاً، فإن تيلار دو شاردان لمّا انطلق من الاكتشافات العلمية الحديثة، جاوز ثنائية الفلاسفة والعلماء، وهي التي لم يضع لها ماركس وإنغلز حداً، إذ قدّما المادة على الروح. فذهب دو شاردان الى ان نسيج الكون لا يتألف من واقع حقيقته، بل هو يتألف من واقع للحقيقة فرد يبدو في شكل ظاهرتين، وإلى انه لا مادة وطاقة، حتى لا مادة وروح، بل روح الى مادة على نحو ما هو المكان الى الزمن. فالمادة والروح ان هما إلا "حبْك وشائج"، بحسب تعبير باشلار، وان هما إلا الطاقة مجتمع قوى. وإذاً فليس في المادة الروح إلا طاقة وحيدة ذات هيئتين. اما الهيئة الاولى، الطاقة التي تمس قطب الدائرة، طاقة العالم الخارجي، فإنها مادة وكمية. وهي تصل ما بين الجُزَيئات التي تؤلف المادة وصلاً جماعياً. وأما الهيئة الثانية، الطاقة المنعطفة، طاقة العالم الداخلي، فإنها نفسانية ونوعية. انها قوة تجتذب الجُزَيئات الى قطب الدائرة، وتنظم اشتراكها، قطباً الى قطب، في داخل الجُسَيم المتناهي الصغر، إذ تنمي اسباب هذا الاشتراك وتزيدها تداخلاً وتركيباً. اما والطاقة قوة، فلقد نشأ عنها ان الطاقة المنعطفة هي الطاقة الخلاقة، "النسيج الأول للأشياء"، لأن الطاقة التي تمس قطباً ما، ليست إلا نتيجة رسوب "سببته تفاعلات اقطاب الوعي الابتدائية، وهي تفاعلات لا تدرَك عند ما قَبْل الموجود الحي، لكنها تدرَك ادراكاً يتضح لاختبارنا بعد ان تكون المادة قد اصبحت على كفاية انتظام" 2. فنجم عن ذلك انه، في ما هو قبل الموجود الحي، تبقى النظم الفيزيائية والكيماوية صالحة مع التقييدات التي حددناها في ما سلف ذكره، على حين كلما صعدنا من النبات الى الحيوان، ومن هذا الى الانسان، ارتقت القوة النفسانية ارتقاء وعي، فصنعت ذاتها وعبرت عنها في الحرية. أن "يصنع الانسان ذاته" فهو ان يحققها، لكنه تحقيق ذات يتعدى الرخاء المادي الى الازدياد في الكينونة الروحية. ان يحقق الانسان ذاته فهو ان ينمي عنصرَي الروح المتممين للروح وهما القلب والعقل: منطق الحدس ومنطق الاستدلال.
*
ولو حاولت ان ابرهن ان الزنوجة بما لها في طبيعة الكائنات وبما لها في اخلاقياتها وجمالياتها، تلبي حاجة للثقافة الانسانية المعاصرة تلبية هي على الوجه الذي أعده الفلاسفة والعلماء الأوروبيون مذ نهاية القرن التاسع عشر وعلى الوجه الذي أبداه تيلار دو شاردان وكتاب منتصف القرن العشرين وفنانوه - لو حاولت ان ابرهن ذلك، لاقتصرت على الإسهاب في بعض المناقضات.
فلننظر، اول كل شيء، في علم الكائنات الزنجية الافريقية. ومهما أولغنا في ماضيات العصور، من شمالي السودان الى جنوبي بانطو في افريقيا الاستوائية، فإن الزنجي الأفريقي يعرض لنا، أبداً وحيثما كان، مفهوماً للعالم يخالف الفلسفة الكلاسيكية التقليدية. فهذه الفلسفة هي، في جوهرها، غير متحركة، موضوعية، ثنائية مجزئة، وهي بالتالي مانويّة تجمع الخير والشر. ثم انها قد أسست على التفريق والمقاومة، وعلى التحليل والصراع. أما الزنجي الافريقي، فهو على نقيض ذلك، لأن فكره يتجه الى العالم في ما يجاوز تنوع العالم اشكالاً وألواناً، فينظر اليه على انه واقع حقيقة هي، في أساسها، متحركة ومؤلفة، ولكن ليس لها من مثيل. وان ذلك لخليق بالبيان والتفسير.
