مع أن أفلاطون قال منذ قرون ان عليك ان تعلم تلاميذك أن يتعلموا، ومع ان أمامنا غرباً متفوقاً اعتمد أساليب تعليمية، وان تعددت واختلفت فإنها تقوم جميعاً على قاعدة تدريب المتعلمين على أن يتعلموا. تلك قاعدة في غاية الأهمية، إذ يجب أن يقوم التعليم في أي مجال وفي كل مراحله على تنمية عقل المتعلم ليصبح قادراً على تحصيل وتحليل وتركيب الأفكار والمعلومات. لكن ما نفعله وفي كل مستويات الدراسة عندنا هو تلقين المتعلمين بتزويدهم المعلومات سابقة التجهيز من دون تدريبهم على المناقشة والتحليل بإعمال الفكر، ومن دون تعويدهم على البحث لتحصيل المعلومات والتعامل مع كل ما يحصلونه بعقل انتقادي يفحص ويحلل ويقبل ويرفض. هكذا أدت وتؤدي فلسفة التعليم لدينا الى انتاج متعلمين يحجمون عن التفكير، ونحن لا نزال نواصل تخريجهم من معاهدنا وجامعاتنا وكأن النجاح أو التفوق ليس إلا إنجازاً تحصيلياً. هذه مقدمة للدخول في الحديث عن مسألة التعليم واللغة الأجنبية، لأننا سنرى كيف يمتد مفعول فلسفة التلقين والاستظهار التي تسود نظمنا التعليمية الى مسألة تعليم اللغة الأجنبية والتعلم بواسطتها. والحق ان ما حفزني الى الكتابة كان ندوة عقدها عرب في بلد غير عربي حول تعليم اللغة الأجنبية والتعلم بها، إذ أدهشتني رؤية الأخوة المشاركين الى هذه المسألة المهمة. لقد تحدث معظمهم بروح الخصومة للغة الأجنبية كأن في الاعتماد عليها للتعليم تعريض للهوية القومية والعقيدة الاسلامية للأخطار، داعياً الى الاكتفاء بقدر محدود من لغة أجنبية والتركيز على تعليم العربية بكثافة وغزارة وقوفاً في وجه غزو ثقافي غربي وعولمة تهدد الهوية والمقدسات. وجرى الحديث في الندوة المذكورة عن ضرورة تعريب التعليم الجامعي وضرورة تدريس جميع العلوم من انسانية وتطبيقية باللغة العربية. ولم تفت الاخوة الاشارة الى أننا نملك تراثاً علمياً ضخماً كان الأساس الذي بنى عليه الغربيون حضارتهم. والواقع ان المرء ليتمنى رؤية ذلك اليوم الذي نتعرض فيه لمشكلاتنا بعقل مفتوح يحلل وينتقي ويبحث عن الحلول، فمن الندوة لم أسمع إلاّ المواقف المسبقة. فاللغة الأجنبية تهدد العربية وانجازات التراث العربي تكفينا عن الاهتمام بانجازات حضارة العصر الغربية، أوَلسنا نحن الذين قدمنا لها الأسس التي قامت عليها؟؟ كانت الندوة في غالبها مرافعة. ولعل هذا هو الأسلوب السائد في تناولنا لمعظم قضايانا. استهجن البعض تعليم اللغة الأجنبية في مراحل التعليم الأولية خوفاً من تأثيرها على هوية التلاميذ وربما على عقيدتهم مع ان ليس بين اللغة والعقيدة من صلة بدليل وجود مسلمين اتقياء وفضلاء وايجابيين لا يعرفون الا قليلاً من اللغة العربية. بل ان اتقان اللغة الأجنبية عامل في توسيع مدارك من يضيفها الى العربية. فتعلمها يفتح نافذة يطل منها على عالم جديد، وبالطبع فإن الانسان الواسع المدارك أفضل إيماناً وقدرة على الانجاز. وما العودة الى التخويف من أثر اللغة الأجنبية على العقيدة الا اقتداء بأقوال الذين كانوا يرفضونها بدعوى الخشية على القومية. وإذا كان تعلم اللغة الأجنبية عامل توسيع لمدارك العقل فهو أيضاً أمر ضروري للاطلاع على منجزات البشر الحضارية التي هي ضمن صرح الحضارة الغربية المكتوب بلغات أجنبية عن تراثنا وأحوالنا وهو أكثر مما نتخيل وجوده بالعربية. بل ان معظم ما نفخر به من كتب التراث كشفها وحققها وطبعها لنا الأجانب. وهم الذين كانوا أول من باشر طباعة القرآن الكريم لدرجة أن لا يجد من يرغب اليوم في مواصلة البحث في أي علم من العلوم حتى تلك التي تخصنا موضوعاتها إلا في ما هو مكتوب بإحدى اللغات الأجنبية السائدة، ولعلنا لا نتخيل كمّ الانجازات العلمية المتراكم بلغات المتقدمين. لقد كانت لي هواية تربية النحل فطلبت الى صديق عربي يقيم في الولاياتالمتحدة أن يبعث لي بمجلة متخصصة في ذلك الأمر، فما كان منه إلا أن اتصل بمكتبة أرسلت اليَّ قائمة بأكثر من ثلاثين مجلة دورية. ومرة كنت في زيارة الى مكتبة في باريس فعثرت بالصدفة في قوائم الكتب على كمٍّ هائلٍ منها يخص السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنه وعنها. علينا عندما نسلم بأن حصيلة العلم اليوم تحتويها لغات أجنبية أن نقرر تعليم لغة أجنبية واحدة على الأقل من بين اللغات السائدة بكثافة وفي أولى مراحل التعليم. ثم ان اللغة أية لغة ليست مجرد كلمات، فإتقانها يضيف أسلوباً جديداً الى التفكير. فمن يتعلم لغة اجنبية لدرجة الاتقان يكتشف انه يفكر بها وان الفكرة تخطر له بها وبلغته، وعليه فإن تعلم اللغة الأجنبية يجب ان يكون من أجل اتقانها وليس لمجرد الاقتراب منها. وكما ذكرنا فإن تعلم اللغة الأجنبية يزداد صعوبة مع تقدم العمر وعليه يحسن تقديمها باكراً. نحن بحاجة الى تعليم لغة أجنبية من اللغات الرئيسية والاقتراب من حضارة العصر. ومن الخطأ أن ندعي أن اليابانوالصين والمانيا وايطاليا تدرس العلوم في معاهدها وجامعاتها بلغاتها الوطنية محاولين أن نجعل من ذلك مبرراً للاقتصار على لغتنا العربية. فنحن نعرف أن اليابان نهضت على أساس من تعلّم اللغة الانكليزية وكذلك تفعل الصين. ولم تتكون لدى البلدين بعد، الحصيلة الكافية من العلوم بلغتيهما الوطنيتين. لعل أفضل نصيحة هي أن نعلم لغة أجنبية رئيسية وبكثافة منذ أولى مراحل التعليم، وان نقدم على اقتباس مناهج تدريسها. وعلينا عندما تساورنا المخاوف على الهوية والعقيدة أن نبذل الجهد اللازم لتعليم العربية وبمناهج عصرية، لا العزوف عن تعليم اللغة الأجنبية خوفاً على موروثات يجدر بنا الحفاظ على أكثرها، عزوف المسافر الظمآن عن الاقبال على جدول ماء خشية أن تبتل بردته. فالظمآن الحصيف هو من يقدم على عب الماء ثم يفكر في طريقة لتجفيف ملابسه. * كاتب ليبي، رئيس وزراء سابق.