من المفارقة أن تأتي الذكرى المئوية لانشاء "جائزة نوبل" القائمة على مبدأ العلم في خدمة السلم، في الوقت الذي تخوض الولاياتالمتحدة أول حرب في القرن الحادي والعشرين. ويكمن بعض المفارقة في ان الولاياتالمتحدة هي المركز الاول للعلم في العالم المعاصر، اذ بمراجعة تاريخ جوائز نوبل نلاحظ ان المراكز العلمية الاميركية حصدت الحصة الأكبر منها. ولعل ذلك يدفع الى التفكير في المدى الذي خدمت فيه الجائزة قضية السلام في العالم. مع انطلاق الجائزة، كانت جامعة الامبراطورية النمسوية لا تزال في أوج تألقها، ونال علماء مثل ماكس يلانك وايرفنغ شرودنغر وآرثر هايزنبرغ الجائزة عن ابداعات غيّرت نظرة البشرية الى الكون. لكن هل اسهمت أعمال هذه الكوكبة المتألقة من علماء الفيزياء، وهم مؤسسو علم لم يكن موجوداً قبلهم هو "فيزياء الكم" QUANTUM PHYSICS، في خدمة السلام؟ الأرجح لا، بل لا كبيرة أيضاً، ليس فقط لأن أعمالهم مهدت الطريق لظهور السلاح الذري، بل لأن هايزنبرغ كان مؤيداً للنازية، وقاد المشروع الذري للنظام النازي في المانيا الهتلرية. وعلى الضفة المقابلة من جبهتي الحرب العالمية الثانية، وقف نيلز بور وألبرت اينشتاين وأنريكو فيرمي، الذين جمع بينهم اختراع السلاح الذري ونيلهم جائزة نوبل عن أعمال علمية تستحيل صناعة القنبلة الذرية من دونها! ومن المفيد ذكر ما هو معروف من علاقة عالم الفيزياء نيلز بور مع "وكالة الاستخبارات الاميركية"، وقد نال جائزة نوبل عن نموذج الذرة الذي وضعه بالمشاركة مع اينشتاين. ويؤثر عن فيرمي واينشتاين، حماستهما للسلام، لكن ذلك لم يمنع الأخير من كتابة رسالة ذاع صيتها الى الرئيس الاميركي ثيودور روزفلت يحثه فيها على الاسراع بتصنيع السلاح الذري. وعلت أصوات معظم صانعي القنبلة، ليس كلهم على أية حال، بالاحتجاج على مجزرتي هيروشيما وناكازاكي، ولعلهم كانوا في موقفهم ذلك أقرب الى موقف الطبيب فرانكشتاين الذي صنع الوحش ودان أفعاله، متناسياً أنه هو من صنع ذلك الموقف المعقد كله. وفي هذا التعقيد تبرز أسئلة من نوع لماذا سار العلم في هذا المسار، وأي علاقة تربطه مع الاجتماع ليصل الى هذا المأزق؟ وفي هذا التساؤل محاولة لتجاوز التبسيط المبتور الذي يرد الشر الى "سوء استخدام العلم". توزعت جائزة علم السلام اذاً على ضفتي الحرب العالمية الثانية، وهو مشهد كررته الحرب الباردة أيضاً، بما في ذلك حماسة أندريه سخاروف، مخترع قنبلة الهيدروجين في الاتحاد السوفياتي، الى قضية السلام . وثمة ملمح آخر يبرزه تاريخ الجائزة، وهو تزايد ميل العلم الى الاشتغال تماماً على مستوى التقنية المحضة. ولربما بدا ذلك تتمة منطقية لانفصال العلم من الفلسفة، وهو مسار استمر قروناً وخدم تقدم العلوم بقوة. وأحياناً يبدو هذا القول على شيء من التسرع أو الجور، وذلك جزء من الانطباع الذي تتركه مطالعة أسماء حائزي جائزة نوبل للسلام، وفيهم من ترك أثراً في فكر البشر، مثل القس الاميركي مارتن لوثر كينغ والفيلسوف البريطاني برتراند راسل. والطريف أن راسل لم ينل جائزة نوبل في العلوم، ربما لأنه لا توجد أصلاً جائزة مخصصة لعلم الرياضيات الذي تخصص فيه. وفي الجزء الآخر من الانطباع عن انفصال العلم عن الفلسفة، قراءة ردود الفعل الاولى للمجتمع العلمي على غارة الارهاب، خصوصاً في أميركا. ونشرت مجلة "نايتشر" العلمية مقالاً أوردت فيه نماذج من تلك الردود، وفيما عدا الادانة والموقف الانساني من ضحايا الغارة، بدت أصوات نخبة العلم مشغولة بدوائر الهموم المباشرة والضيقة، والى حد يصعب تجاهل مدى بعده من ضخامة الحدث الذي هز شعوب العالم. وتناول أخرون الحدث الجلل من زاوية التذكير بالتقنيات المرتبطة بتعزيز قدرات الأمن، مثل تقنية التعرف الى الوجوه، وأستخدام المقياسات البيولوجية BIOMETRIC MEASUREMENTS في قراءة الأيدي في المطارات وما الى ذلك. فأبدى روبرت غولد ستون، مدير مختبر الفيزياء في جامعة برنستون، خشيته من أن يميل العلماء الى الاقلال من السفر، لأن سفرهم جزء من تبادل الخبرات العلمية. وعبر روبرت اينشتاين، وهو من مديري الوكالة الوطينة الاميركية للعلوم، عن قلقه من أن تؤدي الضربة الى زيادة الانفاق على الأعمال العسكرية والاقلال من الانفاق على مشاريع العلم. فهل تدفع هذه الاقوال الى الاطمئنان الى علاقة العلم مع السلام في العالم؟ مجرد سؤال. [email protected]