ان في لسان الولوف 3 ثلاث مفردات، على الأقل، للتعبير عن معنى روح 4، في حين لا بد من المجاز للتعبير عن لفظة مادة 5. ومما لا شك فيه ان الزنجي الافريقي يتأثر بعالم الخارجيات، وأنه يتأثر بمادة الكائنات وبمادة الأشياء. وهو، على الخصوص، أشد من الأوروبي الأبيض البشرة تأثراً بذلك جميعاً، وهو يحس بالأشياء على تنوع صفاتها المحسوسة - شكولها وألوانها وروائحها ووزنها الخ. فلا يعدّها سوى رموز ينبغي تفسيرها فيستطاع تخطيها والوصول الى واقع حقيقة الكائنات. والزنجي الافريقي مثل غيره بل فوق غيره تمييزاً للحصاة من الغرسة، وللغرسة من الحيوان، ولهذا من الانسان، إلا ان طوارئ الحدثان، التي فرقت، بين هذه العوالم الثلاثة، انما كان دأبها، مرة اخرى، ان تفصح عن تنوع وجوه في واقع للحقيقة مفرد. هذا الواقع الحقيقي فهو الكائن، على حسب دلالة هذه اللفظة في علم الكائنات ومعناها القوة. وإذاً فمادة الأوروبيين ان هي، عند الزنجي الافريقي، إلا نظام رموز يؤدي حقيقة الكون الوحيدة: الكائن الذي هو روح والذي هو قوة. وهكذا يلوح لنا الكون بأسره وكأنه شيء على منتهى الأصغر، ويلوح لنا، في الوقت عينه، وكأنه شيء على منتهى الأكبر، وكأنما هو مجتمع القوى التي تنبثق من الله وتفضي الى الله، قوة القوى. فإنه، سبحانه، هو الذي يجدد قوة سائر الكائنات وسائر القوى، او هو الذي يلاشيها.
علم الكائنات المعاصر لسنا بعيدين عنه بقدر ما قد يُظَن. فإن علماء الاتنولوجيا والعلماء المعنيين بشؤون افريقيا من غير الافريقيين والفنانين الأوروبيين يستعملون جميعاً الألفاظ أنفسها والتعبيرات أنفسها ليحددوا الكون في واقع حقيقته الكبرى التي يبتغون معرفتها وتأديتها، وذلك كأن يقولوا: "نسج عنكبوت"، و"مجتمع قوى" و"أوعية متواصلة"، و"نظام القنوات" الخ. حتى اننا لسنا في نأي عن اهل العلم من علماء الفيزياء والكيمياء. فعلم الكائنات الافريقية ليس عنده، هو ايضاً، مادةٌ موات: فكل كائن، كل شيء، ولو حبة الرمل، تشع منه قوة: تشع منه موجة جُزَيئات يستخدمها الحكماء والكهنة والملوك والأطباء والفنانون إرادة ان يساعدوا على اكتمال الكون.
ذلك بأن الزنجي الافريقي، خلافاً للرأي الشائع، لا يقف حيال نظام العالم، ولا حيال فوضى العالم، موقف سلب. فموقفه هو، أساساً، موقف اخلاقي. وإذا كانت اخلاقيات الزنجي الافريقي قد ظلت مجهولة دهراً، فلأنها، طبعاً، تنبثق من كيف يفهم الزنجي العالم: أي أنها تنبثق من علم الكائنات انبثاقاً فطرياً الى حد ان علم الكائنات هذا وعلم الاخلاقيات المختصين بالزنجي الافريقي قد كانا مجهولين، بل هما قد أنكرا اذا لم يُعَد النظر فيهما جيلاً بعد جيل.
لكن الله تعالى أراد ان يغير ما كان راكداً شبه موات. فنطق بالكلمة مديدة، منسجمة، موقعة الأنفاس، فإذا كل ما كان بالقوة والاقتدار، واذا تلك الممكنات كلها، التي أفصح الله عنها، قد وُجدت، واذا رسالتها هي أن تحيا: ان تعبر عن الله، وبدورها توجّه صوب الله نظام القوى التي انبثقت من الله.
ولا بد لي من الرجوع الى الوراء فأكون أوفى شرحاً لهذه الأخلاقية الزنجية التي هي في طور العمل، فإن كل قوة من قوى الكون المعروفة - من حبة الرمل الى السلف - هي برأسها مجتمع قوى، كما يثبت لنا ذلك علم الفيزياء الكيماوية الحديث: مجتمع قوى متناقضة ظاهراً، بيد أنها متكاملة واقعاً وحقيقة. وهكذا، فلا ريب ان الانسان الشخص هو، في نظر الزنجي الافريقي، مؤلف من مادة وروح، من جسد ونفس، لكن الانسان هو، في الوقت عينه، عنصر ذكر وعنصر انثى، حتى إنه يحتوي على عدة أرواح. وإذاً، فالانسان الشخص هو نسيج قوى غير مستقرة تتلاقى في كثير من الاتجاهات وتحاول ان تحْبك بينها أسباب تواصل وارتباط. والزنجي الافريقي، موجوداً فهو بدأة ونهاية في شأن معاً: نهاية العوالم الثلاثة: عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان، لكنه بدأة عالم الانسان. فلندع، الآن، العوالم الثلاثة الأولى، ولننظر الى ناحية عالم الانسان. ففوق الانسان الشخص، المؤسس على ذاته، يمتد ذلك العالم الرابع فيستوي الى دوائر مشتركة الأقطاب لا تنفك على ازدياد اتساعاً وتعالياً حتى تبلغ الله مع الكون بأجمعه. فإن كل دائرة، من الأسرة والقرية والاقليم الى الأمة والبشرية - إنما هي، على صورة الانسان الشخص وعلى رسالته، مجتمع متضامن الأعضاء.
والآن، فإن الحياة على هدي الاخلاقيات هي، عند الزنجي الافريقي، ان يحيا وفقاً لطبيعته وقد عاش بعناصر متناقضة، لكنها عناصر متكاملة القوى. والحياة هي أن يحْبك الزنجي الافريقي نسيج الكون، وان يوطد خيوط الوجود. والحياة انما هي في ذاته أولاً، انها في صميم الانسان الشخص، ولكن هي، الى ذلك، ان كل مجتمع انساني يجاوز متناقضات العصر من أجل العمل على إكمال القوى. وهكذا، فإن الانسان حين يكمل هذه العناصر، وفقاً لتكاملها المتبادل، يوطد القوى في انتظامها صوب الله. والانسان، حين يوطدها، يوطد ذاته، أي أنه ينتقل من الوجود الى الكينونة، ولا أقول، على وجه التدقيق، انه ينتقل الى الكائن. فإنما الله هو وحده الكائن، وانما هو كذلك ملء الخليقة حتى ان الموجودين يكتملون اذ يعبرون عن ذواتهم فيه.
وكثيراً ما جعل علماء الكائنات يمتدحون وحدة الحضارة الافريقية واتزانها وانسجامها، وذلك في المجتمع الزنجي المشتركي الشخصاني حيث كانت الجماعة تسود الفرد من غير أن تسحقه، لأن هذه الوحدة مؤسسة على الحوار وعلى تبادل الخدمات، ولأن الفرد ينمو في شخصه. ولقد وددت لو أؤكد مبلغ ما كانت مزايا الزنوجة هذه تمكِّن الفرد من الاندماج في الثقافة الانسانية المعاصرة التي تتيح لافريقيا السوداء ان تشارك في حضارة الكون، الحضارة التي تفرض نفسها على العالم الممزق. لكن هذا العالم، في النصف الثاني من قرننا العشرين، قد اتصال بعضه ببعض. ثم ان هذه الحضارة الكونية تفرض نفسها على التعاون الدولي الذي ينبغي أن يكون، والذي يكون في المستقبل حجر الزاوية لهذه الحضارة. ولقد أزالت الاستعمار، في جنوبي الصحراء الكبرى، فضائل الزنوجة هذه من دون سفك دم غزير ولا توغر حقد شديد، فنشأ تعاون ايجابي أسس على "الحوار وعلى تبادل الخدمات" بين المستعمرين السابقين والمستعمَرين السابقين، وهب على الأمم المتحدة روح جديد لم يبق فيه قول "لا" ولا بقي لَكْمُ المنضدة علامة قوة قط. فبهذه الفضائل ربما امتد التعاون الى جنوبي افريقيا وروديسيا والى مستعمرات البرتغال، اذا شاء روح الأوروبيين البيض، وهو الذي يجمع الخير والشر، أن ينفتح على الحوار.
والحق ان مشاركة الزنوجة في حضارة الكون ليست بنت يومها. وإنما هي، في حقل الآداب والفنون، قد عاصرت ثورة السنة 1889. وكان ارتور رامبو، منذ تلك الأيام، قد انتسب الى الزنوجة. على اني لا أريد أن أذكر، ههنا، غير "الثورة الزنجية"، والتسمية هي ل"أمانويل برل"، هذه الثورة التي انبرت، في أوائل هذا القرن، تساعد على زعزعة الفن الشكلي التصويري الأوروبي.
والفن، كالأدب، هو، على الدوام، التعبير عن وجه لفهم العالم والحياة، عن وجه فلسفة. والفن هو، أولاً، التعبير عن وجه لعلم الكائنات. فالحركة الفلسفية والحركة العلمية للسنة 1889 لم يقابلهما تطور أدبي فحسب - الرمزية والسريالية - وانما قابلتهما، أيضاً، ثورة بل ثورات فنية دعيت "النابية" Nabisme و"التعبيرية" Expressionnisme و"الفوفية" Fauvisme و"التكعيبية" Cubisme. فحل عالم قوى متقدة غير مستقرة قد وجب ترويضها محل عالم مغلق لا تنفك مواده هي اياها على مر السنين.
فالفن الغربي الأوروبي، منذ الرسوم التي تمثل الجماليات الجسدية عند فتيان الاغريق الأقدمين، وتدعى الKouroi، قد بني أبداً على الواقعية. وكان الصنيع الفني تقليداً للموضوع في كل حال، تقليداً للطبيعة على حسب تعبير أرسطو. هذا الفن تقليد منقّح، "مجمَّل"، "مثالي" بحكم الحاجة الى الشأن العقلي، لكنه، مع ذلك، تقليد. فكانت فترة القرون الوسطى المسيحية ذات دلالة بقدر ما كانت المسيحية ذات منشأ آسيوي أثر فيه القديس اوغسطينوس الافريقي تأثيراً عظيماً. أما عند الفنانين الأوروبيين، اما عند كاندينسكي مثلاً، فإن الفن "يبدأ حيث تنتهي الطبيعة". وإذاً، فعمَّ يعبر الفنان؟ لن يعبِّر، بعد اليوم، عن المادة الموضوع، بل عن الروح الذات يعبر، أي عن صميم ذاته، عن روحانيته، ومن هنا، فهو يعبر عن روحانية عصره. والفن، في ذلك، لا يعمد، من بعد اليوم، الى وسائل تصوير الأشياء كما تراها العين، ولا الى المثال المجهز والوضوح الغامض، بل هو سيعمد الى "أكثر ما بعمل الغريزة والحس من إبهام"6، كما قال بازين. أما ماسون، فقد أوضح ذلك، قال: "ان الفنان سيعمد الى صنيعه يعالجه بائتلاف شكول وألوان، جلي التنظيم، بسيط"7. فتجانس الشكول والألوان، هذا، هو التجانس الذي تقدمت لنا مواجهته، انه تجانس القوى الحيوية، ويمثله، على الخصوص، رسام ك"سولاج".
"تجانس القوى الحيوية"، ها نحن أولاء قد عدنا الى الزنوجة. فإن "الجمالية الزنجية الافريقية هي، كما كان سولاج يقول، جمالية الفن المعاصر". وعندي على ذلك برهان غير مباشر، فإذا كانت الثورة الجمالية الجديدة قد كرست في فرنسا وانتشرت، فإن أغلب روادها هم من السلافيين والجرمانيين الذين انتسبوا الى حضارات الشعور المتصوف، وشأنهم في ذلك شأن الزنوج الافريقيين. أكيد انه لو لم يُكتشف الفن الزنجي، لكانت هذه الثورة قد شبت، ولكن لا ريب أنها ما كانت قد أصبحت على ما أصبحت فيه من منعة وثقة وتعميق للانسان. فأن يكون فن الذات والروح قد نمت بذوره في خارج افريقيا وعند الزنوج الافريقيين الذين لم يكن علماء الاتنولوجيا بعد قد أعادوا اليهم حسن الاعتبار، فإنما ذلك برهان على ما للرسالة الجديدة من قيم انسانية.
ثم ان ما كان أوائل رواد الفن الزنجي يطلبونه في ما وراء الدرس الجمالي - وسنعود الى ذلك - فإنما هو، بادئ بدء، "القيم الانسانية" لهذا الدرس، ولا سيما رؤيته للعالم وللحياة رؤية موحِّدة. وكانت الحياة قد أدت، منذ ألوف السنين، الى نظرة التوحيد على مستوى الالهيات. لأن الفن في افريقيا ليس بنشاط منفصل عن غيره، منعزل في ذاته أو لذاته. إنما هو نشاط اجتماعي وصناعة حياة: ومجمل القول انه شأن احتراف. لكن المسألة، ههنا، مدارها على نشاط اساسي يكمل ما سواه، فهو كمثل الصلاة في القرون الوسطى المسيحية: انه يكمل الولادة والتنشئة والزواج والموت والرياضة البدنية، حتى انه يكمل الحرب. فالمسألة مدارها على أن كل نواحي النشاط الانساني - حتى أيسر شغل يومي - تُضم في مجرى ائتلاف القوى الحيوية: قوى الأسرة والعشيرة والوطن والعالم والكون. والمسألة مدارها ان يساعَد هذا العمل المؤتلف الأركان فيعمَد الى القوى السفلية - قوى الجماد والنبات والحيوان - فتُخضَع لفعل انسجام الانسان الموجود، ويعمَد لقوى المجتمع البشري فتُخضَع لفعل انسجام الكائن الإلهي، ويُتوسل الى ذلك بتراثيات الأسلاف.
شهدت، في السنة الماضية، وأنا على مرتفعات صخور باندياغارا في جمهورية "مالي"، عيداً هو صورة للفن "الدوغوني" مصغرة. ولئن كان هذا المشهد الموسيقي انعكاساً شاحباً لإشراق الروائع القديمة، فإنه أول تعبير عن الرؤية الدوغونية للكون. كان المشهد عيداً لإلقاء الشعر والانشاد، مع خطو موقع ورقص، وألبسة تنكر، ورسوم ومنحوتات، فبات العالم الدوغوني بأسره ماثلاً في اشتراك رموز الفنون، كما هي عليه العادة في افريقيا السوداء. فالكون - سماءً وأرَضِين قد مُثل، إذاً، هناك. مُثّل على يد الانسان الذي بدت رموزه المعبرة عن فكره وقد اختلطت هي والرموز المعبرة عن الكون. ثم مثّلت العامل اقنعةً كل واحد منها كان، في وقت معاً، قد جسم حيواناً يرمز الى الجدود وجسَّم سلفاً من الأسلاف وبعض الجنيات وغير ذلك مما يصور الشعوب الغريبة: رُحَّل غربي افريقيا "البولز" والأوروبيين البيض. اما غرض العيد من اشتراك رموز الفن - القصيدة والنشيد والرقص والنحت والرسم، وقد استخدمت على أنها وسائل للاندماج في العالم والانضمام اليه - أما غرض العيد، فهو اعادة خلق الكون والعالم المعاصر، ولكن بصورة أوفى انسجاماً تعمد الى الدعابة والهزل وخفة الروح الزنجية التي تقوِّم الاعوجاج تلقي أوزاره على مهاجري غربي افريقيا والمحتلين البيض. الا ان هذه الرؤية، ومرجعها الى علم الكائنات، هي عيد، أي انها، في الوقت نفسه، تظاهرة فنية: فهي مبهجة للنفس لأنها مبهجة للعين والسمع جميعاً، وهي اعادة خلق لأنها تسلية.
وربما كان هذا الوجه الأخير من درس الجماليات، بل المؤكد ان هذا الوجه هو الذي سحر بيكاسو وبراك يوم اكتشفا، في قناع افريقي، الفن الزنجي فاستلهماه. ثم ان اول ما لفت انتباهي، أنا أيضاً، من مشهد ذلك العيد قبلما حاولت أن أدرك معناه، قد كان انسجام الشكول والحركات والألوان والايقاعات التي ميزته. فإن هذا الانسجام، الذي أثر فيَّ أنا المشاهد، كان هو الانسجام الذي، لما أعاد خلق واقع الحقيقة، أثر في القوى غير المنظورة التي ظاهرها الرموز فقصَدَ ان يخضع بعضاً منها لبعض وأن ينتظمها جميعاً في سبيل الله على يد الانسان. وأعني بالظواهر خصائص المادة التي تؤثر في حواسنا، أعني بها الشكول والألوان والأنغام والنبرات والحركات وضروب الايقاع. قلت ان هذه الظواهر رموز. لكنها فوق ذلك: انها رموز ذات دلالة، انها "مواطن قوة" القوى الحيوية، وذلك بقدر ما تُستعمل وهي في طورها الخام إذ لا صفة لها إلا الشكل واللون والنغم والحركات والايقاع. ثم ان السيد لودس، الأستاذ في المدرسة الوطنية لفنون السنغال، قد أراني، في الشهر الفائت، اللوحات التي أراد تلاميذه عرضها في المهرجان العالمي الأول للفنون الزنجية. فلفت انتباهي، بادئ بدء، انسجام الشكول فيها والألوان انسجاماً بعيد الأصالة، جم الرشاقة. فلما رأيت ان اللوحات ليست على تمام الطريقة التجريدية، وانها تصور سيدات، وأمراء، وحيوانات كريمة العرق، كدت تغلب عليّ الخيبة ولكن في غير طائل. فإن انسجام الشكول الملونة هو وحده الذي أعاد الى الاتقان الأصالة الرشيقة التي تميز فن السودان الشمالي.
ذلك هو، إذاً، الدرس الجمالي، الذي عنيت. فما الفن ان تلتقط صورة الطبيعة، بل هو أن تروض الطبيعة، فعْل الصياد يقلد صوت الحيوان إذ يجدّ في إثره، وفعْل الزوجين المفترقين، أو الألفين المتحابين ينشدان التلاقي في ثانية ويبغيان الاتحاد. ان النداء ليس مجرد نقل لصياح الآخر، بل هو نداء يكمله، هو نشيد: هو نداء الانسجام الى انسجام الاتحاد الذي يغني إذ يزيد الانسان كينونة. نقول: الانسجام الخالص. فالدرس الزنجي - ولنقل ذلك مرة أخرى - هو أن الفن ليس تصويراً شمسياً، وانه اذا كان الفن صورة، فإنما هو صور موقعة. فإن في مكنتي ان أوحي وأبدع أي شيء كان - في مكنتي أن أوحي وأبدع انساناً، أو قمراً، أو ثمراً، أو بسمة، أو عبرة من العبرات - وذلك بمجرد أن أجمع بعض الأشكال والألوان رسماً ونحتاً، وبمجرد أن أجمع الشكول والحركات رقصاً، وبمجرد أن أجمع بعض الأصوات والنغمات لحناً وموسيقى، بشرط ألا يغدو الجمع رصفاً، بل فعل انتظام. وفحوى القول هو أن يكون الجمع موقَّعاً. فالايقاع انما هو، على وجه التخصيص، رأس فضائل الزنوجة، انه الفضيلة التي تنفح صنيع الفن بالجمال. وما الايقاع الا حركة الاجتذاب هذه، او حركة التنفير والتكريه - الحركة التي تعبر عن حياة القوى الكونية: والايقاع انما هو التوازن واختلال التوازن، التكرار والتضارب. ومجمل القول ان الايقاع هو مواطن القوة التي بها تنتظم الرموز ذات الدلالة، الرموز التي هي الشكول والألوان والنغمات والنبرات.
وأود قبل الختام، أن أتوقف عند هذا الذي يلاحظ من ظاهر تناقض بين الفن الأوروبي المعاصر الذي يشدد على الذات، والفن الزنجي الذي يشدد على الموضوع. ذلك ان ثورة 1889 كان لا بد لها أن تبدأ على انها ردة فعل على وثنية الموضوع، وذلك ان علم الكائنات الوجودي للزنجي الافريقي، ان كان قد أسس على الذات الموجودة، فإنما الله قطب موضوعه، الله الذي هو اكتمال الكائن. فليس في الأمر، اذاً، الا قصد واحد متغاير السبل والألوان. ويبقى ان الصنيع الفني هو، عند الأوروبي المعاصر وعند الزنجي الافريقي، تعبير عن معارضة الذات بالموضوع وعن ضمهما جميعاً، فهذا الصنيع هو كمثل فعل المعرفة. انه - كما كتب بازين - "صنيع يعبر عن هذا الفهم، وهذا النفاذ، وهذا التكوين المشترك العظيم، وعن هذا الشبه العميق ما بين الانسان والعالم، عن هذا الشبه الذي لولاه لم يكن من شكل حياة" 8.
ولقد رأيناه ما هو، في نظر الزنجي الافريقي، "عمق تشابه الانسان والعالم". وإذاً، فإن اعادة تنظيم العالم بإعادة خلقه بالفن هي، عند الزنجي الافريقي، ان يوطد القوى الحيوية في الكون، وبالتالي ان يوطد قوة القوى أي الله، أو بتعبير آخر، أن يوطد كائن الكون. وبذلك يوطد الزنجي الافريقي نفسه قوة متضامنة وانساناً موجوداً قوام كيانه ان يعمد الى قواه الحيوية فيجددها بإعادة خلق الفن.
*
فأن تكون الزُنوجة ثقافة انسانية للقرن العشرين، فها هو ذا دليل عليها أخير اقامه ترحيب العالم بأول مهرجان عالمي للفنون الزنجية، المهرجان الذي نظم في دكار بين الأول من نيسان ابريل 1966 والرابع والعشرين منه. فاشتركت فيه كبريات أمم اوروبا واميركا اذ أرسلت بآثار من مجموعاتها، أو أوفدت فنانين زنوجاً كما فعلت الولايات المتحدة الاميركية والبرازيل. أما الأمر الذي له، ههنا، دلالته، فهو ان الدول العربية، التي من افريقيا، قد كانت ماثلة في مهرجان دكار.
وآية ذلك كله ان الحضارة الكونية تدرك ان الشأن يعنيها وهي التي ما تزال، منذ أوائل هذا القرن، تصنع نفسها على مراحل بطيئة وتبني نفسها على أنقاض الأحقاد العنصرية وعلى أنقاض تحارب القارات. واذا كان الشأن يعنيها، فلأن لذلك سبباً، ولأن كثيراً من خصائصها، التي تبرز في هذه الأيام، ما كانت لتمسي على ما هي عليه لولا ان لها في تلك الحضارة مشاركات عطاء خصيب.
وعلى كل حال، فإن زنوجة القرن العشرين، أو الزنجي الجديد - وأنا أستعير، ههنا، تعبير صديقي جاهن - انما تريد أن تشارك في الحضارة الكونية، حضارة القرن العشرين، مشاركة مضاعفة فتحمل، من جهة، غنى فلسفتها وأدبها وفنها التقليدي، وتدل، من جهة ثانية، على ما كان فنها، منذ عصر النهضة، قد اقتبس عن الحضارات الاخرى ولا سيما عن حضارة اوروبا وحضارة العرب والبربر. ذلك هو، على الأخص، غرض المهرجان العالمي الأول للفنون الزنجية: انه التعبير عن ثقافة انسانية للقرن العشرين.
الحواشي
1 - منشورات غاليمار مترجم عن الألمانية الصفحة 15.
2 - مؤلفات بيار تيلار دوشاردان منشورات "لوسوي"، الجزء الثاني، الصفحة 363.
3 - الولوف Wolof، لغة السنغال الأساسية.
4 - كسيل، ساغو أو دغاي Xele, Sago ou Degai.
5 - لف، أي شيء Lef، أو يرام، أي جسم Yaram.
6 - هذا القول استشهد به جان بوريه Jean Bauret في "الفن التجريدي" منشورات النادي الفرنسي للكتاب 1957.
7 - المصدر نفسه.
8 - هذا القول ذكره جان بوريه، المصدر نفسه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.